الطب ومكانته في التشريع الإسلامي
28-04-2008, 07:43 PM
الطب ومكانته في التشريع الإسلامي

إنه لمن نافلة [القول] أن العلوم الكونية ومنها العلوم الطبية لا تدخل بشكل مباشر في مهمات الرسالات السماوية، فإنّ تطوير هذه العلوم وترقيتها متروك للجهد البشري وأبحاث العلماء، إلا أن الدين الحنيف حث على تعلّم العلوم الطبية بالتوجيه الرباني والإشراف النبوي حتى تستخدم لصالح الإنسانية.
وتعود أهمية الطب لحاجة الناس إليه، فهو الذي يحفظ البدن ويدفع عنه غوائل المرض وأنواع السقم، وفي هذا يقول الإمام الشافعي: «صنعتان لا غنى للناس عنهما: العلماء لأديانهم والأطباء لأبدانهم».
وليس غريباً أن يعنى الإسلام بأسس الصحة العامة، وسبل الوقاية من الأمراض بصورة عامة، ذلك أن المسلم إذا كان قوياً صحيح البنية، كان أقدر على القيام بالواجبات المترتبة عليه، سواء تجاه ربه، أو تجاه نفسه وأسرته ووطنه، وبكلمة أخرى كان أقدر على القيام بالمهمة التي أوكله الله بها من إعمار الأرض وجعله خليفة فيها. قال -تعالى-: {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} [هود:61].
ومن هنا كانت أمور الطب الوقائي ووضع أسس الحفاظ على الصحة العامة ووضع التشريعات للممارسة الطبية الصحيحة هي من واجبات الدولة من منظار شريعتنا الغراء. لا بل نزلت النصوص القرآنية المحكمة، والتي جاءت كقواعد صحية عامة، وكانت بمثابة مواد دستورية في هذا الشأن:
قال -تعالى-: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 195]، وقال -تعالى-: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً} [النساء: 29]، وقال -جل شأنه-: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} [البقرة: 222].
ثم جاءت النصوص النبوية لتوضح هذه القواعد علماً وتطبيقاً، ولتجعل من المحافظة على صحة البدن وقوته وحياته أمراً شرعياً: يقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: «إن لجسدك عليك حقاً»(1)، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف»(2).
وتدل النصوص النبوية أن الإسلام جعل للصحة والعافية المقام الأول بعد اليقين بالله.
يقول المصطفى –صلى الله عليه وسلم-: «سلوا الله المعافاة فما أوتي أحد بعد اليقين خيراً من المعافاة»(3)، ويقول –صلى الله عليه وسلم-: «سلوا الله العفو والعافية فما أوتي أحد بعد يقين خيراً من معافاة»(4)، وقال –صلى الله عليه وسلم-: «ما سئل الله شيئاً أحب من العافية»(5).
وقد روى الترمذي -بسند حسن- أن رجلاً قال: اللهم إني أسألك الصبر، فقال له النبي –صلى الله عليه وسلم-: «سألت الله البلاء فاسأله العافية»(6)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «يا أيها الناس إن الناس لم يعطوا في الدنيا خيراً من اليقين والمعافاة فسلوها الله -عز وجل-»(7)، وقال -عليه الصلاة والسلام-: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ»(8).
ويجعل علماء العقيدة من (حفظ النفس) المقصد الثاني من مقاصد الشريعة الإسلامية بعد حفظ الدين، وفي هذا يقول الإمام الباجوري في «متن جوهرة التوحيد»: «وحفظ دين، ثم نفس، مال نسب، ومثلها عقل وعرض، قد وجب»، ويؤكد هذا المعنى الإمام الشاطبي في «الموافقات».
«لشريعة وضعت المحافظة على الضرورات تتصل بوجوب المحافظة على صحة البدن، ألا وهي النفس والعرض والعقل.
وإذا كان الإسلام قد أوجب المحافظة على النفس والعقل، أو ليست هذه غاية الطب، يقول العز بن عبد السلام: «الطب كالشرع وضع لجلب مصالح.. وضع لجلب مصالح السلامة والعافية، ولدرء مفاسد الأعصاب والأسقام»، ويقول الإمام الشافعي: «لا أعلم علماً بعد الحلال والحرام أنبل من الطب»(9).
والإسلام دين الفطرة، وله السبق -نسبة للتشريعات الوضعية- في مجال الرعاية الصحية، وحفظ الصحة وما نلحظه بين فقرات كثيرة من التشريعات الإسلامية والتي نجدها مبثوثة في كتب والفقه، والآداب الإسلامية، وفي أمور الحلال والحرام، وحتى العبادات المحضة التي نؤديها طاعة لله -سبحانه وتعالى-: نجد حفظ الصحة في أس بنائها.
أَوَ ليس في طهارة الثوب والبدن والمكان المطلوبة قبل أداء الصلاة، وفي الوضوء خمس مرات يومياً، والغسل من الجنابة، والأغسال المسنونة نظافة رائعة في وقاية البدن من كثير من الأمراض.
ونحن لا نؤدي الصلاة (رياضة بدنية) -كما يحلو للبعض أن يقول- إننا نصلي تعبداً وخضوعاً وامتثالاً لأمر الخالق العظيم.
ولكن هل ينكر أحد أن أداء الصلاة بإتقان ركوعها وسجودها أمر يدرب عضلات الجسم ويمتع تيبس مفاصله، وهي آفات قلما تحصل عند المسلمين كما يؤكد ذلك كبار الأطباء.
والصوم، نؤديه تقرباً إلى الله طاعة وزلفى، ولكن ألم يثبت لعلماء الغرب أن الصوم الإسلامي صيانة (لمعامل البدن) شهر كل سنة، ينقي البدن من فضلاته وسمومه، ويصقل الأجهزة، ويعيد إليها (جدتها) وعملها الفيزيولوجي السوي.
أليست الدعوة إلى السواك في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «السواك مطهرة للفم مرضاة للرب»(10)، سبق صحي ليس له مثال، دعا إليه نبي الرحمة يوم كانت نبيلات روما يتمضمضن بالبول.
أليس عود الأراك مفخرة لأمتنا بين الأمم يوم لم يكن هناك فرشاة ولا معجون لتنظيف الأسنان، وهو بما فيه من مواد لكيماوية طبيعية صالح لأن يجمع خواص كل من المعجون والفرشاة على السواء.
وآداب الطعام والشراب في تشريعنا الإسلامي تلحظ صحة البدن والمحافظة عليه، ولها السبق في ذلك على كل ما أقره الطب الوقائي الحديث.
أليس في قوله تعالى: ] وكلوا واشربوا ولا تسرفوا[ [الأعراف:31].
وقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: «ما ملأ ابن آدم شراً من بطنه»(11)، وقاية للبدن من أمراض البدن؛ التخمة وويلاتها.
وقواعد الشرب وآدابه التي وصفها محمد -صلى الله عليه وسلم- للشاربين، من النهي عن الشرب واقفاً، والشرب على ثلاث(12) و...، لقد أكد الطب الحديث إعجازها، خاصة وقد أمر بها النبي الأمي –صلى الله عليه وسلم-، الذي لم يصل الطب في زمانه إلى كل هذه المعطيات.
وضع الإسلام قواعد صحية رائعة لتنظيم ساعات العمل والنوم ما تزال هي الأمثل بين كل التشريعات الوضعية، قال -تعالى-: {وجعلنا الليل لباساً *وجعلنا النهار معاشاً} [النبأ:10ـ11].
وقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «بورك لأمتي في بكورها»(13)، إذ تؤكد إحصاءات منظمة الصحة العالمية كثرة انتشار الأمراض بين فئة العاملين نهاراً. كما أكدت أن الإنتاج العضلي والفكري للإنسان في ساعات الصباح الباكر تفوق إنتاجه بقية ساعات النهار أو الليل نوعاً وكماً.
لقد أثبت الطب أن النوم على البطن يؤدي إلى تشوهات عضوية وآثار مرضية سيئة على البدن أليس في هذا توافقاً مع نهي النبي –صلى الله عليه وسلم- من النوم على البطن حين عدها «ضجعة يبغضها الله ورسوله»(14)،ثم ما أثبته الطب اليوم أن أفضل ضجعة للنوم هي النوم على الجانب الأيمن التي دعا إليها نبي الرحمة -صلى الله عليه وسلم-.
إن محمداً -صلى الله عليه وسلم- لم يدرس التشريح ولم يكن علم التشريح في عهد محمد -صلى الله عليه وسلم-ليعرف تفصيلات في الجسد عرفت اليوم، ومع ذلك فإن دعوة محمد -صلى الله عليه وسلم- تنسجم تماماً مع كل معطيات العلم الحديث. ولعل أروع ما في تشريعنا الإسلامي، تنظيم غريزة الجنس ووضعها في إطار يفجر طاقاتها لمصلحة الجسد لا لتدميره، لقد دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الزواج المبكر حين قال: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء»(15).
ودعا إلى اختيار الزوجة الصحيحة السليمة فقال: «تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس»(16).
ونظم قانوناً لمنع انتشار الأمراض العائلية بالوراثة في كلمتين خالدتين حين قال: «اغتربوا ولا تضووا»(17).
وفي قول عمر لآل السائبة: «قد أضوأتم فانكحوا في النوابغ».
ونظم أمور المعاشرة الزوجية، بحيث ضمن سلامة الزوجين من الإصابة بعدد من الأمراض الجنسية، ووضع أسس صحة المرأة وعافيتها، فنهى عن المواقعة قبل المداعبة.
ونهى عن إتيان الزوجة في المحيض في قوله -تعالى-: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} [البقرة:222].
وعن الإتيان في الدبر وذلك في قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: «ملعون من أتى إمرأة في دبرها»(18)، مما أثبت الطب الحديث مضاره ومفاسده وما يلحق به من أذى لكل من الزوجين.
وهل ينكر عاقل أو منصف من أطباء ما للزنى واللواط من أثر مفجع في انتشار الأمراض الجنسية كالزهري والسيلان، وانظر إلى الإعجاز في قوله -تعالى-: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلاً} [الإسراء: 32].
وهل يجد المسئولون اليوم وسيلة لمكافحة الإيدز (طاعون العصر) أفضل من إدخال التعاليم الدينية في روع الناس وتحذيرهم مغبة الإصابة بهذا الطاعون الجديد؟
لقد وضع الإسلام القاعدة الذهبية في الأطعمة، فأحل الطيب النافع وحرم الخبيث الضار، استمع إلى قوله -تعالى-: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث}[الأعراف:157]، فهو دليل واضح على تحكيم قواعد الطب في التشريع ودخوله في نطاق الحلال والحرام في الدين الحنيف.
يتبع........
التعديل الأخير تم بواسطة بذرة خير ; 28-04-2008 الساعة 07:46 PM