*صفقة الفنك*
27-03-2022, 01:31 PM
قصة *صفقة الفنك* بقلمي عبد الرزاق مربح(عبد الرحيم قال)


بلا توقف، شقت عقارب الزمن طريقها في حياة شريف تصول و تجول فيها و تعبث بها تدور و تدور في رحاها لتأخذ منه أعز ما يملك، وقته الثمين، و تسحق شبابه فتذروه رياح الشقاء كالهباء المنثور و تهوي به إلى أرذل العمر و ها هو ذا الآن يدق أبواب الستين بعد قضاءه زهرة عمره في الوظيفة...

لم يصدق الرجل الى الآن كيف انه سمح لوهم الوظيفة بافتراس أحلامه الكبيرة و يتيه هو معها داخل دهاليزه المظلمة المشبعة بالرطوبة التي تنبعث من كل زاوية فيه حتى اصبح الصديد سيد المكان بلا منازع ، كان يظن بأنه سيتخلص من روتين الوظيفة في بداية الطريق أو وسطه في أسوأ الأحوال لكن كل ذلك لم يحدث بل واصل شريف مسيرته المهنية كاملة غير منقوصة من يوم واحد فقد مكث في الوظيفة الى اخر ساعة و دقيقة و حصدت الأيام و الليالي الحالكات كل بريق أحلامه الجميلة و مضت من أمامه كالسراب دون أن ينجز شيئا مذكورا و ذا قيمة كبيرة و تركته متحسرا مكسور الخاطر...نعم كيف لا ينكسر خاطره فهو لم يتمكن من السفر في حياته و لو لمدة أسبوع بل ولو ليوم واحد فقط!

كان ينهض كل صباح يواجه زحمة السير و انعدام وسيلة تقله الى عمله أصلا هذا فضلا عن جيبه الفارغ على الدوام و بطنه الخاوية طوال الوقت و لباسه القديم الطراز...ذلك اللباس الذي لم يستطع أن يغيره منذ عام فصغاره أولى منه في اللباس و زوجته كذلك و ما تبقى من بقشيش كان يدخره لعلاج أحد أفراد عائلته عند المرض و لا يسعه التفكير مطلقا في ابتياع لباس جديد حتى يبدو في أبهى حلة أمام الناس كان يؤمن بأن الأهل أولى في كل شيء حتى انه كان لا يأكل لحما خارج البيت و ان فعل ذلك كان يحضر حصة منه لأولاده و زوجته و الا فان ضميره سوف يؤنبه على فعلته تلك.

ولكن بقي بصيص أمل يلوح في الأفق، فأخيرا ها قد افتتح شريف مطعمه الجميل، حلم حياته الأكبر، و ودع معه الى الابد حياة الفقر و تلك المأساة و ذلك الواقع البائس الذي تنطق أيامه و لياليه بكل المعاناة و الألم و ها هو ذا يحقق حلمه و طموحه المنتظر بعد حصوله مؤخرا على التقاعد من وظيفته المملة نعم لقد كانت وظيفة مملة بحق و الشيء الوحيد الذي دفع به للبقاء فيها هي تلك المزايا و الهدايا التي كان يتحصل عليها في كل مرة من طرف زبائن الشركة التي يعمل فيها لقاء تسهيل حصولهم على طلبتاهم قبل الآخرين وهذا بحكم ترقية تحصل عليها من طرف شركة الاسمنت لمنصب المسؤول التجاري قبل احالته على التقاعد ببضع سنين و استطاع بفضل جمعه لتلك النقود التي نالها لقاء الخدمات التي كان يقدمها للزبائن بأن يجمع مبلغا لا بأس به من المال كان كافيا لافتتاح مطعمه.

كان زبائن الشركة يدعونه بالثعلب فقد كان الرجل ماكرا داهية زمانه إذ كان يخلصهم من كل العراقيل التي تعترض طريقهم بلمح البصر و كان الرجل كذلك فنانا في التحايل على نظام توزيع الحصص، كان يؤمن بأن ذلك من النباهة و الفطنة التي يجب أن يتسلح بها كل موظف عبد للوظيفة بل عبد لذلك العار الذي لن يطعم الاطفال الصغار و لا يسمن ولا يغني من جوع في الليل كما في النهار.

كان يتعجب كيف به مسؤول عن الملايين و مرتبه لا يعدو مجرد دريهمات قليلة لا تكفيه لقضاء حوائجه لمدة أسبوع واحد فقط فما بالك بمواجهة مصاريف شهر بأكمله و لكن حالته قد تغيرت شيئا فشيئا بعد ترقيته الى منصبه الجديد فقد أصبح يختلط كثيرا بأصحاب المال و الأعمال و دفعه فضوله الى اكتشاف ذلك العالم و لما لا الولوج اليه من بابه الواسع و تطليق حياة البؤس و الحرمان الى الأبد.

بدأت الأعمال في المطعم الجديد في النمو و الازدهار و بدأ شريف في التقاط أولى الثمار، ثمار نجاحه الباهر، كيف به لا يلتقطها بعد بذله لكل العزم و الإصرار و ها هو ذا يتخذ قراره الذي لا رجعة فيه׃

-منذ اليوم لا أريد أن يدخل مطعمي إلا علية القوم فهنا لا مكان للفقراء! حاشا لله ليس تكبرا مني و لكن لا يليق بمن يقصد مطعمنا الفاخر أن يأتي بمظهر لا يليق! هذا فضلا عن أنه لا يمكن لمن لا يملك الكثير من النقود أن يحتمل جيبه فاتورة الأكل و البلع لدينا فالأطباق التي نقدمها هنا حارة جدا ودسمة وغالية الثمن كذلك، شعارنا هنا لا ينال الغالي إلا الغالي!

لم يعد يريد شريف ان تصادف عينه هؤلاء الفقراء في مطعمه فهم يذكرونه بنفسه! و كيف كان في السابق يتناول يوميا طبق اللوبياء و العدس و غيرها من مأكولات البسطاء و هو لا يريد ان تتذكر بطنه كل تلك الاطباق الرهيبة الخاصة بالفقراء ... نعم فشريف اصبح اليوم في مصاف الأغنياء و منذ اليوم أصبح مطعمه يقدم الشواء على الجمر لأجود أنواع اللحوم و يتوفر كذلك على مختلف أطباق فواكه البحر النادرة المحلية منها و حتى تلك المستوردة من البلاد الاسكندنافية!

يشير إلى أحد العمال...

-أنت...يا ولد اذهب واحضر اللافتة الجديدة التي ستزين واجهة المطعم

نعم...فلتعلموا بأنني قد غيرت تسمية المطعم إلى الأبد. فإلى اليوم لم يستسغ خاطري تسميته السابقة (مطعم الشعب) كان تسرعا مني وخطأ جسيما لا يغتفر ارتكبته في بدايتي الأولى في هذا الميدان و ذلك من فرط الحماس وظن الناس إثر ذلك بأن مطعمي يقدم أطباقا شعبية رخيصة وصار مقصدا للمتسولين و لكل من هب و دب من كل حدب و صوب...لا لا لن أرضى بذلك...منذ اليوم اسم مطعمي يصبح (مطعم الفاخر) أليس وقع الاسم جميلا على السامعين و رنين لحنه العذب تطرب له القلوب قبل الآذان؟

كان الاسم الجديد وحده كافيا لطرد كل فقير تسول له نفسه الاقتراب من مطعم شريف و النيل من شرفه العالي ومقامه الكبير المعد لأولي الشأن من القوم.

حتى بلغ به الأمر أن منع كل من لا يرتدي بذلة بربطة العنق من ولوج المطعم رغم أنه يقع في منطقة تعج بالسياح بحكم قربه من شاطئ البحر و أغلب من يقصده يرتدي شوورت قصير أو لباس رياضي في أحسن الأحوال...لكنه أصر على ذلك حتى يحافظ مطعمه على فخامته ويبقى في الصدارة دوما، أما بخصوص زبائنه من النساء فلا حرج أن تأتي المرأة إلى المطعم بلباس السباحة فلا يجوز لنا أن نخنق المرأة حسبه و نحشر أنوفنا في حريتها المصونة و نقرر بدلها ما تلبس أو لا تلبس أولسنا أصلا نعيش في بلد ديمقراطي!

بلغ صدى نجاحه الآفاق و أصبح مطعمه حديث العام و الخاص في كل البلاد بما يعده من أطباق شهية أصبحت تنافس أكبر و أرقى الأكلات العالمية و صار شريف يرقص زهوا و طربا بتهافت كبار القوم على الحجز في مطعم(الفاخر) حتى ربطه بزبائنه الكبار علاقات صداقة قوية و متينة لا تشوبها شائبة و تمكن بفضل ذلك في النهاية من قضاء بعض مصالحه التي لا نهاية و لا شاطئ لها تستقر فيه.
يصيح شريف...

انت يا عازف الكمان...هيا اتحفنا...لا اريد ان تصدر الموسيقى من كمانك بل اريد منه ان يبكي!

و ها هو ذا يستقبل زبونه المميز الرجل الأسمر الأنيق الذي يأتي كل يوم في حلة أبهى من سابقتها و الذي لا يعرف عنه شيئا حتى اسمه كان يجهله! إذ كان الكل يناديه بالسيد فوكس هكذا دون زيادة او نقصان و كان يتقن عديد اللغات حتى الصينية! لكن شريف لا يريد أن يعرف من يكون أو من أين أتى فالرجل لا يبخل بنقوده على المطعم و على جيب شريف...يا رجل... هل يمكن أن تسأل من يعطيك النقود من أين أتيت بها أو أن تقول له مثلا لا أريد نقودك فذلك كثير على جيبي! هذا غير معقول و لا يقبل بتاتا!

-مرحبا بك يا سيد فوكس انا هنا في خدمتك طلباتك أوامر!
-تعال...تعال...يا صديقي شريف فقد اشتقت لك و أريد أن أحدثك قليلا فيما حصل معي في بيروت الأسبوع الفائت

بكل دهشة يجيبه شريف...

-هل كنت في لبنان حقا؟
-نعم يا رجل...و ماذا أحكي لك عن ذلك البلد الجميل و لتلك المطاعم الراقية في بيروت انهم يقدمون اكلات لذيذة و مميزة جدا...يا رجل تصور ماذا يطلقون على المعدنوس هناك!
-كيف يسمونه يا سيد فوكس فقد اثرت فضولي؟
-يلفظونه( البأدونس) هكذا...نعم هكذا يا رجل...تخيل لم اكن اعرف بأن المعدنوس يملك اسما جميلا و رقيقا مثل ذلك الاسم!
هذا دون ذكر ذلك الكعك اللذيذ المحشو بالفواكه الذي يطلقون عليه حلوى الدراق...صدقني يا شريف عندما تقوم بقضم قطعة منه فستذوب كل حواسك مع ذوبان كل جزء من تلك الحلوى الخرافية داخل فمك...يا رجل انا لا اصدق الى الان بان تلك الحلوى موجودة بالفعل في عالمنا انها اسطورة بحق جاءت من الجنة حتى يقوم بالتهامها أناس محظوظون مثلي ، ياه كم تتوق نفسي الى العودة الى هناك و التهام الذ الأطعمة و افخر الاطباق...
دعني...دعني اكمل لك يا شريف فمازال في جعبتي الكثير...
فهناك شيء اخر...هل تعرف بأنهم يقيمون عديد الامسيات الفكاهية مع البهلوان
قرقميش اغا انه ممتع حقا خاصة لما يكون برفقة شعشبونة المجنونة!


بكل انبهار يرد عليه شريف....
-يا لك من محظوظ يا سيد فوكس
-شكرا...شكرا لك يا صديقي...
و هل تريد ان احدثك عما حصل معي على شاطئ البحر؟
-نعم تفضل
-البارحة...البارحة فقط يا شريف عندما كنت اسبح هناك في شاطئ البحر المقابل لمطعمك أراد أحدهم ان يستخف بي و يهزأ بشخصي امام كل العالم الموجود هناك مع أصدقائه المغفلين...هل تعلم ما الذي قام بفعله؟
-لا لا اعلم!
-لقد قام برسم وجه حمار على قميصي و انتظر خروجي من البحر هو و اصدقاؤه الملاعين ليشبعوا ضحكا علي! و ماذا فعلت انا؟ لقد امسكت بقميصي و نظرت فيهم مليا ثم خاطبتهم قائلا...من مسح وجهه القبيح على قميصي هذا؟! ها ها ها
-ههه..ها ها ها انك خبيث كبير يا سيد فوكس...انت لا تصدق!

دعني ازيدك واحدة أخرى يا شريف...ففي احدى المرات قمت بامتطاء قطار الضاحية الشرقية و قد اركب احدهم كلبه المخيف معنا فنهرته قائلا...ابعد كلبك هذا عني! لكن اللئيم اجابني بان كلبه ذاك افضل من بعض الاشخاص! تصور...اللعين كان يقصدني انا! لكن هل تعرف بماذا اجبته؟ لقد نظرت الى ذلك الكلب و توجهت بكلامي له...لقد قمت بمخاطبة الكلب بدل ذلك الرجل! قلت له...هل تعلم أيها الكلب الجميل بانك أفضل من صاحبك؟!
هنا ينفجر شريف بقهقهات قوية...كفى...كفى يا فوكس لقد اكتفيت اليوم لا اريد ان اسمع المزيد منك إنك غريب الاطوار حقا و تملك روح دعابة ليس لها مثيل!


و بعد مضي أسبوع....
-مرحى...مرحى بعودتك يا سيد فوكس انا هنا في خدمتك طلباتك أوامر
-لا لا سيد شريف فأنا انتظر ان يوافيني أحدهم على الغداء و عندما يصل سوف أقوم بطلب الطعام...شكرا لك و لضيافتك الكريمة

كان السيد فوكس لبقا للغاية في الحديث كما في المعاملة أيضا فهي راقية جدا و لا ينطق لسانه الا بكلمات متناسقة في المبنى و المعنى تضفي رونقا خاصا على المكان و روعة خالصة خاصة لما يقوم بسرد مغامراته التي لا تنتهي بأسلوبه الشيق و الجذاب جدا و الذي تخشع له الاذان و تسرح معه المخيلة في ذهول و دهشة لا تضاهى...

أيقن شريف بذلك ان هذا الرجل أي السيد فوكس هو ايقونة المطعم بل هو جوهرة نادرة و هو يمثل نموذج الزبائن الذين كان يبحث عنهم و يطمح بأن يصادقهم فهو يتمتع باللباقة في الحديث و الاحترام في المعاملة و لا يبخل في صرف نقوده على طلب اطباق مطعم شريف الشهية و الغالية...اجل هو ليس كهؤلاء الذين كانوا يقصدون مطعمه منذ مدة بعيدة هؤلاء الفقراء و المتسولين فقد كانوا يأتون في هيئة لا تليق بمقامه.

وأخيرا ها قد جاء الضيف المنتظر وقام بموافاة السيد فوكس الى المائدة...
من هو يا ترى؟ و ما هي العلاقة التي تربطه بالسيد فوكس؟

كانت سحابة من عديد الاسئلة التي خالجت صدر شريف و لم يستطع طردها ففوكس كان دوما يأتي للمطعم لوحده و ما هذا الطارئ الذي حصل حتى أتت تلك الفتاة الجميلة و جلست معه؟ هل هي ابنته ام سكرتيرته او ربما قد تكون زوجته! من يدري؟
نعم فكل شيء ممكن مع رجل غامض كالسيد فوكس هذا قد يباغتنا بشيء جديد لم نألفه و لم نسمع به مطلقا في حياتنا فهو عفريت بحق و حياته مليئة بالصخب ليس مثل حياتنا الرتيبة و أيامنا الكئيبة التي لا تطاق...نعم فهاتفه لم يتوقف عن الرنين يوما فربما يكون صاحب شركة كبيرة و نحن لا نعلم بالأمر و هو يأتي الى المطعم خلسة دون أن يكشف لنا عن هويته الحقيقية حتى يتخلص من بعض الضغط في العمل...ربما من يدري؟

ينادي على شريف׃
-تعال...تعال يا رجل حتى اعرفك على صديقتي من وزارة السكن

تهلل وجه شريف و استبشر خيرا بالوافد الجديد على مطعمه صديقة السيد فوكس فقد تنفعه معرفتها في الأيام المقبلة و قد تدبر له شقة في المدينة الجديدة...

-يا شريف...يا صديقي اعرف فيما تفكر! لا تتردد يا رجل فإذا كنت تريد الحصول على سكن فقم بمنح الانسة التي برفقتي فورا خمسة ملايين طبعا هذا برفقة الملف اللازم لذلك و ستحصل على السكن في برنامج التوزيع القادم...و لا تخف أبدا فهذه المرأة ضليعة في الاحتيال على برنامج توزيع السكنات و لن يعرفوا أبدا بأنك تملك مطعما فأنت تعلم بأنك لن تحصل على السكن ان هم علموا بالأمر فتلك السكنات موجهة للفقراء من العامة، الملاعين لم يمنحوك السكن عندما كنت محتاجا و الان يحرمونك منه بعد أن أصبحت غنيا و لكن هيهات فصديقك فوكس هنا لمساعدتك...

تمت الصفقة بسلام وذهب كل واحد في حال سبيله...

و في اليوم الموالي...

نادى السيد فوكس شريف بموافاته إلى طاولته المطلة على واجهة البحر، ذلك البحر الأزرق العظيم الذي أخذ في إرسال نسائمه المنعشة التي تلج من النافذة المفتوحة قليلا فيرفرف غطاء الطاولة الناصع البياض ويستنشق السيد فوكس من عبق ذلك الهواء العليل حتى الثمالة...

-يا شريف ...يا صديقي! هل رأيت كيف استنشق هذا الهواء اللذيذ وأتنفسه بكل يسر!؟
-يجيب شريف بعد أن عقدت الدهشة لسانه ...بلى لقد رأيتك يا سيد فوكس وأنت تفعل ذلك!

كيف لا يندهش الرجل فشريف لم يعتد حديثه معه هكذا و بتلك الطريقة الشاعرية، السيد فوكس هذا كان دائما يكلمه عن المال الوفير و كيف كان يقوم بصرفه هنا و هناك بكل بذخ في المطاعم و الملاهي المختلفة و أشياء أخرى لا حصر لها لكن دون أن يخبره يوما عن مصدره أو يكشف له من أين يأتي به في كل مرة و ما هو عمله بالضبط حتى يجني كل تلك الأموال الطائلة كان ذلك سره الكبير الذي لا يعلم به أي أحد و ها هو اليوم يكلمه عن الهواء! أصلا وما دخل شريف بالهواء و بما يتنفس فوكس هذا؟ فهو يريد ماله فقط و لأجل ذلك فقط قام بمجاراته في حديثه الممل هذه المرة على غير العادة فكلامه في السابق لم يكن يخلو ابدا من الاثارة التي تحبس الانفاس.

-شريف...يا صديقي
-ماذا يا سيد فوكس؟
-هل تعلم يا رجل بأن هناك من لا يمكنه التنفس بيسر مثلما افعل أنا هنا أمامك!؟
-أكيد هو في عداد الموتى!
-لا لا يا رجل وتلك هي المصيبة السوداء التي دخلت على حياتي على حين غرة ودمرت سعادتي و ستخطف مني اعز ما املك في هذا الوجود...إنها زوجتي العزيزة فقد اخبرني الطبيب مساء البارحة بأنها لا تستطيع التنفس كما يجب و تكاد تختنق و لم يتبقى من حياتها الا اشهر معدودة هذا ان لم تكن مجرد أسابيع قليلة و تغادر هذه الدنيا الى الأبد و من غير رجعة وأنا هنا كما ترى أقبع مكتوف الأيدي لا حول لي ولا قوة.
-وأموالك ما الفائدة منها؟...لماذا لا تعالجها بها فأنت تملك المال الوفير ويمكنك أن تذهب بزوجتك إلى الخارج وتعالجها في أرقى مستشفى هناك؟
-يا شريف...يا شريف...ما تنفك تذكر المال في كل مرة ليس المشكل في المال بل في طلب الطبيب الغريب و المحير والذي لم أصادف كمثله في حياتي
-و ما هذا الطلب الغريب والمحير الذي هول حالك هكذا؟
-هل تعلم بأن الطبيب طلب إلي بأن آتيه بكبد ثعلب الصحراء (الفنك) فعصارته هي العلاج الوحيد لزوجتي و هو أملي الأخير في علاجها و نجاتها من الموت المحقق الذي يتربص بها...اه...اه... فزوجتي المسكينة تحتضر و قلبي يعتصر ألما لعجزي عن إيجاد ذلك الثعلب و من أين آتيه أنا بكبد الفنك فمنذ عشرات السنين لم يستطع أحد اصطياده أو حتى تمكن من رؤيته و لو من بعيد فهو نادر الظهور. هل تعلم يا صديقي بأني قصدت حديقة الحيوان ليبيعوا لي واحدا لكنني لم أجد له أثرا عندهم...ايييه... فقد مات آخر واحد كانوا يحوزونه منذ ما يربو عن العام أو يزيد...
-يا لطيف... إني أشفق عليك وعلى زوجتك يا صديقي فأنت تواجه مشكلة عويصة و صعبة الحل يا رجل بل هي تستعصي على حكومة بأكملها أن تجد مخرجا لك و لزوجتك المسكينة.
-ايه..ايه ..لا يحس بألم الجمر إلا من اكتوى به!
شريف...أريدك أن تساعدني و أن تجد لي من يمكنه اصطياد ألفنك و إحضاره لي و لك مني مليارا كاملا!
يجيبه شريف بكل ذهول׃
-هل جننت يا رجل كيف بك تشتري ثعلبا صغيرا بمليار!؟
انه مبلغ مهول و غير معقول حتى أن مطعمي هذا لا تبلغ قيمته مئتي مليون فما بالك بهذا الرقم الفلكي.... انه مليار...مليار بأكمله!
-بل انظر إلى شعار مطعمك (لا ينال الغالي إلا الغالي) و حياة زوجتي غالية عندي اغلى من كل الدنيا إنها حب حياتي يا رجل كان حبا جارفا أزاح عن حياتي الكآبة والرتابة كانت البشرى السارة التي أدخلت الفرح على قلبي بعد طول انتظار...يا رجل... لقد عشت معها أحلى سنين العمر و لا مناص من بذل كل الغالي و النفيس في سبيل إنقاذها و هاك مني خمسة ملايين مقدما كي تجتهد في البحث عن ذلك الثعلب اللعين!

لمعت عينا شريف طمعا بقضمه للقمة السائغة التي أتت برجليها الى فمه و قام بكل لهفة بحمل رزمة النقود تلك و دون أن يتفطن عماله لما يدور بعيدا عن أعينهم في الخفاء، قام بإخفائها في جيبه بحركة رشيقة منه من تحت الطاولة و ارتسمت على محياه ابتسامة عريضة فرحا بصفقة العمر التي عقدها للتو مع السيد فوكس و كيف ستكون هذه الصفقة المربحة الطريق إلى الثراء و فتحه لمطعم آخر بل ربما سلسلة مطاعم كبرى في البلد و في الخارج كذلك ولما لا هذا طبعا بعد أن يجتهد في القبض على الثعلب الصغير.

و العجيب في الأمر و الذي أحدث فرحة عارمة في قلب شريف هي استرداده لمبلغ الخمسة ملايين التي منحها لموظفة وزارة السكن في اليوم الذي سبق و هذا بفضل الصفقة الجديدة التي قام بإبرامها للتو مع السيد فوكس الخاصة بالقبض على الفنك...نعم سوف أحصل على سكن من دون مقابل فربما فوكس هذا يكون سمسار عقارات كبير بما انه يعرف موظفة وزارة السكن، الحمد لله فها هي ذي بضاعتي قد ردت الي دون ان اخسر ولو دينارا بل وحتى مجرد سنتيم واحد... كم انت كريم يا سيد فوكس!

لكن السيد فوكس كعادته ابى الا أن يضفي جوا من المرح على تلك الجلسة...هذه المرة سأقص عليك حكاية من الأرشيف حدثت لي العام الفائت اثناء امتطائي للطائرة متوجها الى كوالالمبور
-هل قلت كوالالمبور؟
-نعم...كانت رحلة لتسوية بعض الأعمال العالقة هناك ولم تكن رحلة سياحية و قد حدث معي شيء عجيب على متن تلك الطائرة و لا يخطر على بال فعند صعودي على متنها اكتشفت ان احدهم قد استولى على مكاني في الدرجة الأولى المخصصة لرجال الاعمال و لم تفلح كل محاولات طاقم الطائرة في إقناعه عن العدول عن قراره و إقناعه بالتوجه الى مكانه في الدرجة الاقتصادية بل زاد إصراره و تمسك بما يقوم به! العنيد! لكني ذهبت اليه و همست في اذنه بضع كلمات فاذا به يفر مذعورا و يتخلى عن عناده حتى ان كل الحاضرين تعجبوا من الامر
-و ماذا قلت له يا سيد فوكس؟
-ها ها ها...سألته الى أين تتجه؟ فقال كوالالمبور! فقلت له هل تعلم بان ذلك المقعد الذي تجلس عليه متوجه الى مقاديشو!
-ها ها ها إنك لعين يا فوكس...توقف...توقف ارجوك فانا مريض بالقلب و لا اريد ان تقتلني!؟


********************

في رحلة البحث عن الثعلب أخذ شريف يفتش في كل الأرجاء و الأنحاء ويقوم بعديد السفريات إلى الصحراء الكبرى لم يترك الطاسيلي و لا جبال الاهقار و حتى جانت و ادرار يصول و يجول في شعابها و يعبر بحر رمالها لاهثا وراء القبض على ذلك الفنك الذي سيدر عليه مالا وفيرا هذا طبعا بعد أن يغدق عليه السيد فوكس بالمليار و يحقق حلمه المنشود لكنه كان في كل مرة يرجع خائبا فلم يعد للفنك من وجود...ربما يكون قد انقرض من على وجه الدنيا ونحن لا نعلم بالأمر إلى هذه اللحظة...يتساءل...كم أنت غريبة يا دنيا إذ كيف أصبح الثعلب اللعين يساوي الملايين و ما هذه المادة العجيبة التي يحتويها كبد الثعلب و التي تداوي اخطر الأمراض و أفتكها على حياة البشر....أصلا و ما شأني أنا بتلك المادة و ما تفعله أو لا تفعله فهدفي واضح وضوح الشمس في النهار ألا و هو الإمساك بالثعلب و قبض المليار! أم يعتقد السيد فوكس هذا بأني أقوم بكل هذا لأجل عيون زوجته؟ هه...الغبي دعه يظن ذلك هه ها... ها... ها... انه مغفل كبير حقا!

يواصل شريف بكل عزم وإصرار شق طريقه صوب القبض على ذلك الثعلب الماكر الذي يختبئ بعيدا عن ناظره لكن هيهات سيأتي يومك أيها الماكر العفريت طال الزمن أو قصر فقد عول شريف على الإمساك بك حيا ترزق أو ميتا تزهق سيطاردك في البر كما في البحر، مرت الأيام والأسابيع لكن محاولاته العديدة وصولاته المديدة لم تأت بالجديد المطلوب والمال المرغوب وعاد خائبا إلى مطعمه وكله حزن على تفويته لفرصة الثراء التي أتت إليه على طبق من ذهب ولم يعرف السبيل إلى استغلالها كما يجب.

وهو في مطعمه جالس على أريكته الوثيرة، شارد الذهن، يقضم أطراف أصابعه ببقايا أسنانه المتهالكة التي تهاوى اغلبها بفعل الزمن حتى أنها لم تعد تفي بالغرض المطلوب منها في مجال قضم الأصابع!
وفجأة...يدخل على المطعم رجل يرتدي ثيابا بالية وتصدر منه رائحة نتنة كأنه غادر لتوه من الإسطبل ودخل مباشرة إلى هناك...
استوقفه شريف....
-هاي...أنت...ما الذي دهاك هل أنت معتوه ما وجئت تجرب حظك عندنا بما قد تناله من لذيذ الطعام هيا انصرف من عندنا فنحن لا نطعم الحثالة هنا...و ما هذه الرائحة النتنة التي تصدر منك؟
يا لذوقك الفظيع...هيا اخرج فورا... ألم تقرأ اللافتة التي في الخارج إن كنت جاهلا سأعلمك! إنها تقول مطعم الفاخر كيف تتجرأ وتدخل بتلك الملابس الرثة وتلطخ مطعمنا الفخم بنجاستك القذرة...هيا انصرف فورا قبل أن تنال جزاءك...
-ولكن يا سيدي أنا لا أريد سوى أن تعطيني بعض الخبز اليابس حتى أطعم خرافي و ثعلبي الصغير
-ماذا. ماذا...ماذا...هيا أعد ما قلت هل قلت بأنك تملك ثعلبا أم أن سمعي قد خانني هذه المرة!؟
-نعم...بكل تأكيد فأنا أملك ثعلبا و أي ثعلب يا سيدي!
-ماذا تقصد؟ أرجوك لا تقل لي انه من صنف الفنك!
-بكل تأكيد...و لكن كيف علمت بالأمر؟ و من الذي أخبرك بذلك؟
-انه الحدس يا حبيبي.... الحدس و الحظ الذي ابتسم لي أخيرا
هه...بكم تبيعني ذلك الثعلب؟

-لا لا أبدا من قال بأني سأبيعك ثعلبي العزيز انه ثعلب غال على قلبي و لن أبيعه لك حتى ولو منحتني تسعين مليون كاملة!
-ماذا... ماذا؟ ثعلب صغير بتسعين مليون!...لقد أضحكتني يا هذا و أنا لا استطيع الضحك.
-أيها الخبيث هل تظنني مغفلا حتى لا اعرف قيمة ثعلبي؟ هو يساوي الملايين يا هذا فقد سبق لي أن بعت أحدهم ثعلبا آخر كنت املكه بسبعين مليون و قد ادعى آنذاك انه سيستعمله للعلاج و إلا ما كنت بعته إياه...اعلم باني قد اجتهدت كثيرا حتى تمكنت من اصطياده في صحراء برج باجي مختار!
-اللعنة...و لما لم افتش في تلك البقعة من الارض انا ايضا؟! يا لغبائي و حمقي الكبيرين...كيف لراع غنم كهذا ان يسبقني في سعيي الحثيث؟ سوف اجتهد اكثر في قادم الأيام لأحقق حلم الثراء و الا بقيت املك مطعما واحدا بدل المطعمين!
-ما هذا الذي تقوله بصوت خافت يا هذا...فأنا لم اسمعك جيدا على ما يبدو؟
-لا... لا شيء مهم .... قلت فقط ما رأيك بمائة مليون عدا و نقدا هل هو مبلغ معقول برأيك؟ ماذا قلت؟ أليس عرضا مغريا و لا يمكنك تفويته أبدا؟ فأنت لن تجد عرضا مثله و لو طفت كل الدنيا من شمالها الى جنوبها و من شرقها الى غربها...
-و لما غيرت رأيك هكذا فجأة؟ لقد ادهشتني
-اه ماذا أقول لك... فأنا أيضا عندي مريض يستغيث و حالته حرجة و ليس هناك من علاج له سوى الثعلب...انها امرأة يا اخي تصور لو كانت ابنتك او زوجتك الا تفعل مثلي؟ او ربما أكثر!
-هاك قد عدت إلى كلامي السابق و عرفت أخيرا قيمة ثعلبي العزيز اعتقد بانك تاجر ماهر و مفاوض ممتاز و اردت ان تحتال علي...لكن لا بأس فبما أنك ستستعمل الثعلب في إنقاذ حياة تلك المرأة المسكينة فلا بأس بذلك اتفقنا إذن...عقدت الصفقة غدا سآتيك بالثعلب على أن تعدني بأن تأتيني بالمائة مليون كاملة غير منقوصة وستبطل الصفقة لو سولت لك نفسك خداعي أو العبث معي و اعلم بأني افعل كل هذا و أضحي بثعلبي العزيز من أجل المرأة المسكينة و ليس من أجلك أنت.
-شكرا...شكرا لك على كل حال...غدا ستجدني في الانتظار في الموعد المحدد

في اليوم الموالي أتى ذلك الرجل إلى مطعم شريف وهو يحمل الثعلب الصغير بين ذراعيه و ما ان وصل حتى تهلل وجه شريف فرحا بذلك الحدث العظيم، شريف، الذي لم ينم ليلته بهجة بتمكنه أخيرا من تحقيقه لحلم الثراء الفاحش و كيف سيصبح بين عشية و ضحاها يركل النقود برجله أينما حل و ارتحل...نعم سيشتري بيتا في أحد الأحياء الراقية و سيارة فارهة بعد أن يستثمر ذلك المليار في ميدان الأكل و البلع فالناس لم تتوقف يوما عن الأكل و المضغ انه ميدان مربح جدا و ربما يلد ذلك المليار مليارا آخر مثله و يصبح بحوزته ملياران ولما لا.

ناوله الرجل الثعلب الصغير من فصيلة الفنك النادرة الذي لا يوجد الا في الصحراء الكبرى في بلاد المغرب العربي، كان شريف وفيا بوعده أيضا فقد منحه من جانبه حقيبة النقود مملوءة عن آخرها كل ورقة نقود داخلها تطلب من أختها الابتعاد قليلا من كثرة الزحام الخانق! حملها الرجل و خرج مسرعا ذهب كالبرق حتى من دون أن يلتفت وراءه و فورا قام بإخراج هاتفه لمحادثة أحدهم وكله سرور وقال׃
- هنيئا...لقد نجحت الخطة و تمت المهمة بسلام يا سيد فوكس!

لم يسمع شريف ما تلفظ به ذلك الرجل فقد كان مشغولا هو الآخر بإجراء مكالمة مهمة جدا مع السيد فوكس...
-ألو...ألو...السيد فوكس هل أنت بخير...دعني أبشرك بأني قد تمكنت أخيرا من إلقاء القبض على الثعلب و هو ينتظر هنا في مطعمي على أحر من الجمر لكي تأتي وتأخذه و لا تنسى بأن تحضر المليار معك يا صديقي!
-عن أي ثعلب تتحدث يا رجل و عن أي مليار!؟ لقد ماتت زوجتي أيها الأحمق أما ثعلبك ذاك فقم بطبخه و تناوله على العشاء بصحتك يا زميلي!... و أقفل الخط في وجه شريف إلى الأبد...