قص شوارب المستهلِك والعفو عن لحى أكلة الكافيار
13-09-2015, 04:18 PM



الكاتب
حبيب راشدين

المشروع التمهيدي لميزانية 2016 يكشف حدود سياسة التقشف التي أملاها تراجع عوائد المحروقات كما يكشف غياب استراتجية حكومية للتعامل مع ظاهرة، يقول معظم الخبراء إنها مستدامة بلا أدنى فرصة للعودة أو حتى الاقتراب من أسعار النفط في السنوات السمان السبع الماضية.
المشروع يفضي إلى تقليص في الموازنة بنحو 10 في المائة قياسا مع الميزانية السابقة، كانت حصة الأسد فيها لميزانية التجهيز المتراجعة بنسبة 18 ,24 % مقابل 3,32 % في ميزانية التسيير، ما يشير إلى اختيار الحكومة للتضييق على المشاريع الإنمائية، والتخلي عن كثير من مشاريع الإنشاءات القاعدية، بدل الدخول في خصومة مع الموظفين وأعوان الدولة، لا من جهة الأجور ولا من جهة تخفيض مستوى رفاهية المؤسسات البيروقراطية.

حماية رفاهية علية القوم وأكلة الكافيار

معالجة الحكومة لأزمة تراجع موارد الدولة من الجباية النفطية، فضلت البحث عن موارد جديدة من مراجعة الجباية والرسوم الجمركية، بدل مراجعة مستوى الإنفاق الحكومي المنفلت طوال السنوات السمان، فاعتمد المشروع التمهيدي سلسلة من الإجراءات الجبائية طالت على وجه الخصوص رفع رسوم القيمة المضافة على المواد الطاقوية ومنها المازوت والكهرباء من 7 إلى 17 % للمرة الأولى منذ ربع قرن.

وتضمنت المادة 16 من المشروع التمهيدي ارتفاعا ملموسا في الرسوم على الواردات ما بين 30 و60 % خصّت على وجه التحديد بعض المواد الكمالية القليلة الرواج مثل الكافيار وسمك الصومون، وبعض الفواكه الإستوائية مثل الكيوي والأناناس، بما يشير إلى حدود الموارد المرتقبة من سلع متداولة بين فئة محدودة من المواطنين.

العبء الأكبر من الزيادات الجبائية سوف يتحمله ملاك السيارات الخاصة، إذ تضمّن المشروع التمهيدي، فضلا عن رفع أسعار البنزين والمازوت، رفع الرسوم السنوية (فينيات) ما بين 2000 و10000 دج على السيارات السياحية لأقل من ثلاث سنوات، وما بين 1500 و6000 دج لأقل من ست سنوات وأكثر من ثلاث سنوات.

الصنف الثالث من الواردات المشمولة بزيادة في الرسوم الجمركية بنسبة 30 % شمل التجهيزات الإلكترونية مثل الحواسب والهواتف، كما أدخل زيادة في رسوم القيمة المضافة على الهواتف من الجيل الثالث من 7 إلى 17 %، كما لا نلمس أي إجراء جبائي أو جمركي يهدف إلى حماية المنتج الوطني الصناعي أو الفلاحي، وترك الحبل على الغارب للعائلات المتحكّمة في التجارة الخارجية، التي كانت وراء استنزاف رصيد البلاد من العملة الصعبة، ولها اليد الطولى في تدني قيمة العملة الوطنية.

فرصة لقفز الفئران من السفينة قبل الغرق

أخطر ما ورد في المشروع التمهيدي، استغلال الحكومة للأزمة لتمرير قرار يسمح للمستثمرين الأجانب بالتحايل على مبدأ حق الشفاعة المكفول بالقانون للدولة، بالسماح لهم باللجوء إلى البورصة للتخلص من أصولهم في الشركات المختلطة الخاضعة للقانون الجزائري، وحرمان الدولة من تفعيل حق الشفاعة، إجراء ليس له أي مبرر ولا صلة له بسياسة التقشف التي تحكمت في بناء ميزانية 2016، بل قد يسمح لكثير من المستثمرين الأجانب بالتخلص من استثماراتهم بسرعة والفرار من السفينة قبل غرقها، في بلدٍ مهدد بأزمة قائمة مفتوحة، وبتراجع كبير في قدرته الشرائية، كما في القدرة الشرائية لمواطنيه.

ثمة ما هو أخطر من هذا الإجراء في المشروع التمهيدي للميزانية، تمثلَ في الترخيص للمؤسسات الجزائرية باللجوء للتمويل الخارجي من الأسواق والمصارف الربوية، في انقلاب استراتيجي خطير سوف يفتح الباب على مصراعيه للعودة في أجل منظور لطرق باب صندوق النقد الدولي، ويشكل استجابة متأخرة قليلا لإملاءات صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، ظلت تساوم الجزائرَ على العودة إلى السوق المالية الربوية.

استعراض الخطوط العريضة للمشروع التمهيدي لأول ميزانية تشيد تحت عنوان "معالجة أزمة تراجع موارد الدولة من الجباية النفطية" كان ضروريا، ليس من أجل الإحاطة بحجم الأعباء التي سوف يتحملها المواطن، ولا للتوقف عند الإجحاف الواضح في توزيعها، حيث وأنه باستثناء إجراء وحيد تمثل في رفع الرسوم على رقم الأعمال بالنسبة للمتعاملين في قطاع الهاتف من 1 % إلى 2 % ، فإن جميع الزيادات في الرسوم الجبائية والجمركية سوف يتحمّلها المستهلِك وحده، بينما سلمت جميع المؤسسات العمومية والخاصة، الوطنية والأجنبية، وفي جميع القطاعات الإنتاجية والخدمية، من إجراءات كانت متوقعة وواجبة، تطال الرسوم على رقم الأعمال وعلى الأرباح، كما سلمت الثروات المكدسة في العقارات والحسابات البنكية من أي زيادة في الضريبة على الثروة، التي تلجأ إليها الدول عادة لتقسيم الأعباء زمن الأزمة.

الخطيئة الثانية التي ارتكبتها هذه الحكومة وحكوماتٌ سابقة، تمثلت في فتح بالوعةٍ ضخمة لاستنزاف العوائد النفطية، عبر تحرير آثم للتجارة الخارجية، وإغراق السوق الوطنية فوق الحاجة، مع استحداث القروض الاستهلاكية التي تلجأ إليها الدول المنتِجة كعامل محفز لاستهلاك المنتج الوطني، ولم تكن الجزائر بلدا منتجا للثروة حتى تشجّع مواطنيها على الاستهلاك، وقد خلقت شراهة مصطنعة على الاستهلاك في دورة فاسدة، تتداول فيها فترات رفع الأجور مع فترات من التضخم الموجّه، والتشجيع المفرط على الاستهلاك والتبذير.

المؤخر من الدين في سياسة شراء السلم الاجتماعي

سياسة شراء السلم الاجتماعي منعت الحكومة من قبل من معالجة ملفات الدعم بمقاربة عادلة ومتدرجة، خاصة في المواد النفطية والكهرباء، وانفلات فاتورة الأدوية، كما في المواد الغذائية، كان من السهل تدبيرها على مراحل وبجرعات مقبولة زمن اليسر، في حين يصعب اليوم على الحكومة الاقتراب منها اليوم خوفاً من ضرب السلم الاجتماعي الذي اشترته السلطة بأكثر من طريقة، من أجل صرف المواطن عن المطالبة بحقوقه السياسية أو الاقتراب من مسارات المحاسبة، ومن ملفات الفساد المالي.

ويكشف المشروع التمهيدي لميزانية 2016 تردّد الحكومة في الاقتراب من منظومة الدعم، باستثناء تلك الإجراءات المرتجلة برفع أسعار البنزين والمازوت والكهرباء دون أي تمييز إيجابي بين شرائح المستهلكين، فيما استهدفت الميزانية جيوب الطبقة الوسطى في قطاعين: قطاع السيارات وقطاع الأجهزة الإليكترونية الفردية، وعفت عن طبقة الأثرياء من أرباب المال والأعمال، والتجّار، وأصحاب الثروات، التي لن تلتفت أصلا إلى رفع الرسوم على الكافيار والصومون أو الكيوي والأناناس.

ومع الامتناع ظاهرياً عن الاقتراب من دائرة المواد الغذائية ذات الاستهلاك الواسع، فإن قرار رفع الرسوم الجمركية بنسبة تتراوح بين 30 و60 % على الواردات سوف يطال مباشرة القدرة الشرائية للفئات الشعبية الفقيرة، لأن الزيادات لن يدفعها لا المورّدون، ولا تجار الجملة، ولا تجار التجزئة، بل تنقل تنازلياً إلى المستهلك، يضاف إليها ما سيترتب من كلف إضافة نتيجة رفع أسعار الطلقة التي وسف تطال أيضا المنتج الوطني في الصناعة كما في المنتجات الفلاحية.

غياب الشفافية في سلوك الحكومة، وانقطاع سبل التواصل مع المعارضة، كما مع النقابات بشأن مواجهة تبعات الأزمة بأقل كلفة اجتماعية ممكنة، ينذر بدخول اجتماعي صعب، وربما متفجر، حين يلتفت المواطنون إلى السخاء الذي تعاملت به الحكومة مع أربابا المال والأعمال، والتجار، وهم الجهة كان ينبغي أن تطالب بحمل الجزء الأكبر من العبء، من باب رد الجميل على البحبوحة التي طالتهم طوال عقد من الزمن، بسخاء مالي بلا حدود، وعفو جبائي شبه مطلق، وتحرير كامل من الأعباء الإجتماعية، وقتها لن يكون الشغل الشاغل للحكومة التفكير في تدبير إدارة رصيد البلد من الموارد المالية، بل تكون قد دخلت معترك تدبير إدارة رصيد البلد من السلم الاجتماعي، بعين بصيرة ويد قصيرة، وبدولة متخشبة ترفض الإصلاح.