شريح القاضي
31-07-2019, 12:26 PM


شريح القاضي من أشهر القضاة الفقهاء في صدر الإسلام وأعلمهم بالحكم والقضاء، أصله من اليمن، ولي قضاء الكوفة في زمن عمر وعثمان وعلي ومعاوية، وكان ثقة في الحديث، مأمونا في القضاء، له باع في الأدب والشعر، وله عمرًا طويلًا.

نسب شريح القاضي وإسلامه

القاضي شريح في نسبه اختلاف كثير، وأصح ما ذكر في نسبه[1]، أنه شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم بن معاوية بن عامر[2]، الكِنْدي الكوفي[3]، ويكنى أبا أمية[4]، وهو أحد السادات الطلس[5]، وأصله من اليمن[6]، أدرك الجاهلية[7]، أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يراه، وانتقل من اليمن في زمن الصديق وهذا هو المشهور[8]، ولكن قيل: إنه أسلم على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم[9]، وقد روي عن شريح إنه قال: أتيت النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقلت: يا رسول اللَّه إن لي أهل بيت ذوي عدد باليمن، قال: «جيء بهم» فجاء بهم والنبي صلى اللَّه عليه وسلم قد قبض[10].

رواية شريح القاضي للحديث

كان شريح القاضي ثقة في الحديث[11]، فحدث عن: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وحدث عنه: قيس بن أبي حازم، ومرة الطيب، وتميم بن سلمة، والشعبي، وإبراهيم النخعي، وابن سيرين، وغيرهم[12]، وقد روى له النسائي، فعن شريح قال: "أَمَرَنِي عُمَرُ أَنْ أَقْضِيَ لِلْجَارِ بِالشُّفْعَةِ"[13].

شريح القاضي يتولى قضاء الكوفة

تولى شريح القاضي القضاء في مدينة الكوفة لفترة طويلة من حياته فقيل: مكث قاضيًا ستين سنة[14]، وقيل سبعين سنة[15]، وقيل: خمس وسبعين سنة لم يتعطل فيها إلا أيام فتنة ابن الزبير[16].
كان السبب في تولي شريح منصب القضاء أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه اشترى فرسًا من رجل من الأعراب وركبه ليجربه ولكن سرعان ما أصاب الفرس عرج، فقال عمر للأعرابي خذ فرسك، فأبى الأعرابي، فاحتكما إلى شريح القاضي، فقال شريح: يا أمير المؤمنين خذ ما ابتعت أو رد كما أخذت[17].
بعد هذه الواقعة وما رآه عمر بن الخطاب في شريح من عدل وحكمة بعثه إلى الكوفة واستقضاه عليها، وكتب إليه: إذا أتاك أمر في كتاب الله، فاقض به، فإن لم يكن في كتاب الله وكان في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض به، فإن لم يكن فيهما، فاقض بما قضى به أئمة الهدى، فإن لم يكن، فأنت بالخيار، إن شئت تجتهد رأيك، وإن شئت تؤامرني، ولا أرى مؤامرتك إياي إلا أسلم لك[18].
مكث شريح قاضيًا بالكوفة أيام عمر بن الخطاب و عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، ثم عزله علي، ثم ولاه معاوية بن أبى سفيان على القضاء مرة أخرى، ولم يزل شريح في منصبه حتى تولى الحجاج بن يوسف الثقفي ولاية الكوفة، فطلب منه شريح أن يعفيه من القضاء فأعفاه الحجاج[19].
أيضًا مكث شريح في قضاء البصرة سنة[20]، ولذلك كان يقال له: قاضي المصرين، أي الكوفة والبصرة[21].

شريح القاضي أقضى العرب

كان لشريح القاضي مكانة خاصة في قضاء الكوفة فبالإضافة إلى مدة ولايته الطويلة، فإن أحكامه وأقضيته كانت تتصف بالعدل وتدل على رصانة عقله، فعن هبيرة بن مريم قال: لما قدم علي على الكوفة أتاه فقهاء الناس وجعلوا يسألونه حتى نفد ما عندهم ولم يبق إلا شريح فجثا على ركبتيه وجعل يسأله، فقال له علي: اذهب فأنت أقضى العرب[22].
قصة شريح القاضي مع الامام على والرجل النصراني

تنازع الإمام علي بن أبي طالب وهو أمير المؤمنين مع رجل نصراني على درع، فاحتكما إلى القاضي شريح، ولما جلسا عند شريح، قال الإمام علي: يا شريح هذا الدرع درعي، لم أبع، ولم أهب، فقال شريح للنصراني: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟ فقال النصراني: ما الدرع إلا درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب، فالتفت شريح إلى الإمام علي وقال: يا أمير المؤمنين، هل من بينة؟ فقال الإمام علي ما لي بينة، فحكم شريح بالدرع للنصراني، فقال النصراني متعجبًا: أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه، وقاضيه يقضي عليه!، فأسلم وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين[23].

عدل شريح القاضي وورعه

كان شريح القاضي أعلم الناس بالقضاء، وكان ذا عدل في حكمه وفطنة وذكاء ومعرفة وعقل ورصانة وورع[24]، فكان يحرص على أن يكون في مجلس قضائه مجموعة من الفقهاء، كما كان حريصًا أن يكون مجلسه محاطًا بالهيبة والوقار، فكان إذا جلس للحكم يجلس على رأسه سيفان وإلى جانبهما شرطي بيده سوط[25].
وكان إذا اكتمل مجلسه نادي مناد من جانبه، يا معشر القوم اعلموا أن المظلوم ينتظر النصر، وأن الظالم ينتظر العقوبة، فتقدموا رحمكم الله، وكان يسلم على الخصوم[26]، ثم يقرأ قول الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص: 26].
وكان يسأل عن حال الشهود في السر، ويقول لمن يرسله للسؤال: إن قال الناس في الرجل الله أعلم فهم يعرفون أنه مريب ولا تجوز شهادة مريب، وإن قالوا: ما علمناه إلا عدلًا مسلمًا فهو إن شاء الله كذلك وتجوز شهادته[27].
ويروى أن ابنًا لشريح قال له يا أبت: بيني وبين قوم خصومة، فانظر، فإن كان الحق لي خاصمتهم، وإن لم يكن الحق لي، لم أخاصمهم وقص قصته عليه، فقال له: انطلق فخاصمهم، فانطلق إليهم فخاصمهم فقضى على ابنه، فقال له: يا أبت فضحتني، فقال: يا بني، والله لأنت أحب إلي من ملء الأرض مثلهم، ولكن الله أعز علي منك، خشيت أن أخبرك أن القضاء عليك، فتصالحهم، فتذهب ببعض حقهم[28].
وقال الشعبي شهدت شريحًا وقد أتته امرأة تخاصم رجلًا وتبكي بكاءً شديدًا، فقلت يا أبا أمية ما أظنها إلا مظلومة فقال يا شعبي إن أخوة يوسف جاءوا أباهم عشاء يبكون[29] وهم له ظالمون.
وعن الشعبي، قال شريح: إني لأصاب بالمصيبة، فأحمد الله عليها أربع مرات، أحمد إذ لم يكن أعظم منها، وأحمد إذ رزقني الصبر عليها، وأحمد إذ وفقني للاسترجاع لما أرجو من الثواب، وأحمد إذ لم يجعلها في ديني[30].

شريح القاضي شاعرًا وأديبًا

أيضًا كان لشريح القاضي باع في الأدب والشعر[31]، فكان شاعرًا محسنًا، وله أشعار محفوظة في معان حسان[32]، وتنسب له هذه الأبيات التي قالها في زوجتها:
رأيـــت رجـــالًا يضــــربون نساءهم ... فـشُلَّـتْ يـمـيــني يـوم أضـــرب زيــنبا
أأضـــربها من غـــير ذنــــب أتـت به ... فما العدل مني ضـرب من ليـس مـذنـبا[33].

وفاة شريح القاضي

مات شريح القاضي بالكوفة[34]، وقد اختلفت الروايات التاريخية كثيرًا في تاريخ وفاته، فقيل: توفي سنة خمس وسبعين، وقيل: ست وسبعين، وقيل: ثمان وسبعين، وقيل: تسع وسبعين، وقيل: سنة ثمانين، وقيل: اثنتين وثمانين، وقيل: سبع وثمانين، وقيل: سنة ثلاث وتسعين، وقيل: سبع وتسعين، وقيل: تسع وتسعين، أيضًا اختلفت الروايات في عمره عند موته فقيل: توفي وله مائة سنة، وقيل: مائة وثمان سنين، وقيل: مائة وعشر سنين، وقيل: مائة وعشرون سنة، وقيل: عاش مائة وسبعًا وعشرين سنة[35].

-----------------------
قصة الإسلام
[1] ابن خلكان: وفيات الأعيان، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1900، 2/ 460.
[2] ابن سعد: الطبقات الكبرى، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1410هـ= 1990م، 6/ 182.
[3] الذهبي: تاريخ الإسلام، تحقيق: بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، 2003م، 2/ 821.
[4] ابن سعد: الطبقات الكبرى، 6/ 182.
[5] الأطلس الذي لا شعر بوجهه: وهم أربعة: عبد الله بن الزبير، وقيس بن سعد بن عبادة، والأحنف بن قيس، وشريح. انظر: ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، تحقيق: محمود الأرناؤوط، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، الطبعة الأولى، 1406هـ= 1986م، 1/ 320.
[6] الزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة، 2002م، 3/ 161.
[7] الذهبي: تاريخ الإسلام، 2/ 821.
[8] الذهبي: سير أعلام النبلاء، تحقيق: مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، 1405ه= 1985م، 4/ 101، وابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود وعلى محمد معوض، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1415هـ، 3/ 271.
[9] سبط ابن الجوزي: مرآة الزمان في تواريخ الأعيان، دار الرسالة العالمية، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى، 1434هـ= 2013م، 9/ 170.
[10] ابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة، 3/ 271.
[11] الزركلي: الأعلام، 3/ 161.
[12] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 4/ 101.
[13] النسائي: كتاب البيوع، باب ذكر الشفع وأحكامها (6265).
[14] ابن الأثير: أسد الغابة، تحقيق: علي محمد معوض، عادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1415ه= 1994م، 2/ 624.
[15] ابن كثير: البداية والنهاية، دار الفكر، 1407هـ= 1986م، 9/ 22.
[16] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 2/ 460، 461.
[17] ابن سعد: الطبقات الكبرى، 6/ 183.
[18] الذهبي: سير أعلام النبلاء، ، 4/ 101.
[19] ابن الأثير: أسد الغابة، 2/ 624، وابن كثير: البداية والنهاية، 9/ 22.
[20] الذهبي: سير أعلام النبلاء، ، 4/ 101.
[21] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 4/ 101.
[22] ابن منظور: مختصر تاريخ دمشق، تحقيق: روحية النحاس، رياض عبد الحميد مراد، محمد مطيع، دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى، 1402هـ= 1984م، 10/ 296.
[23] ابن كثير: البداية والنهاية، 8/ 4، 5.
[24] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 2/ 461.
[25] مسعوداني مراد: تاريخ القضاء عند العرب من العصر الجاهلي حتى العصر العباسي الإسلامي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ص103، 104.
[26] وكيع: أخبار القضاة، تحقيق: عبد العزيز مصطفى المراغي، المكتبة التجارية الكبرى، شارع محمد علي، مصر،
الطبعة الأولى، 1366هـ= 1947م، 2/ 392.
[27] مسعوداني مراد: تاريخ القضاء عند العرب من العصر الجاهلي حتى العصر العباسي الإسلامي، ص104.
[28] سبط ابن الجوزي: مرآة الزمان في تواريخ الأعيان، 9/ 172.
[29] ابن عساكر: تاريخ دمشق، عمرو بن غرامة العمروي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1415هـ= 1995 م، 23/ 46.
[30] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 4/ 105.
[31] الزركلي: الأعلام، 3/ 161.
[32] ابن عبد البر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 1412هـ= 1992م، 2/ 702.
[33] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 2/ 462.
[34] الزركلي: الأعلام، 3/ 161.
[35] ابن سعد: الطبقات الكبرى، 6/ 193، وسبط ابن الجوزي: مرآة الزمان في تواريخ الأعيان، 9/ 176، ابن خلكان: وفيات الأعيان، 2/ 460، 461، وابن الأثير: أسد الغابة، 2/ 624، وصلاح الصفدي: الوافي بالوفيات، تحقيق: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، دار إحياء التراث، بيروت، 1420هـ= 2000م، 16/ 82.