في كتابه ''حروب لا تنتهي'':ستورا يكشف قصة التابوت
30-01-2009, 03:49 PM

اعتاد أن يكون كالطبيب الذي يشير إلى مكان الجرح، في مدوّنة وصفية تخلو من كل المشاعر، ليعلن الأسباب والمسببات بحزم وموضوعية. وتكررهذا الدور خلال التسعينيات، عندما سطع نجمه عبر الواجهة الإعلامية الفرنسية والجزائرية على حد سواء، كخبير ملم بتاريخ الاستعمار في الجزائر. هذه المرة وفي كتابه ''حروب لا تنتهي''، يظهر المؤرخ بنيامين ستورا بوجه آخر، وبعيون انطفأ فيها بريق الحزم والقوة، وظهر ضعيفا مجروحا وهو يحكي القطائع الحادة التي عاشها كجزائري يهودي ''اقتلع عنوة'' من ''مسقط قلبه'' قسنطينة. لازالت رحلة البحث عن الهوية عند ستورا متواصلة، هي الغصة التي ابتلعها على مضض رغم مرور 46 سنة على مغادرته للجزائر في جوان .1962 هذه اللحظة التاريخية كانت بمثابة القطيعة الأولى للرجل، والتي يصفها أكثر من مرة بالعنيفة في حياته، وهذا ما جعله يتحول لاشعوريا إلى مؤرخ مختص في تاريخ الجزائر، هذا البلد الذي تربطه علاقة به حميمية. يروي في كتابه الذي صدر مؤخرا عند دار النشر ''ستوك'' الذي يعد بمثابة شهادة وداراسة تاريخية لا تخلو من الحنين والألم، بأنه عندما غادر الجزائر وعمره لا يتجاوز اثنا عشرة سنة نحو فرنسا، وجد نفسه كالتائه الذي لا يعي شيئا، يكتب قائلا: ''لطالما عشت الوحدة القاتلة بسبب هذا الشتات الذي جعلني أنتقل فجأة من مكان ألفته إلى مكان آخر لا يشبهني''. لقد كانت المطالعة من أهم الأسباب التي حررته من هذه الوحدة التي استولت عليه في تلك الفترة الحرجة من تاريخ حياته كطفل وكمراهق فيما بعد. القراءة كانت عزاءه وهو يعيش أزمة الهوية، فهو لا يستطيع أن يعترف بجزائريته ويهوديته في آن واحد. العلاقة شائكة، تحتاج إلى جملة من المعادلات معطياتها لا توجد إلا في ملابسات حياة هذا الرجل الذي ولد بقسطينة عام .1950 مدينة سحرت ستورا، على اعتبار أنها مدينته ومدينه اليهود، فهي كما يقول المدينة الوحيدة التي يتحدث فيها اليهود بالعربية.

ويعترف ستورا أنه أول مرة رفع صوته عاليا ليكشف عن هويته كجزائري ويهودي، كان ذلك خلال أحداث ماي 1968 عندما فجر اليسار المتطرف، وعلى رأسهم الفيلسوف الشهير جون بول سارتر، معاركه في فرنسا من أجل الديمقراطية وحماية الحريات الفردية والجماعية في فرنسا التي تتباهى بشعارها المثلث.

في هذه المرحلة، بدأ ستورا يتحرر شيئا فشيئا من عبء هذه الهوية التي أنهكته، وانطلق في رحلة أبحاثه ودراساته التي قطع فيها شوطا مهما في الكشف عن واقع الاستعمار في الجزائر، ومجموع الانزلاقات لبعض قادة الكفاح المسلح، لكن يبدو أن رحلة البحث الموضوعية في تاريخ الجزائر ستجعله يقف للحظة عند حدث هام كان له بالغ الأثر في حياته جعله يكتب هذه الشهادة. كان ذلك عندما دخل بيته بعد رحلة نقاهة طويلة في أحد المستشفيات الفرنسية على إثر عملية خطيرة أجريت له بعدما سقط في أحد مدرجات جامعة سان دوني، وكادت أن تنتهي حياته لولا تدخل أحد الأطباء الحاضرين والذي قام بإنعاشه على الفور.

الفترة التي قضاها ستورا في المستشفى جعلته يعيش حياة موازية بين الحلم والحقيقة بين الماضي والحاضر. لقد عادت إليه أطياف ابنته التي غادرته إلى الأبد في سن اثنا عشرة سنة بسبب مرض السرطان، وزوجته التي تموت بصمت في ذلك المستشفى الذي لم يفرغ من أصدقائه. في تلك اللحظات المؤلمة، وتحديدا في ,1995 لم يكف عن التفكير في الجزائر التي استسلمت لحمامات الدم عقب استيلاء الإسلاميين على السلطة وتوقيف الانتخابات. يكتب ستورا: ''لقد كان المستشفى بالنسبة إليّ بمثابة مخبإ جعلني أهرب من كل تلك الضوضاء والبلبلة التي سيطرت على تفكيري''. المستشفى كانت عزاءه ليغنم براحة مؤقتة، أو لنقل ليخدر تفكيره، فهو لا يتوانى في التذكير بأن الجزائر هي جرحه الذي لا يندمل. لقد ظهر ستورا بقوة منذ سنة 1992 عبر الحقول الإعلامية الفرنسية والجزائرية، ليس فقط كمؤرخ مختص في تاريخ الجزائر، ولكن كخبير أيضا للأزمة التي كانت تعيشها الجزائر في تلك الفترة والحرب الشرسة بين السلطة والإسلاميين. يقول ستورا: ''لقد كنت أقفز من بلاتو تلفزيوني إلى آخر، من حصة تلفزيونية إلى أخرى إذاعية، الهاتف لا يتوقف عن الرنين. هذه الأربع سنوات جعلتني أظهر بقوة للواجهة الذي تميز باعتراف من البعض وغيرة شرسة من طرف الآخرين، لأن السؤال المطروح كان: ''لماذا هو؟''. السؤال لم يكن بريئا، لأن ''هو'' يحمل ''المؤرخ الجزائري'' و''اليهودي'' مضافة إليها الفرنسي، وكلها ميزات لها قدرتها على الاتهاب وكفيلة بأن تثير حفيظة أي كان من المتطرفين من مختلف الأطراف. وتلك كانت مصيبة بنيامين ستورا، لأنه سيطرح السؤال فيما بعد، وهو سؤال موضوعي جدا أنقذ ستورا رغم ما تعرض إليه من الرعب من السقوط في فخ الذاتية.

يواصل المؤرخ شهادته: ''على سرير المستشفى، كنت أشعر بالحماية، أكاد أكون ؟؟؟ بسبب جرعات المورفين المنتظمة، كنت أشعر أنني أحلق.''. لكن يبدو أن هذه الفترة التي قضاها ستورا شبه نائم ستجعله يستيقظ بعدها على كابوس مرعب كان محورا أساسيا في كتابه، وهو التابوت الذي وصله في مغلف عبر بريده الخاص. لقد نجا من الموت، ليجد نفسه مباشرة بعد دخوله إلى بيته مهددا به مرة أخرى عبر ذلك التابوت الخشبي الذي تلقاه صباحا مرفقا برسائل صوتية في هاتفة إما باستعمال آيات قرآنية أو زفزات مخيفة في جوان 1995 مباشرة بعد عودته من المستشفى.

رغم هول الصدمة، إلا أن ستورا لم يفقد صوابه، ولم يقم بسلسلة من الاتهامات النمطية، أي التهجم مباشرة على الإسلام. لقد حاول وضع مجموعة من الفرضيات بقول: ''قد يكون الإرهاب الإسلامي، وقد تكون دوائر خفية في فرنسا أو اليمين المتطرف الذي يسعى إلى تصفيته''. وهذا ما قصد به ستورا في بداية حديثه أن سؤال لماذا هو لم يكن بريئا بقدر ما يحمل الكثير من هويته المتشابكة والشائكة أيضا. لم ينطلق المؤرخ بالتهم النمطية التي عمد الغرب في تلك الفترة إلى وضعها جزافا بسبب الرواسب التاريخية والخلفيات المغلوطة حول الإسلام. في هذا السياق، يذكرنا ستورا بمثله الأعلى المؤرخ روبرت أجيرون الذي نحت فيه روح الدراسة الموضوعية، أي على المؤرخ أن يتجنب الذاتية لكتابة التاريخ، وذلك بتناول الأحداث بحذر دون أخذ بعين الاعتبار الإيديولوجيا التي يتنمي إليها، خاصة وأن مهمة المؤرخ كتابة التاريخ وقول الحقيقة كما هي، وليس كما نريد أن تكون. وتجدر الإشارة إلى أن المؤرخ شارل روبرت أجيرون كان معلما في إحدى ثانويات الجزائر العاصمة في 1957.

لا يتوانى ستورا في كتابه في أن يذكرنا بأنه كان شديد الصلة ببلده الجزائر، إلى درجة أنه اختار الفيتنام كملجإ ليحتمي به، بعدما عرضت عليه الشرطة الفرنسية اختيار أي بلد خارج فرنسا ليعيش بعيدا عن تهديدات الموت. لقد غادر الخبير في تاريخ الاستعمار فرنسا نحو هانوي هو وعائلته في ديسمبر1995 . صحيفة ''لاكروا'' هي الوحيدة التي نشرت أحداث هذا الرحيل في 18 من ذات الشهر، بتوقيع من طرف الصحفية جوليا فيكاسييه التي نشرت المقال بعنوان: ''وداع بنيامين ستورا للجزائر''. تكتب قائلة: ''اليوم، لا يريد بنيامين ستورا أن يطرح السؤال حول الذنب الذي ارتكبه، ذهب بعيدا من فرنسا ليكتب عن تاريخ الحرب الأمريكية في الفيتنام. مهما قلنا، الرابطة موجودة بين الفيتنام والجزائر، بلدان عاشا حربا دموية من أجل التحرير، وتحديا أعظم القوى الغربية: فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية''.

تحدث الكاتب بإسهاب عن هذه الفترة التي عاشها خلال العشرية السوداء، رغم أنه كان بعيدا في فرنسا، إلا أنه عاش هذا الهاجس ككل الجزائريين، فقدره مرتبط بقدر الجزائر التي خرجت من حرب لتدخل حربا أخرى، وهو دائما مرتبط بها لاشعوريا، باعتباره مؤرخا وجزائريا ويهوديا وفرنسيا. وإلى جانب شهادته حول تهديدات الموت التي يكشف عنها بالتفصيل لأول مرة، نجد الكثير من الأحداث التاريخية التي ميزت مسيرة حياته ودراساته التاريخية حول الثورة، وتحديدا عمله الاستثنائي حول زعيم الحركة الوطنية مصالي الحاج والعديد من قادة الثورة، خاصة أولئك الذين أثاروا الكثير من الجدل كشخصية محمد حربي، وجاءت في أربعة فصول ثرية.

الكاتب: بنيامين ستورا

الناشر: ستوك

عدد الصفحات: 177 صفحة.