كيف أتعامل مع والدي
16-09-2009, 08:11 PM
كل ما في هذا الوجود .. الذرّة والكواكب والنبات وظواهر الطّبيعة تسير وفق قانون ونظام .. ومثلها الحياة البشريّة ، فهي لا يمكن أن تسير بشكل طبيعي وسليم ، ما لم يكن هناك قانون ونظام .. فكلّ شيء في مجتمعنا بحاجة إلى نظام .. المؤسّسات والشّركات ودوائر الدولة والمنظّمات ... إلخ ...
والاُسرة مؤسّسة مهمّة من مؤسّسات المجتمع ، فهي تحتاج إلى قانون ينظِّم الحياة فيها ، والعلاقات بين أفرادها .. وهذا ما فعلته الشريعة الاسلامية ، فحدّدت الحقوق والواجبات .. وكما نعرف فانّ من نظام الدّوائر أن تكون لها إدارة ، ومدير يديرها ، ويُطبِّق القانون فيها ..
وطبيعة الحياة في الاُسرة، تجعل من الأب مديراً للاُسرة ، ومسؤولاً عنها . وشاء الله سبحانه ذلك ، فجعل للأب الولاية على أبنائه الصِّغار غير البالغين ، وكلّفه بالنفقة عليهم وبتربيتهم .. كما كلّفه بالنّفقة على زوجته وتحمّل مسؤوليّات الاُسرة ..

لذا فمسؤوليّة الأب تكبر مسـؤوليّات الآخرين في الاُسرة .. ولذا أيضاً أمر الله سبحانه الأبناء باحترام الوالدين ، وبطاعتهما ما زالا يوجِّهان الأبناء لحفظ مصالحهم ..
فالأب يشعر باهتمام كبير ، وحرص شديد على أبنائه ، ويسعى بكل جهده لتحقيق مصالحهم ، فهو يريد أن يراهم متفوِّقين في وضعهم الدراسي .. ويريد أن يسمع عنهم السّمعة الطّيِّبة بين الناس .. ويريد أن يراهم مُجدِّين في العمل .. ويريد أن يراهم بعيدين عن المشاكل التي تجلب له الأذى والسّمعة السّيِّئة ، وتحمّله التبعات والخسائر ، ونقد الناس وعداوتهم .
فالأب يشعر بكلِّ إحساسه ووجدانه أنّ أبناءه يمثِّلون وجوده وشخصيّته ، وهم مشروع حياته .. وقد بذل من الجهد والمال والتّعب والعناء ما لا يستطيع الأبناء تعويضه .. وما لا يستطيع هو استرجاعه .. لذلك يشعر بالألم والإحباط عندما يرى أبناءه قد فشلوا في حياتهم ، أو تحوّلوا إلى أشخاص سيِّئين في المجتمع ، يجلبون له ولاُمِّهم ولاُسرتهم الأذى والسّمعة السّيِّئة ..
بينما يشعر بالسّرور والإرتياح والإحساس بالنّجـاح في حـياته ، عندما يرى أبناءه ، ذكوراً وإناثاً ، قد حقّقوا تفوّقاً في حياتهم ، وهم في وضع اجتماعي محترم .. يوفِّرون له السّمعة الطّيِّبة ، والرّاحة والوقت ، بسبب سلوكهم الجيِّد .. في دراستهم .. في علاقاتهم مع أصدقائهم .. في علاقاتهم الودِّيّة فيما بينهم ، كأخوة متحابِّين متعاونين ..
لذا نجده يتأذّى ، ويشعر بالألم ، ويُحاسِب أبناءه عندما يراهم قد ارتكبوا سلوكاً سيِّئاً ، أو يحدثون مشاكل وحالات إزعاج في داخل البيت ، أو فاشلين في دراستهم ، أو يُصاحبون أصدقاء السّوء .. ويتعوّدون العادات السّيِّئة ; كالتبذير والتدخين واللّهو ، أو يطلقون الكلمات البذيئة والجارحة للآخرين ..
إنّ السلوك السّيِّئ يكشف عن سقوط الشخصيّة ، ويُصوِّر للآخرين أنّ هذا الانسان السّيِّئ قد نشأ في اُسرة سيِّئة ، فتنعكس آثارها المخجلة على الأبوين .
تلك هي مشاعر الأب وأحاسيسه تجاه أبنائه ، قد لا يفهمها الأبناء .. فتحدث المشاكل ، وتسوء العلاقة أحياناً بين الأبناء وآبائهم ; لذا فانّ فهم الأبناء لمشاعر الآباء والاُمّهات تجاههم ، يحلّ كثيراً من المشاكل ، ويكوِّن روح التفاهم ويعمِّق المحبّة .. ويجعل الأبناء يتفهّمون غضب الآباء والاُمّهات من هذه الأعمال السّيِّئة ، ويحرصون على احترام مشاعر والديهم .
إنّ بناء الاُسرة السّعيدة ، هو بناء أخلاقي ومادِّي معاً ، وأنّ السّعادة تتحقّق في القضايا الأخلاقية قبل المادِّية ..
إنّ هناك اُسساً للعلاقة السّليمة بين الأبناء والآباء والاُمّهات التي تضمن السّعادة ومرضاة الله للجميع ..

إنّ حاجة أفراد الاُسرة .. الأبناء والاُخوة والآباء إلى الحبّ والاحترام المتبادَل ، كحاجة النّبات إلى ضوء الشّمس .. وبالحبّ والاحترام جاءت الرسالة الاسلامية وبنت الحياة على أساسها ..
فشخصيّة الانسان تترعرع وتنمو وتتكامل في ظلِّ الحبّ والاحترام..
وتحت كابوس الكراهية والإهانة تُقتَل الشخصية ، وتذهب قيمة الفرد ، وتموت مشاعره النّبيلة .
لذا نجد الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يوضِّح أنّ حقيقة الاسلام هي الحبّ ، جاء ذلك في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : « ... وهل الدِّين إلاّ الحبّ» .
وانطلاقاً من هذا الأساس ، حثّ الآباء على حبِّ الأبناء ، والعناية بهم .. وحثّ الأبناء على حبِّ الآباء ، والبرِّ بهم ، والإحسان إليهم ..
والقرآن يؤكِّد على كرامة الانسان ، وحقِّه في احترام شخصيّته بقوله :
(وَلَقَد كَرَّمْنا بَني آدَمَ وحَمَلْناهُم في البَرِّ والبَحْرِ وَفَضَّلناهُم عَلَى كثير مِمَّن خَلَقْنا تَفْضِيلاً ). ( الإسراء / 70 )
ويدعو الأبناء إلى حبِّ الآباء واحترامهم بقوله :
(ولا تَقُل لَهُما اُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُما ). ( الإسراء / 23 )
(وقُلْ رَبِّ ارحَمْهُما كَما رَبَّياني صَغِيراً ). ( الإسراء / 24 )
(وصاحِبْهُما في الدُّنْيا مَعْرُوفاً ). ( لقمان / 15 )
وجاء في حديث آخر الحث على حبِّ الأبناء لآبائهم ، واعتبار هذا الحبّ عبادة. قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «نظر الولد إلى والديه حبّاً لهما عبادة» .
وجاء في بيان الرّسول الكريم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : «إنّ الله ليرحم العبد لشدّة حُبِّه لولده» .
إنّ الأبناء يستطيعون أن يتعاملوا بشكل سليم مع آبائهم إذا فهموا فضل الأبوين في التنشئة والتربية ، ومنح الحبّ والإخلاص ..
إنّ القرآن الكريم يشرح هذه الحقيقة للإنسان عندما يؤسِّس العلاقة على أساس الاعتراف بالفضل .. يوضِّح ذلك بقوله تعالى :
(... أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالدَيكَ إلَيَّ المَصِير ). ( لقمان / 14 )
وشكر الُمحسِن ، والاعتراف بفضله ، وردّ الجميل إليه .. صفة أخلاقيّة رفيعة .. يثبِّتها القرآن بقوله :
(هَلْ جَزاءُ الإحْسانِ إلاّ الإحْسانُ ). ( الرّحمن / 60 )
وعندما تتحرّك مشاعر الإبن ووجدانه على أساس من هذه القاعدة الأخلاقية ـ مقابلة الإحسان بالإحسان ـ يشعر الأبناء بأ نّهم مدينون للآباء ، حتّى فيما يتضايقون منه من نصائح وإرشادات ومحاسبة ، أو انفعال وغضب لأجل الأبناء .. فإنّ مبعث ذلك في نفس الأبوين هو الحبّ والحرص .. وليس المقصود منه عدم احترام شخصيّة الإبن ، أو مصادرة حرِّيّته أو المنِّ عليه .. فإنّ الأب يؤدِّي واجبه مسروراً تجاه أبنائه ..
وإذاً فعلى الأبناء أن يؤدّوا الواجب مسرورين تجاه آبائهم ..
وكما تقوم العلاقة بين الأبناء والآباء على اُسس الحبّ والإحترام ، تقوم أيضاً على اُسس مادِّية .. فالأبناء يعتمدون على آبائهم في حياتهم المادِّيّة حتّى إكمال دراساتهم ، أو دخولهم ميدان العلم ، بعد القدرة على ممارسة الأعمال .. وخلال الفترة هذه يشعر الأبناء بالإرتباط النفسي والمادِّي بالآباء ..
وكثيراً ما يحدث توتّر في العلاقات بسبب المشاكل المادِّيّة .. بسبب الشُّح والمنّ الّذي يصدر عن بعض الآباء ، أو بسبب التبذير ، وعدم تقدير ظروف الآباء المادِّيّة من قِبَل الأبناء ، أو بسبب الاتِّكاليّة واستمرار الاعتماد على الآباء مادِّيّاً ، حتّى مع القدرة على العمل ..
ومسؤوليّة حلّ مثل هذه المشاكل تقع على الطرفين .. فالإبن مسؤول عن تقدير ظروف والديه المادِّيّة ، والأبوان مسؤولان عن التعامل المادِّي والأدبي مع الأبناء بالإحسان والمعروف ، والتوجيه البنّاء ، والإبتعاد عن عبارات الإساءة ، وجرح المشاعر .
إنّ الإحساس باستقلال شخصيّة الإبن عن أبويه حقّ طبيعي للأبناء .. فالإنسان تكتمل شخصيّته ، وتنضج في سنّ البلوغ ، فيصبح مكلّفاً شرعاً .. وبالتكليف تستقلّ شخصيّته عن والديه ، ولكن تبقى بحاجة إلى الإرشاد والتجربة والنصح والتوجيه ، حتّى تكتمل معلوماته وخبراته الذاتية . كما يبقى في كثير من الأحيان بحاجة إلى الرعاية المادِّيّة والاجتماعية التي يقدِّمها له أبواه حتّى يستقلّ بتوفير حاجته المادِّيّة ..
إنّ حُسن التصرّف المادِّيّ من الأبناء يدلّ على نضج الشخصية ، وسلامة الشعور ، واحترام جهود الأبوين ..
والأب ليس مسؤولاً من الناحية الشرعية عن النفقة المادِّيّة على الأبناء بعد سنّ البلوغ ، ولكن يبقى الارتباط العاطفي والوجداني ، وإحسان الأبوين وحبّهما للأبناء ، وحرصهما على سعادتهما ..
والعلاقة مع الأبوين علاقة وجدانية وأخلاقية وعبادية ، ومسؤولية أمام الله والوجدان والمجتمع .
ولكلّ من الأبناء حقوق على آبائهم ، كما على الآباء حقوق على أبنائهم . ويزداد حقّ الأبوين أهميّة عندما يكبرا ، أو يعجزا عن العمل ، والقيام بشؤونهما الشخصية .. وفي هذه الحالة تزداد أهميّة البرّ والإحسان بالأبوين ..
إنّ الصّوت الهادئ ، وكلمة الاحترام ، والإبتسامة الوديعة ، عند الحديث مع الأبوين .. إنّ كلّ تلك المواقف تجعل منك شخصية تستحق الاحترام ، ومرضاة الله سبحانه .. وليس من خُلق الإنسان الّذي يحترم نفسه ، ويتّصف بالخُلق الرّفيع أن يرفع صوته بوجه والديه ، أو يطلق عبارات الانفعال والغضب عليهما ، أو يسيء أدب الحوار والتفاهم معهما .. (ولا تَقُل لَهُما اُفٍّ ولا تَنْهَرْهُما ) ، (وقُل لَهُما قولاً كريماً ) ..
ولنطمئن أنّ الأبناء مهما وهبوا آباءهم من مشاعر الحبّ والاحترام فانّ قلب الأبوين أوسع حبّاً ، وأكثر حناناً .