تسجيل الدخول تسجيل جديد

تسجيل الدخول

إدارة الموقع
منتديات الشروق أونلاين
إعلانات
منتديات الشروق أونلاين
تغريدات تويتر
  • ملف العضو
  • معلومات
أرسطو طاليس
زائر
  • المشاركات : n/a
أرسطو طاليس
زائر
مقالات الطيب صالح في "المجلة" (4)
02-03-2009, 06:57 AM
الطيب صالح: صنــاعــة الأسمــاء
الطيب صالح
05/06/2008
* يقول الأستاذ الدكتور عبد الرحمن بن سعيد الحميدي، في دراسة حسنة عن تعليم الكبار ومحو الأميّة في المملكة العربية السعودية .”إن التغلب على مشكلة الأميّة يعني بناء أمة قادرة على الإنتاج، تتكيف بالتغيّرات الحضارية ذات قدرة ومهارة فنية، وذات آفاق واسعة قابلة للتفاعل مع برامج التنمية. ميّالة إلى العمل الجماعي، مؤمنة بأهمية العلم والتعليم والتكنولوجيا، وناظرة إلى المستقبل أكثر من الماضي والحاضر”.
ها هنا بالطبع تأكيد على الجانب التنموي في قضية مكافحة الأمية، وهو عين الصواب، و الجانب الذي أخذ يلفت انتباه المنظمات الدولية التي تهتم بالتنمية أولاً وآخراً، مثل البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية. وقد كانت هذه المنظمات لا تكترث للأمية، وتعتبرها عرضاً سوف يزول بزوال الفقر. ثم أدركت بعد أمد أن الفقر لن يزول ما دامت ثمة أميّة. أما أن تكون الأمة “ناظرة للمستقبل أكثر من الماضي والحاضر”، فهذا قول تختلف بصدده الآراء. ومن جميل ما قيل عنه، ما كتبه المرحوم الدكتور محمد إبراهيم كاظم أستاذ التربية في جامعة الأزهر، ومدير مكتب اليونسكو الإقليمي للتربية سابقاً في ورقة له عن “بناء القيادات لمواجهة تحديات العصر” يقول:
“ومحاولاتنا لرؤية المستقبل، إنما هي في صميمها تحليل منظومي أو نسقي للماضي والحاضر في محاولة لصياغة وتشكيل المستقبل. هذه الصياغة لا يمكن أن تنفصل عن تفضيلاتنا ورؤانا في الحاضر واستهدافنا لصياغة مقصودة ومفضلة لمكوّنات الأحداث والأشياء والأشخاص والأفكار حتى تقع وفق هذه الرؤية. والفرق بين الرجم بالغيب المنهي عنه، والدراسات المستقبلية التي نهتم بها من قبيل الاهتمام بأمور الجماعة والمجتمع، هو أن الدراسات المستقبلية تبدأ في ضوء الحاضر أياً كان، وأياً كان رأينا فيه، بتصور الصيغة التي تمثل تفضيلاتنا لمسارنا نحو المستقبل، وتبين أن هذا المستقبل، لكي يُرجح وقوعه، يحتاج إلى توفير مقوّمات ومكوّنات، كما يحتاج – إذا كان موقفنا إيجابياً – إلى الإيمان والعلم والحساب والخيال والأمل والطموح”.
وأهم من محض التنمية عندي، أن الإنسان الأمي حين ينفض عنه أغلال أميته، فإنه يصبح هو نفسه، في حد ذاته، إنساناً أفضل، إنساناً أكثر انفتاحاً على آفاق الكون الرحبة وأسراره التي تُغري بالاكتشاف. ولا تعود حياته تقاس بعدد الأعوام التي قضاها على وجه الأرض، ولكن بدرجة عمق تجربته الفكرية والروحية، ومدى قدرته على التواصل مع نفسه ومع الآخرين ومع أصوات الحياة في الكون. وقد عبّر عن هذا المعنى أجمل تعبير المفكر البرازيلي الذائع الصيت، باولو فريري، في عبارة أوردها الدكتور محمد نبيل نوفل في الفصل الجميل عن هذا المفكر في كتابه القيّم “دراسات في الفكر التربوي المعاصر”، يقول باولو فريري، وهو واحد من الأقطاب الذين جاؤوا بمفاهيم عميقة طريفة، عن قضية الأهم في العالم.
“لا يمكن أن يكون الوجود الإنساني صامتاً. ولا يمكن أن يعيش على الألفاظ الجوفاء، بل يعيش على الكلمات الصادقة وحدها. الكلمات التي يغيّر الإنسان بها العالم. أن تعيش، إنسانياً، معناه أن “تسمّي العالم”. أو بعبارة أخرى أن تدرك العالم، وأن تتخذ منه موقفاً إيجابياً، وأن تعمل على تغييره. وعندما “نسمي العالم” فإنه يبدو لنا كمشكلة تتطلب تسمية جديدة، أي أننا عندما ندرك العالم المحيط بنا، وتتعرف عليه وعلى التناقضات الموجودة فيه، حينئذ تبرز أمامنا مشكلات تفرض علينا أن نجد لها حلولاً وحين يتغير العالم فإنه يناشدنا أن نتعرف عليه وندركه من جديد، وأن نتعامل مع الواقع الجديد ونحاول تطويره وحل مشكلاته باستمرار...”.
ويستطرد الكاتب قائلاً:“... الحوار لقاء بين الناس من أجل “تسمية” العالم، لذلك لا يمكن أن يقوم حوار بين من يريدون تسمية العالم ومن لا يريدون ذلك، بين من ينكرون على غيرهم الحق. ومن ثم يجب على من حرموا هذا الحق في تسمية العالم، أن يستعيدوا أولاً هذا الحق الطبيعي، وأن يمنعوا استمرار هذا العدوان اللا إنساني”.
وأول خطوة في سبيل استعادة هذا الحق، هي اكتساب القدرة على التعامل مع الرموز التي تتشكل منها “الأسماء”. وقد بسطت لك قبلاً، كيف أن أول ما فعله الـ “أبو روجنيز” سكان أستراليا الأولون، منذ أكثر من خمسين ألف عام، أنهم “سموا الأسماء”. ثم جاء الأوروبيون، ومحوا تلك الأسماء القديمة وفرضوا بدلاً عنها أسماء جديدة، وحالوا بين الـ “أبو روجنيز” وبين أن يستعيدوا في ذاكرتهم الأسماء التي ضاعت منهم. وبهذا المعنى يمكن القول أيضاً، إن كل ما يشكو منه العرب اليوم، من تشويه لتصوراتهم عن أنفسهم، وازدراء لحضاراتهم، وتزييف لمساهماتهم الإنسانية في الماضي والحاضر، إنما يدخل في باب الحرمان من الحق المشروع لكل الناس في المساهمة في “صناعة الأسماء”.
وعندي أيضاً، أنه ليس محض صدفة، أن العرب في جاهليتهم، كانوا يحتقرون القراءة والكتابة ويعدّونها ضرباً من السحر والكهانة. وقد تواترت أمثلة كثيرة على ذلك، منها ما روي عن الشاعر النجدي النابغة ذي الرمة أنه كان يُملي قصيدة على كاتب يكتبها له. ووجد أن الكاتب قد أخطأ في كلمة، فقال له: “اكتبها هكذا”. فقال الكاتب متعجباً “أو تكتب؟” فقال ذو الرمة “نعم. ولكن اكتم عنّي”.
هكذا كانوا يرون الجهل حسنة، ويرون العلم مسبة، فلا غرو أنهم عبدوا أصناماً لا تنفعهم ولا تضرهم. إلى أن بعث الله سبحانه وتعالى إليهم، رسولاً منهم، يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وتقول “ ولكنه هو نفسه كان أمياً ولا يقرأ ولا يكتب”. بلى، ولكنك تعلم، أنه صلى الله عليه وسلّم، كان له شأن آخر. كان قلبه العظيم مفتوحاً على أسرار الكون، يتلقاها من لدُن حكيم عليم. كان فوق الكلمات والحروف، لأنه مفتاح خزائن الأسرار، ومنبع تجليات الأنوار. ومع ذلك فقد كان يحض المسلمين على تعلم القراءة والكتابة، وكان يعتق الأسرى لقاء تعليم عدد من المسلمين. وقد كانت تلك أول حملة لمكافحة الأمية في جزيرة العرب، بل وفي العالم.
يذكر الدكتور عبد الرحمن بن سعد الحميدي، في دراسته الحسنة عن مكافحة الأميّة في المملكة، سببين أساسيين أعاقا الجهد السعودي، أولهما هو:
“تأثير المناخ الاقتصادي المزدهر في المملكة كعامل سلبي في جهود محو الأمية، إذ إنه يقلل من أهمية الحوافز المادية المقررة، كما يقلل في نظر الأميين، من أهمية التعليم كضرورة لتحقيق الرخاء الاقتصادي لعدم إحساسهم بالحاجة إليه ولانصرافهم إلى اغتنام الإثراء المُتاح بوفرة ويُسر”. حقاً، هذا عائق أساسي لأن من أهم الحوافز التي تدفع الأمّي إلى التعلُم، الرغبة في تحسين حالته المعيشية. وإذا كانت حالته حسنة بطبيعة الحال، فما الذي يجعله يغامر بالدخول في عالم جديد عليه كل الجدّة، يتطلب منه بذل الجهد، وإعمال الفكر، خاصة إذا كان قد تقدّمت به السن، واستقرت حياته على وتيرة معيّنة؟
ويمضي الدكتور الحميدي في سبْر هذه العلّة فيقول:
“ولا نستغرب هذه النتيجة في مجتمع كان ولا يزال يطمع لتحقيق برامج طموحة أتاحت فرصاً للعمل أمام جميع أبنائه، بما فيهم الأميون، دون أن تضع قيوداً أو شروطاً تمنع الأمّيين من الحصول السهل على العمل، بل والعمل المجزي مادياً، الأمر الذي جعل من العمل المجزي دافعاً لهم للعزوف عن الالتحاق بمدارس محو الأمّية”.
هذا قول فيه نظر، وينطوي على تطرّف إلى النقيض ربما دفعت إليه حسن النيّة أما أن الأميّة داء يجب القضاء عليه فذلك حق .وأما أن الأمي مُصاب يُعزل كما يُعزل الجمل الأجرب ويُحرم حق العمل، فذلك مذهب بعيد لم يذهب إليه أحد. وإذا كان صاحب العمل لا يأنف من تشغيل الأمّي رغم أميته، فلماذا تتدخل الدولة لتحول دون ذلك، مع العلم بأن حق العمل حق أساسي أقرته وثيقة حقوق الإنسان في المجتمع الدولى؟ لا. أفضل من ذلك ما هو متبع الآن ومعمول به في المملكة العربية السعودية وفي دول عربية أخرى. ذلك أن يُكافأ الأمّي على محو أميّته .
  • ملف العضو
  • معلومات
أرسطو طاليس
زائر
  • المشاركات : n/a
أرسطو طاليس
زائر
رد: مقالات الطيب صالح في "المجلة" (4)
02-03-2009, 07:00 AM
الطيب صالح: عندما يستبدل الماضي بحاضر بشع
الطيب صالح
14/06/2008


> بلى، المدن مثل البشر، لها ظاهر وباطن، تُخفي عنك وجهاً وتلقاك بوجه. إلاّ أن هذه المدينة، كأنها بلا أسرار، وكأنّ ظاهرها هو باطنها .
السائق الذي استقبلني في المطار، إذ إن الهوتيلات في “ بانكوك “ ترسل لك سيارة تستقبلك في المطار، لم يمهلني طويلاً. لم تكد السيارة تتحرك، حتى التفت إليّ وعلى وجهه ابتسامة بريئة، نعم بريئة براءة حقيقية، وسألني :
“ ما هي رغبات سعادتك ؟ ما هو الصنف الذي تفضله ؟ قل لي بصراحة. كل شيء متوافر “.
كانت إجراءات المطار قد تمت بسهولة، فالسياحة عندهم مصدررئيسي من مصادر الدخل، والكتب السياحية تقول لك إن في مدينة “ بانكوك “ ما يرضي كل “ الأذواق “ حتى الفيزا، تحصل عليها دون مشقة في المطار.
لم أضع وقتاً في سؤاله عن قصده، فقد فهمت قصده. قلت له :
أنا متعب الآن. بعد أن أستحم سوف أخبرك بـ “ رغباتي “. كان الفصل صيفاً، وهذا مناخ استوائي. والمكان كأنه .. كأنه .. بماذا يذكرني هذا المكان والطائرة، هذه الركوبة المجنونة، تنقلك في لمح البصر من مناخ إلى مناخ، ولا تترك فرصة لخيالك كي يلحق بك.
نثرت أشيائي في الغرفة فصارت أقل وحشية، غرفة غريبة في بلد غريب، في أفق بعيد.
نظرت من النافذة إلى النهر، الذي أصبح منذ الغد “ نهر الملوك “. إنه الآن قبيل الغروب نهر عادي، وهذا يكفيني. تستطيع أن تتخيل لوهلة أنك في القاهرة أو الخرطوم. الناس على الجسور، والسيارات تروح وتجيء، وهذا النهر كسائر الأنهار، يعطي المدينة وزنها وطابعها، ويحدد أبعادها، فكأنه مغناطيس يجذب إليه الحياة على الضفتين.
لأنني نشأت على ضفة نهر، فأنني أعتاد أسرع على المدن التي تقوم على ضفاف أنهار. أول ما قدمت مدينة الدوحة، قضيت زمناً وأنا أحس أن المدينة كأنها بلا مركز ثقل. وكأنها معلقة في الهواء. ثم أدركت أن سبب هذا الإحساس أن المدينة لا تقوم على ضفة نهر، وليس فيها سكك حديدية فلا تسمع ذلك الصوت المثير، صوت قعقعة القطارات أواخر الليل، طبعاً ألفتها بعد ذلك وأحببتها كما هي.
كنت قد تمهلت وأنا أتعرف على سكني الجديد الذي سوف يؤويني بضع ليالٍ ثم أرحل عنه، وقد لا أعود إليه أبداً. ونسيت أمر السائق الذي أوصلني من المطار. ولم يخطر لي أنه سوف يأخذ مزاجي مأخذ الجد ،لذلك دهشت حين وجدته ينتظر عند باب النزل. أسرع نحوي :
“ ها ؟ هل ارتحت الآن ؟ “.
قلت له :
“ لسَّع. لا أزال متعباً “
“ غداً إذاً ؟ “.
“ نعم، غداً “.
تسكعت قليلاً غير بعيد من الـ “ هوتيل “، إعلانات “ مقاصر التدليك “ وصور النساء، شبه عاريات، تحاصرك من كل جانب. وسط المدينة، مثل كثير من مدن العالم، ليس فيه شيء يميّزه، وهذه البضاعة المعروضة في السوق، تزيد المكان قبحاً على قبح. وقد اتضح لي فيما بعد، أن مصيبة هذه المدينة أنها قطعت الوشائج بين ماضيها وحاضرها. وهي مدينة ليست وليدة اليوم، فقد أنشئت منذ أكثر من مائتي عام. الماضي تجده في المتاحف والمعابد والأبنية القديمة، وهنا هذه الحياة “ الحديثة “ بكل آفاتها منفصلة لا تمت إلى ذلك الماضي بصلة. الأمر ليس سهلاً، ونحن أيضاً. انظر إلى القاهرة المحروسة. في الوسط، تلك العمارات التي تُعد تحفاً في فن المعمار، انظر إلى منظرها الكئيب وهيئتها الرثة، وإلى الخراب الذي حاق بالمدينة على أيدي المقاولين والتجار ،رحم الله حسن فتحي الذي كان يصرخ في البريّة. والخرطوم أتعس حالاً. تلك المدينة التي تقوم في موقع من أجمل مواقع المدن في العالم، أي بشاعة حاقت بها من سوء التخطيط وقلة الذوق ! هل نحن حقاً فقراء إلى هذا الحد ؟
وقفت سيارة أمريكية فارهة، فيها امرأتان. التي تجلس وراء عجلة القيادة كأنها خليط من دم صيني ودم أمريكي. أنثى لا مراء في ذلك، ولكن شعرها قصير جداً “ ألا جارسون“ كأنها غلام .
قالت : “ هل تحب أن تمضي وقتاً طيباً ؟ “.
يا له من سؤال ! ومن ذا الذي لا يحب أن يقضي وقتاً طيباً في هذه الحياة الدنيا ؟ ولكن ما أبعد هذا الذي يدعونني إليه من ا لوقت الطيب! أليس كذلك يا أخا كِندة؟ ما لك أخلدت إلى الصمت ؟ ألم تقل شعراً يصلح لهذا المقام؟
لا عليك، فأنا أعلم أنك تسمو عن هذا، وتربأ بنفسك عن مثل هذه القاذورات ولا تثريب عليك أنك جريت وراء خيالك أبعد قليلاً مما يجوز، حين قلت :
عُد وأعدها فحبذا تـــلـــف
ألصق صدري بـ ( .. ) الناهد.
قلت للمرأة مازحاً :
“ هل أنت بنت أم ولد ؟ “
لم أتوقع ما حدث، وانتابني ما هو أكثر من الدهشة، إذ إن المرأة كشفت فجأة بحركة غاضبة عن صدر عار، صدر أنثى لا مراء في ذلك وأغلقت باب السيارة، وانطلقت لا تلوي على شيء.
أضحكني ذلك، ولا أدري ماذا كان يجب عليّ أن أفعل، فأنا بعدُ كاتب، وهذه التجارب على غرابتها حصادُ يُجمع ويُخزن إلى حين.
وجدت السائق عند باب الهوتيل، ضحك كأنه كان شاهداً على ما حدث، ضحك ضحكة بريئة بحق. البراءة ليست فضيلة في حد ذاتها، ولا بدّ لها من عزيمة تحميها. قال :
“ غداً إذاً ؟ “.
قلت له :
“ نعم. غداً “.
في اليوم الثالث قال لي السائق، ليس بغضب، ولكن كمن يعتب عليّ أنني أضيع على نفسي فرصة ثمينة :
“ ما هي حكايتك ؟ أنت دائماً تعبان .. تعبان ؟ لك ثلاثة أيام. ألن تستجم بعد؟ “ قلت له ضاحكاً :
“ تريد الصراحة ؟ ليس لي رغبة فيما تعرضه عليّ. ولكن تعال أستضيفك على شراب “.
جلسنا في مقهى النُزل، وكنت قد أشفقت عليه، وأحسست ببعض الذنب أنني ضللته. مسكين. لابد أن له زوجة وأطفالاً، ويعول والديه المسنين. واضح من وجهه الوديع أنه بار بأبويه، رؤوف بأبنائه. ليس من “ بانكوك “ على الأرجح، فأغلب سكان المدن في عالم الفقراء، العالم الماذا ؟ الثالث ؟ نزحوا إليها من الريف. كأنه من “ كوستي“ أو “ المُجلد “ أو .. “ جوبا “ .. نعم، هذا هو. هذه المدينة الاستوائية تذكرني بـ “ جوبا “ وهؤلاء الناس يذكرونني بأهل جنوب السودان، دعْك من اختلاف الألوان. هل كان عندهم في سالف العصر والأوان فردوس ثم أضاعوه ؟ إذاً لماذا لا يبكون عليه كما نبكي نحن على فراديسنا الضائعة؟
رأوا الشوارع والزحام والعمارات الزجاجية والمحلات التجارية المنسقة بأصناف السلع المستوردة. خالوا السراب ماء. صدّقوا الوعود وظنوا أن ذلك الجحيم هو الفردوس الموعود .. تركوا زراعاتهم وصناعاتهم وجاءوا يسعون وراء الحلم المستحيل.
  • ملف العضو
  • معلومات
أرسطو طاليس
زائر
  • المشاركات : n/a
أرسطو طاليس
زائر
رد: مقالات الطيب صالح في "المجلة" (4)
02-03-2009, 07:02 AM
الطيب صالح: مخلوقات دمرت الحلم الجميل
الطيب صالح
19/06/2008


* من أعجب ما سجّله التاريخ من أقوال المستوطنين البيض في أستراليا، عبارة لرجل يدعى “سي. لوكهارت”، قالها عام 1849: “لا شيء سوف يحول دون انقراض عنصر الـ “أبوروجنيز” الذين شاءت الإرادة الإلهية أن تسمح لهم بالاحتفاظ بالأرض ريثما يجيء عنصر أفضل يحل محلهم”.
هذا الرجل المغمور الذي لم ينسب له التاريخ عملاً يؤثر، استحق “الخلود” بأنه أفصح بهذه العبارة التي ظلت تزحف مع حركة التاريخ، كما يتحرك الحجر في قاع النهر. إنه عبّر دون مواربة، ودون حياء، عن مبرر أساسي من مبررات الاستعمار الأوروبي، وهو أن الأجناس غير الأوروبية، الـ “همج” في زعمهم ليسوا بشراً بمفهومهم للكلمة، ويمكن اعتبارهم غير موجودين، وأن الحيز الذي يشغلونه على سطح الأرض، هو في الحقيقة خالٍ من السكان. ولم يكتفوا بهذا الصلف العرقي، ولكنهم جعلوه قانوناً إلهياً. وأضفوا عليه مبرراً أخلاقياً. قد يكون الإله الذي تذرعوا به “برستنتياً” كما في أستراليا، أو كالفنياً كما في جنوب أفريقيا، أو كاثوليكياً كما في أمريكا اللاتينية، وقد يكون “يهوه” إله اليهود كما في فلسطين.
ويمكن أن يسمع الإنسان صدى عبارة مستر لوكهارت في عبارة جولدا مائير بعد أكثر من قرن من الزمان، “الفلسطينيون؟ أين هم هؤلاء الفلسطينيون؟”.في ذلك الصباح من شهر كانون الثاني / يناير عام 1788، حين رست سفن كابتن فيليب على شاطيء أستراليا، نظر البيض فلم تر عيونهم بشراً. رأوا شخوصاً مثل الأشباح هي في اعتقادهم “لا شيء” كانوا عراة تلمع أجسامهم في الشمس، من الدهن الذي يتمسحون به اتقاء الحشرات. على وجوههم ورقابهم علامات من طلاء. بأيديهم الرماح، وفي أنوفهم أشياء مثل الزمام. منهم من يحمل درعاً، ومنهم من يحمل آلة محدودبة.
وقف السود على صخور الشاطئ، وكانوا من قبيلة الـ “أيورا” كما نعلم الآن، ينظرون كالمسحورين، إلى المنظر الذي لابد أنه بدا لهم مثل كابوس من قوى شريرة اقتحمت حلمهم الطويل. تلك المخلوقات الغريبة التي كأنما تسلخت جلودها عنها لشدة احمرارها، أخذت تفرغ حمولة القوارب التي كانت أضخم بكثير من القوارب التي اعتادوا عليها. خرج رجال ونساء وأطفال. بعضهم كانوا يرسفون في أغلال الحديد، وبعضهم يلبسون خرقاً ممزقة، وبعضهم يحملون السلاح، ويعطون الأوامر بأصوات شرسة.
ثم نظروا بدهشة أكبر، إلى عدد منهم يتجمعون تحت شجرة. وقف رجل بينهم وتحدث فيهم بصوت عريض، كما يتحدث الرجل الكبير إلى الأطفال. ثم أخذ كأنما يتلو ترانيم سحرية، كان الجمع يرددها وراءه. ذلك الرجل، كما تحدثنا كتب التاريخ، كان قسيساً بروتستانتياً يدعى “ريتشارد جونسون”، تخرج من جامعة كيمبردج، وتشرَّب مبادئ المذهب التبشيري المتطرف الذي كان سائداً تلك الأيام. وقد انضم إلى هذه الرحلة ليخدم “الرب” في تلك الأصقاع البعيدة. سارع أول ما ألقت السفن مراسيها فأقام الصلاة شكراً للإله أنه بلغهم مقصدهم سالمين، وأنه خولهم تلك الأرض، يتبوأون منها كيف شاءوا.
كانت مهمته عسيرة، كما اتضح فيما بعد، خاصة بين قومه البيض، الذين كانوا أبعد ما يكون، عن “الآباء المهاجرين” الذين ذهبوا من قبل إلى أمريكا. وأصبح “جونسون” هذا مشكلة بالنسبة للحكام العسكريين الذين لم يكونوا يشاطرونه حماسته الدينية. نظر الفريقان بعضهما إلى بعض في لحظة نادرة من لحظات التاريخ. ولم يعِ أحدهما عن الآخر أي شيء. كان “السود” غارقين في حلمهم الذي خُيل لهم أنه سوف يدوم إلى الأبد. سوف تمضي حقب قبل أن يفهموا مغزى الكارثة التي حاقت بهم.
أما البيض فإنهم لم يدركوا – وما كان يهمهم أن يدركوا – أن تلك الأشباح كانت جزءاً من “شعب” توطن تلك الأرض منذ أكثر من ثلاثين ألف عام. جاءوا في هجرات متعددة من آسيا، عبر “تسمانيا” و “غينيا الجديدة”. انتشروا في جزيرة أستراليا بأكملها، وغطوا وجه الأرض مثل ثوب رقيق شفاف. وتقسموا إلى قبائل كان عددها نحو خمسمائة في تلك اللحظة. وكان عددهم نحو ثلاثمائة ألف.
كانوا مثل مستنقع انقطع عن نهر التاريخ، فعاشوا كل تلك القرون في عزلة تامة عن الأحداث التي ألمت ببقية سكان الأرض. ولما وصل الأوروبيون، وجدوهم لا يزالون في مرحلة البداوة الأولى، كانوا يعيشون على الصيد من البر والبحر، ويعتمدون على آلات بدائية ورغم ذلك فقد ابتكروا نظاماً مكتملاً للعيش يلائمهم تماماً، وابتدعوا “ثقافة” ليست تافهة إذا نظرت فيها بإمعان، يمتزج فيها البحر بالسماء بالطبيعة بالماضي بالحاضر بالمستقبل في عناق سرمدي أسموه “زمن الحلم”. وكانت الأرض هي مركز الحلم، إذا حرمتهم منها فقد حرمتهم كل شيء كأنما انتزعت “هويتهم” كما يُقال هذه الأيام .
تقول الأرض، بلسان شاعر أسترالي معاصر – من البيض – فالشعراء لا جنس لهم، وهم دائماً أكثر إنصافاً وأعمق إحساساً:
“... أين راح أبنائي الأبكار،
الذين أخرجتُهم من رحمي،
من زمان، من زمان؟
لماذا، لماذا يبكون ؟
ماذا حدث للأساطير،
الأساطير التي نسجتُ والقوانين؟
قل لي ماذا حدث؟
أنت الذي ولدتُ بعدهم
بزمان ،بزمان
لماذا، لماذا لا أسمع،
إلا صرخات أرواحهم تدوّي في الكهوف؟
في أستراليا أكثر من أي أرض أخرى استوطنها الأوروبيون، وقفت فلسفتان متناقضتان كلية إحداهما إزاء الأخرى. الفلسفة الأوروبية المادية في ناحية، كما تبلورت في القرن التاسع عشر، فلسفة تعتبر “الأرض” مجرد “شيء” من حق الإنسان أن يملكه ويستأثر به، ويقسمه كيف شاء، ويستغله كيفما بدا له. والإنسان، بمقتضى هذه الفلسفة، ليس الكائن البشري عموماً، ولكنه الإنسان القوي القادر، الذي اختارته العناية الإلهية وقوانين التمييز الطبيعية، أي الأوروبي، ليكون خليفة على الأرض. وكان المؤمنون بهذه الفلسفة، يستندون إلى التفوق التكنولوجي وإلى المدافع والبارود.
في الجانب المقابل، وقفت فلسفة “أسطورية. شاعرية”، ترى “الأرض” على امتدادها، كائناً حياً، يحس يتألم، مخلوقاً له قداسة مثل “كاثدرائية مفتوحة” كما وصفها أحد الكتّاب. اختار المستوطنون الأوائل أرض الـ “أبوروجنيز”. رأوا أناساً لا يشبهون أي أناس عرفوهم من قبل، أو سمعوا بهم. لم يجدوا لهم زعماء ولا معابد ولا أوثاناً يعبدونها ولا “ ديانة يؤمنون بها. ولم يكونوا يملكون شيئاً، لا بيوت ولا مزارع ولا مقتنيات ولا أرضاً. وكانوا في ترحال مستمر، دون سبب واضح، كأنهم يبحثون عن شيء مبهم ضاع منهم.
اتضح بعد زمن طويل أن الـ “أبورو جنيز” يعتبرون الأرض بأجمعها، معبداً لهم، وأن فيها علامات وألغازاً وأسراراً، لابد من مواصلتها باستمرار، وإلا توقفت الحياة،وأن “الأرض” تناديهم وتتحدث إليهم، وأن لهم طرقاً على وجه الأرض لا يخطئونها ،كما يعرف الطائر المهاجر طريقه في السماء.
  • ملف العضو
  • معلومات
أرسطو طاليس
زائر
  • المشاركات : n/a
أرسطو طاليس
زائر
رد: مقالات الطيب صالح في "المجلة" (4)
02-03-2009, 07:06 AM
الطيب صالح: مجتمع عابث تنقصه الجدية
الطيب صالح
03/07/2008


* مهما كان رأينا في أمريكا، ومهما كانت مآخذنا عليها – وهي ليست قليلة- فلابد لنا أن نعترف بأن فيها مجتمعاً مدنياً منفتحاً، ومؤسسات ديمقراطية راسخة، وصحافة حرة فاعلة، وإعلاماً عظيم المدى والتأثير. صحيح أن وسائل الاتصال الأمريكية تستجيب لضغوط مصالح معينة. وصحيح أن نوازع الربح المادي والغلبة والهيمنة تطغى أحيانا على نوازع الخير الواضحة في الشعب الأمريكي.
رغم ذلك كلّه، فإن المرء لايملك إلا أن يحس بالإعجاب والتقدير حين يجد برامج تلفزيونية تتوخى الصدق والإنصاف، ومقالات صحافية رصينة لكتاب أمناء يحاولون أن ينفذوا إلى صميم القضايا المطروحة، سواء محلية أو عالمية، ومن دون محاباة أو خوف. مثل هذه المقالات، وأيضاً مئات الكتب الجريئة التي تصدر كل عام، تجعل الإنسان يقبل أن المجتمع الأمريكي على علاته مجتمع عظيم بالفعل.
وقد لفت نظري مقالة في مجلة (هاربرزHarper’s) الرصينة لمحررها (لويس لافام) وهو أستاذ جامعي معروف.
خلاصة المقالة أن المجتمع الأمريكي مجتمع عابث تنقصه الجدية، ينقاد انقياداً أعمى لوسائل الإعلام بحثاً عن الترفيه والمتعة. ويقول الكاتب إن الفضيحة التي تتعلق بالرئيس السابق كلنتون، كانت من صنع وسائل الإعلام بغرض إثارة عواطف الجمهور ودفع الملل عنه ويقول:
“العبث وعدم الجدية يقتضى بالضرورة إيجاد وسائل للهروب من الملل. ويعني أيضاً الانغلاق على الذات والغباء، والنظر إلى الأمور التافهة على أنها مسلية، وفي رأيي أن هذه العيوب في الطبع الأمريكي،هي التي تفسر كل ماشهدناه أخيراً من لغو فارغ وغضب مصطنع على فساد الأخلاق.
وفي رأيي أن التدمير الذي لحق بالمجتمع ومؤسساته، يرجع في المقام الأول إلى هذا العبث وعدم الجدية....”وإلا كيف نفسر أن أغلبية الناخبين صوتوا لصالح كلنتون لمنصب الرئيس مرتين. ..إنه قطعاً شعب ينظر إلى الحياة السياسية، على أنها مجموعة من الألاعيب المسلية، التي يدفع بها الملل عن نفسه”.
ثم يمضى الكاتب فيقول:
“ كلنتون بلغ سن الرشد في مجتمع يطغى عليه مضيفو برامج الّلفظ واللّغو ويسيطر عليه المحامون، ويؤثر عليه الممثلون والعاملون في مكاتب العلاقات العامة. ... وكل هؤلاء يكسبون مبالغ طائلة من وراء إعادة صياغة الحقيقة لتبدو زاهية جذابة.
الشاب الذكي من ولاية آركنسو استوعب سريعاً الدرس الأمريكي الأول والأهم الدرس الذي يقول إن الخطأ ليس في الأمريكان ولكن في الآخرين. الأمريكي بالضرورة وبحكم أنه أمريكي فهو دائماً وأبداً بريء.
الأجانب يشعلون الحروب، ويصنعون المخدرات ويصدرون الإرهاب والأمراض المعدية والأوبئة.
الأمريكان يطهرون العالم من الدنس الذي يصنعه الآخرون. الأجانب يرتكبون الجرائم ضد الإنسانية. ولكن الأمريكان إذا أخطأوا فإنهم يفعلون ذلك بنية حسنة وسريرة طاهرة....”
يواصل الكاتب قوله:
“حين رفعت (بولا جونز) باستهتار قضيتها المزرية ضد رئيس الولايات الأمريكية المتحدة، قررت المحكمة العليا بالإجماع ،أن أي تمييز بين رئيس الدولة وأي مواطن عادي وليكن سائق تاكسي في (واشنطن) إنما هو أمر يتعارض مع روح الديمقراطية. وقد أثلج ذلك صدر المدعي الخاص (كنيث ستار) الذي استغله أبشع استغلال ليحصل على الاعتمادات المالية والصلاحيات القانونية، ليواصل حملته التفتيشية المسعورة في أعماق نفسيّة (كلنتون)
رواية ضخمة، أضخم حتى من قصة فلم (تيتنيك). ضخمة إلى حد أن وزارة العدل لم تجد الشجاعة في أن تحرم (ستار) من الأربعين مليون دولار، التي هي عبارة عن المقدم الذي تدفعه دار النشر للكاتب للحصول على حقوق النشر. سوف تصدر الراوية فيما بعد، في طبعات غالية وطبعات شعبية رخيصة.
دفعوا له المقدم وهم لايعملون كيف ستكون الرواية. (ستار) نفسه لم يكن يعلم كان (الناشرون) في اللجنة القضائية التابعة للمجلس يتوقعون أن يقرأوا رواية عن قتلة ولصوص يخالطون مجموعة بغايا حول حمام السباحة. وكان المحررون في صحيفة (وول ستريت جورنال) وصحيفة الـ (نيويورك تايمز) يضرعون إلى الله أن يظهر شيء عن قضية (وايت ووتر) التي ظلوا ينفخون فيها النار صباح مساء طيلة مايقرب من أربعة أعوام.
لكن كما حدث كثيراً في الماضي، فإن (ستار) فشل أن يقدم للناشرين نص الكتاب الذي تمنوه. لالصوص. لاسرقة أموال. لامؤامرة لقتل (فنسنت فوستر). لاتعامل مع مهربي مخدرات من (كولمبيا). لاتجارة سلاح مع الصين.... ورغم ذلك فإن المدعي الخاص لم يخلف وعده في أن يقدم كتاباً يهز الدنيا ويكسر الأرقام القياسية في البيع.
في الوقت الذي بدأ كما لو أنه لن يجد شيئاً، فجأة أسعفه الحظ. حدثت معجزة (لندا ترب) مثابرته وصبره كلّلا بالنجاح. امتلأت كأسه بالقذارة والأوساخ حتى فاضت سارع (ستار) فوضع على رأسه خوذه الفارس المحامي عن المثل العليا، وانطلق في سهول الـ (بتوماك) يلاحق نساءه السّبايا، حاملاً رمح الشرف والعفة ومشهراً سيف العقاب المخيف.
بحلول آخر شهر آب /أغسطس، كان المختصون في غسيل ضمير الشعب وتنقيته من الأدران، قد بدأوا يتحركون. ويلمعون تعابير السخط. يستثيرون رجال الدين.يتدربون على صرامة تعابير الوجه. وفجأة برز في مقدمة الصفوف السناتور(ليبرمان) من (كنتكت).
أخبر زملاءه في الكونغرس أن سلوك (كلينتون) البذيء بدأ يخيف تلميذات المدارس وعاملات الفنادق. وقال إنه لم يعد يستطيع أن يشاهد نشرات الأخبار مع ابنته الصغيرة البالغة من العمر عشر سنوات.
بنات المدارس! يا إلهي ! كيف تحميهن من دعارة (بيل)! ودوّت الصيحة في ستوديوهات برامج اللغو أيام الأحد. السياسيون صارمو الوجوه مثل رجال الدين، ورجال الدين معسولو الحديث مثل السياسيين.
لم يذكر أحد منهم بالطبع حصص دروس الجنس في المدارس التي تفرض على الأطفال في سن السادسة، ولا الطوفان في البرامج الإباحية الفاحشة، التي يستطيع أي طفل في الصف الابتدائي أن يحصل عليها من التلفزيون بمجرد الضغط على زر.
كانوا كلهم يتصنعون الوقار والرصانة. يحرصون على أن يهدّئوا من روع الصبايا الصغيرات في (ايوا) و(ألاباما) و(كنتكت). لا داعي للخوف. كل شيء سوف يعود كما كان. أول ماتصل توجيهات من مؤسسات استطلاع الرأي، فسوف يعرف الكونغرس كيف يتصرف. وسوف يزحف إلى الأمام بتصميم وشجاعة كي يعيد إلى أمريكا طهارتها المهددة وبراءتها التي كادت أن تضيع منها”
  • ملف العضو
  • معلومات
أرسطو طاليس
زائر
  • المشاركات : n/a
أرسطو طاليس
زائر
رد: مقالات الطيب صالح في "المجلة" (4)
02-03-2009, 07:08 AM
الطيب صالح: واشنطن.. في نظر روائي من أهلها
الطيب صالح
12/07/2008


* يجد الإنسان لذة مضاعفة إذا هو قرأ للروائي الأمريكي (قورفيدال) في واشنطن، فهي مدينته التي نشأ فيها وأحبها وكرهها – يهجرها ثم يعود إليها – يعيش فيها وبعيداً عنها، وعلاقته بها علاقة متأرجحة كما كانت علاقة الكاتب الأيرلندي (جميس جويس) بمدينته (دبلن).
اشتهر بلسانه الحاد، وسخريته الموجعة، من سياسة أمريكا وما وصفه بأنها تدّل على العظمة الفارغة وتحاول أن تلعب دوراً هي ليست مؤهلة له. ولعلّه أول من وصف الولايات المتحدة –هازئاً –بأنها (إمبراطورية).
كاتب متحرر منصف من القلائل في أمريكا الذين يسبحون عكس التيار، ويجدون الشجاعة لمناصرة القضايا العادلة للشعوب المستضعفة، مخالفاً في ذلك سياسة دولته.
يقول عن نفسه وواشنطن: “كان جدي، مثل كثير من مكفوفي البصر، مغرما بالتجوال في المدينة و(رؤية) معالمها، كما كان يقول. ومن ذكريات طفولتي الباكرة أنني إذا ذهبت إلى الجزء الجنوبي الشرقي من واشنطن، قال جدي وهو يشير بيده إلى عمارات متداعية من الطوب الأحمر: “كانت عائلتنا تملك هذه الأرض كلها في يوم من الأيام” لم أر أي أرض بل خرائب. لذلك فإنني لم أحس بالزهو لقوله إن عائلتنا تملك ذلك كله.
بعد سنوات وجدت خارطة تبين كيف كان ذلك الجزء من البلدة يبدو قبل اختراع العاصمة، (منطقة كولمبيا). كانت (جورج تاون) مستوطنة بائسة على نهر (بتوماك). وكانت بقية الأراضي على امتداد البصر، أراضي زراعية تملكها 19 أسرة.
جورج واشنطن، ليس فقط أنه تزعم الحركة الانفصالية عن بريطانيا العظمى (وصف ثورة أفخم من أن ينطبق على تلك الحركة الحائرة المحيّرة ). لكنه أيضاً اخترع ما يسمى (الجمهورية الفيدرالية). وكان أعظم همه أن يكرس دستور تلك الدولة، رغبته التي تقرب من السعار في (تقديس الملكية الخاصة).
كان واشنطن سعيداً – إن لم نقل متآمراً – في نقل عاصمة الجمهورية الوليدة من (فلادلفيا) إلى تلك البراري التي كانت قريبة من مزارعه وممتلكاته في (فرجينيا).
وحين قررت الأمة، اعترافاً له منها بالجميل، أن تسمى العاصمة باسمه (واشنطن)، لم يتردد الزعيم البطل طويلاً. ألم يبرهن من قبل على زهده وصدق عواطفه الجمهورية أنه رفض أن ينصّب ملكاً.
قال يومئذ إنه ليس من اللائق أن يحل (جورج الأول) محل (جورج الثالث) – ملك بريطانيا آنذاك – ولعل مما قوى إصراره على الرفض، أنه كان بلا ذرية. لم يكن يوجد (أمير فرجينيا) يخلفه على العرش حين يناديه المنادي إلى آفاق أرفع!
منذ عشرين عاماً قال ذلك الرجل الخفيف الظل (جون كندى) إن واشنطن تجمع بين كفاءة أهل الجنوب وجاذبية الشمال- يقصد أنها خالية من الكفاءة والجاذبية – ربما كان ذلك صحيحا حين كان (كندى) وفرسان مائدته المستديرة، يبنون مملكتهم السحرية في (كاملوت)، بين قبائل من الهمج والرعاع!” .
يواصل الكاتب الروائي الأمريكي (قور فيدال) بأسلوبه الساخر الذي اشتهر به وصفه لمدينة (واشنطن) فيقول :
“حين كانت تلك الصروح الرومانية تشيد ومنها مبنى وزارة التجارة، كنا نتساءل ببراءة، من أين يجيئون ببشر يملأون تلك العمارات الضخمة كلها؟.
المدينة- أي مدينة – هي عبارة عن كائن حي، تنمو حسب منطلق النمو للكائن الحي. لذلك وقبل أن تصير (الإمبراطورية الأمريكية) واقعاً ملموساً كانت مدينة (واشنطن ) قد أخذت بالتدريج تأخذ طابع عاصمة قيصرية – أخذت تتحول إلى (روما الجديدة).
كنت أشعر، وأنا أرى المباني الرسمية ترتفع بأعمدتها وقبابها وأبراجها، أنني لا أشاهد مدينة حية تنمو، ولكنني أشاهد أطلال مدينة درست وأصابها الخراب. وعجيب أننا حتى في تلك الأيام، قبل وجود الخطر الذري، لم يكن صعباً علينا أن تتخيل المدينة وقد أصابها الدمار بالفعل – ربما كان ذلك صدى لحادثة قديمة من عام 1812م، حين أحرق الإنجليز الـ (كابيتول) والبيت الأبيض – أو حين استباحت قوات الجنوب المدينة في الحرب الأهلية، وتدفقت كالسيل في شارع (سقينث ستريت).
قال جدي وهو يحملق بعينيه غير المبصرتين في مبنى دار الوثائق (على الأقل الخرائب التي سوف تنتج عن هذه المباني، سوف تكون خرائب رائعة !).
لو كان الأمر بيد جدي، لما أنفق سنتاً واحداً من المال لتشييد أية عمارة، ولكن تلك الصروح الرومانية، لم تلبث أن اكتملت وامتلأت بالبيروقراطيين. وبعد الحرب العالمية الثانية، صار لمدينة (واشنطن) إمبراطورية تتناسب مع العظمة المزيفة لتلك المباني. إقامة إمبراطوريات أمر بالغ الخطورة، كما لاحظ (بركليس)، أعظم سادة أثينا القديمة. ولأنني أذكر بوضوح كيف كانت (واشنطن) قبل أن تصبح عاصمة (إمبريالية)، فأنا أعترف أنني من هؤلاء الجمهوريين على مذهب (ششرون) الجميلة التي عرفتها في صباي وأول شبابي، وأتحسر على الفساد والتشويه الذي حاق بها. في العشرينيات والثلاثينيات، كانت (واشنطن) بلدة صغيرة كل واحد من سكانها يعرف كل ساكن آخر. حين تغلق المدارس في شهر حزيران/ يونيو، نخلع أحذيتنا، ونمشى ونلعب حفاة، ولانلبسها إلاّ في شهر أيلول/سبتمبر. كان الصيف حاراً ولا يزال.
كنت أثناء انعقاد جلسات (الكونغرس) أذهب إلى جدي بسيارة وسائق لإحضاره إلى الدار من مبنى (الكابيتول) – كان الحراس قليلين في تلك الأيام، ولم تكن توجد كلف ولا رسميات –أدخل المبنى من دون أن يستوقفني أحد، وأتسكع في ردهات مجلس الشيوخ، ثم أدخل قاعة المجلس، وإذا لم يكن جدي موجوداً أجلس في مقعده إلى أن يرجع، فأعود به إلى الدار. وذات مرة دخلت وسرت بين مقاعد الأعضاء وأنا شبه عار لا البس غير (شورت ) السباحة. ضحك الشيوخ الموقرون، الأمر الذي حيّر جدي المكفوف البصر. لم يلبث أن نزل (مستر جارنر) نائب الرئيس، وجاء إلى جدي وقال له وأنفاسه تفوح منها رائحة الوسيكي (سناتور! هذا الصبي عريان ) بعد ذلك صرت أدخل بثياب أكثر حشمة. إنني أؤرخ لنهاية الجمهورية وميلاد الإمبراطورية، باختراع مكيفات الهواء أواخر الثلاثينيات. قبل ذلك كانت (واشنطن) تخلو من الناس بين منتصف حزيران/ يونيو إلى أيلول/ سبتمبر. كان رئيس الجمهورية، فرانكلين روزفلت – يختفي في مكان ما أعلى نهر الـ (هدسن)- وكان أعضاء (الكونغرس) كلهم يسارعون في العودة إلى مواطنهم، أما بعد اختراع مكيفات الهواء، الذي تزامن مع نشوب الحرب العالمية الثانية، فقد صار الـ(كونغرس) يجلس بلا انقطاع، وصار رؤساء الدولة وحاشيتهم وأتباعهم لا يبرحون البيت الأبيض، موجودون دائماً ينسجون المكائد والمؤامرات لإلحاق الأذى بخلق الله!.
الـ (بنتاغون) – مبنى وزارة الدفاع – الذي أحسسنا تجاهه بكراهية شديدة وهو يعلو تدريجياً، لم نجد سبباً لنحبه حين اكتمل، سواء في مظهره القبيح أو وظيفته الأكثر قبحاً- بدا لنا، ولا يزال، مثل عش الدبابير!. الآن أخذت تلك الصروح الرومانية تتسخ بفعل مرور الزمن وبراز الحمام. ولكن من حسن الحظ لا يزال المرء يجد هنا وهناك بعض البيوت القديمة المنزوية في شوارع هادئة تظللها الأشجار. إنها بقايا ذكريات من زمان ضاع، حين كانت السيدات يضعن على رؤوسهن قبعات واسعة من القش.
كان الإنسان يستطيع أن يأكل في (هارفي) حيث مراوح السقف تدور ببطء، وتجعل نهار الصيف مهما كان حاراً يبدو لطيفاً محتملاً. ومن وقت لآخر يهب الهواء من الخارج، يحمل رائحة القار والياسمين.
كانت حديقة (لافييت) القريبة، عبارة عن غابة استوائية ملتفة الأشجار، يتمشى فيها أحيانا ذلك الرجل الأسطوري، القاضي (أيفر وندل هولمز)، وشاربه الأبيض منقوش في الهواء مثل بيرق .
  • ملف العضو
  • معلومات
أرسطو طاليس
زائر
  • المشاركات : n/a
أرسطو طاليس
زائر
رد: مقالات الطيب صالح في "المجلة" (4)
02-03-2009, 07:11 AM
الطيب صالح: تجارب مثيرة في مطارات العروبة
الطيب صالح
17/07/2008
* المحب يلزمه الصبر! كنت أزور مصر العزيزة، وهل العربي - خاصة من السودان - يحتاج إلى برهان على حب مصر؟ كنت أجيء من عمان أيام فتنة حرب الخليج. وأكثر المجيء في رمضان، وفي عيد الأضحى. فقد كنت أعمل مع مكتب منظمة اليونسكو في عمان والمسافة غير بعيدة : كأنك تسافر من الخرطوم إلى بورتسودان. ووراء سياج مطار القاهرة، لي مواثيق قديمة وذكريات تليدة وأصدقاء أفديهم ويفدونني وأكثر، مما يصعب شرحه لضابط الجوازات.
تجد أمامك سبيلين واحد يدخل منه المواطنون، والآخر يدخل منه الأجانب في بعض ديار العروبة تجد طرقاً شتى للمواطنين ولمجلس التعاون، إن وجد مجلس تعاون، أو مجلس اتحاد إن وجد مجلس اتحاد. وأحياناً درب يسلكه العرب. أقف في صف الأجانب في مطار القاهرة وهو طويل بطبيعة الحال وشديد الزحام. تكون محظوظاً إذا وجدت أمامك أجانب - واضح أنهم "أجانب"- حينئذ يتحرك الناس مثل الماء في جدول متسع. وغالباً ما يكون الجدول ضيقاً.
تصل إلى الضابط فيفتح الجواز ويقلب صفحاته. يجد أنني دخلت بلاداً لا يسهل دخولها، ومنها من أذن لي بالدخول والخروج مراراً بتأشيرة واحدة وأقول إذا كانت كل هذه الدول قد وثقت بي فبالأحرى أن تثق بي الشقيقة الأثيرة مصر. وبينها من الحب ما لا يقدر واش أن يفسده. وقبلاً قال شاعرنا العبقري التجاني يوسف بشير منذ ستين عاماً:
طبع مصر تقصياً ونشاطاً
لو دهي الصخر داهمٌ منه أوري
كيف يا قومنا نباعد من فكرين
شًدا وساندا البعض أزرا كيف
–قولوا- يجانب النيل
شطيه ويجري علي شواطئ أخرى؟
كلما أنكروا ثقافة مصر
كنت من صنعها يراعاً وفكرا
جئت في حدها غراراً فحي الله
مستودع الثقافة مصرا
ناهيك بالعباسي وأحمد محمد صالح ومحي الدين صابر والمحجوب والمجذوب والفيتوري ومحيي الدين فارس وتاج السر الحسن والحردلو وآخرين لا يحصيهم العد. طبقات فوق طبقات من تراكمات التاريخ منذ قبل عهد الفراعنة لا يقوى على خلخلتها حكم قام في مصر أو السودان. والنيل يسعى بيننا مثل النبأ السار منذ الأزل وعبر القرون.
ولوهلة بدا على وجه الضابط أنه استحضر كل ذلك وأنه سوف يغض الطرف وأنني قادم من عمان وأنه لن يعوقني ويفسد علي لهفتي للقاء المدينة العتيدة المفعمة بكل تلك المعالي والشمس تغطس في النيل وراء سياج المطار.
ابتسم الضابط في وجهي بتلك الطريقة المصرية الجذابة التي تجعلك تسامحه سلفاً على أي تقصير يمكن أن يحدث. كانت تجلس إلى يساره سيدة تعكف على جهاز كمبيوتر. أذكر القناع الذي غطت به رأسها. كان لافتا للنظر أكثر مما لو تركت رأسها عارياً، أعطاها الضابط الجواز فاقتحمته بعينها ووضعته إلى جانبها وانصرفت إلى الجهاز أمامها.
اللون الأخضر لون وديع مسالم عادة بدا لي الآن كأنه يشع إشعاعات غامضة توحي بالخطر.
"اتفضل ارتاح شوية"
"ليه؟ أيه المشكلة؟"
"أبداً إجراءات إدارية بسيطة"
جاءت أفواج بعد أفواج من شمالي المتوسط وغربي الأطلس وشرقي المحيط الهادي. النساء الأوروبيات - لأنهن جئن من البرد إلى حيث الشمس والدفء - لم ينتظرن حتى يصلن، لكنهن تهيأن للحرارة مقدماً، فجئن يلبسن لباس الصيف في عز الشتاء. والنساء الأمريكيات، فوق الستين والسبعين مات عنهن أزواجهن كما يحدث في الغالب فجئن فرحات في لغط وضوضاء حال من يخرج من السجن. قبضن حاصل بوليصة التأمين وغدت الحياة عامرة بالاحتمالات. والسياح اليابانيون قاماتهم سواسية، وشكولهم ضربة لازب وثيابهم واحدة، ويحملون حقائب كأن حقيبة نسجت من لونها وحجمها حقائب. في رقابهم تتدلي آلات التصوير أكثر من الأمريكان هم وإياهم لن ينظروا بعيونهم ولكن بعيون الكمرات ولن يذكروا شيئاً إلا ما سجلته العدسات.
كان في الصالة شيء يشبه المهرجان مندوبو شركات السياحة رافعين لافتاتهم، يجدون جماعتهم فيخرجونهم زمراً زمراً كالمدرسين مع التلاميذ في الرحلات المدرسية.
وهل أنا إلا سائح؟ لاحظت فتى كأنه ساع يغدو إلى مكتب جانبي فيعطونه رزمة من الجوازات يغيب زمناً ثم يعود بها يسلمها إلى ضابط أو مسؤول فيقوم فينادي على الناس كل واحد يأخذ جوازه وينصرف واسمي لا يجيء.
سألت ذلك الفتى ماذا تصنع؟
"أصل الحالات اللي تحتاج إلى مراجعة من الأمن بنأخذها لمكتب الأمن".
"وفين مكتب الأمن؟"
"في المطار القديم. حضرتك جوازك إيه؟"
"سوداني".
"واسم حضرتك؟"
"الطيب محمد صالح".
"ولا يهمك أنا حاخلص لك الجواز حالاً".
"أيه المشكلة؟"
"مافيش أي مشكلة هو في بينا وبين بعض مشاكل؟ إحنا أخوات بحق وحقيقي. أهـ والله"
"طيب ما دمنا أخوات معطليني ليه؟"
ضحك، وتلفت حوله مثل الجرسون الذي لا يسمح له بمحادثة الزبائن:
"أصله بصراحة الجواز بتاعكم اليومين دول شكله مش ظريف".
"وأنا إيه علاقتي بالحكاية دي؟"
"إيه! أنت بتستعبط يا أستاذ؟ ما أنت فاهم وأنا فاهم. على أي حال ولا يهمك أنت نورت مصر والله. ثواني وأجيب لك جوازك إن شاء الله".
أسعدني حديثه، إذ إنني أتطلع لمثل هذه الظروف دائماً أخرج منها بفائدة. مطارات العروبة عامرة بالفوائد.
تمعن الموظف ملياً في الجواز وأنا أخرج من عاصمة عربية. كنت في عمل وأحمل جواز الأمم المتحدة. المفروض أن يكون الخروج أسهل من الدخول. نظر فيه ملياً وقلب صفحاته وأمعن النظر في أختامه حتى خفت أن يكون وجد فيه شيئاً لا يسره وبعد أن أطال التفكير سألني:
"بالله قولي! الواحد كيف يحصل على جواز مثل هاذا؟"
ياله من سؤال فلسفي عويص، مثل سؤال (هاملت)؟ رأيت في وجهه أنه يتكلم بجد، كمن يريد أن يعرف بالفعل. قلت له:
"تفضي وظيفة في منظمة من منظمات الأمم المتحدة، يعلنون عنها في الجرايد. تقدم طلبا إذا نجحت يعطوك جواز مثل هاذا"
"هيك إذاً؟"
" نعم".
ختم لي على الجواز وقال لي " الله معك" وقلت له " الله معك". تركته مهموماً علق بذاكرتي لبضع دقائق. الله أعلم ماهي قصته وماذا وراءه وأي هم عناه. لعله تخيل في الجواز الغريب عوالم بدت له أسعد مما هو فيه ولعله غبطني على الذي بكيت منه كما بكى سيدي أبو الطيب.. الله معك.
  • ملف العضو
  • معلومات
أرسطو طاليس
زائر
  • المشاركات : n/a
أرسطو طاليس
زائر
رد: مقالات الطيب صالح في "المجلة" (4)
02-03-2009, 07:14 AM
الطيب صالح: شـاكا: قلبه حجر تسكنه الأفاعي
الطيب صالح
24/07/2008
*أبو الملك "شاكا" هو "سنزانخونا" بن "جاما" بن "زولو" بن "مانديلا" الكبير الذي استقل في القرن السابع عشر بفخذ صغير من عشيرة الـ"انقوني" المنحدرة من قبيلة الـ"بانتو" الكبري. واسم زولو يعني "السماء" وقد عم على القبيلة كلها فاصبح اسمها، أما زولو أي "أمة الزولو".
كانت قبيلة مستضعفة لا يؤبه لها حين تولى أمرها "سنزانخونا" لا يزيد عددها على ألفي إنسان، تعيش في أكناف قبيلة "مططوا" الكبيرة، وتجاور قبيلة صغيرة مثلها هي قبيلة "ايلانقيني" خؤولة "شاكا" وأبيه.
رفع "سنزانخونا من شأن الزولو فأصبحوا شوكة في جنب قبيلة الـ"مططوا" بقيادة ملكها الحكيم "دنقزوايو" الذي لجأ اليه "شاكا" فيما بعد خلال تنقله بين القبائل هو وأمه. وقد تعلم "شاكا" أموراً كثيرة من "دنقزوايو" ولكنه حين أصبح ملكاً على "الزولو" اتبع سياسة مخالفة تماماً لما رآه من دنقزوايو.
عادت "ناندي" إلى قبيلتها تحمل طفلها الذي سوف يكون له شأن، فلم يستقبلوها بالترحاب لأنها أخلت بالأعراف، ودنست شرف القبيلة، فعاشت بينهم في فاقة وبؤس ونشأ "شاكا" منبوذاً محقراً. ظل كذلك إلى أن بلغ سن الخامسة عشرة يرعى البقر والغنم وتنهش قلبه كراهية مريرة لقبيلة أبيه وقبيلة أمه ويحس أن له حقاً مسلوباً في زعامة "الزولو" لا بد من أن يسترده .وكانت أمه "ناندي" تذكي جذوة حقده وطموحه.
وفي نحـو عام 1802 حلت بالبـلاد مجـاعة عضـوض، ورأت قبيلة "ايلانقيني" عشيرة ناندي أنها لا تستطيع أن تطعمها وأبناءها فطردتهم وهاموا على وجوههم بين القبائل. وقد أحدث هذا جرحاً عميقاً في نفس "شاكا" الذي انتقم فيما بعد من قبيلة أمه فبطش بهم بطشاً لا رحمة فيه.
وجدت "ناندي" عطفاً لدى رجل من قبيلة صغيرة يدعى "قنديانا" كانت قد عرفته من قبل وولدت منه ابناً سـوف يكون له دور في ظل أخيه حين يرث ملك "سنزانخونا". هنالك كبر شاكا فصار فتى فارع الطول قوي العضلات وكان محارباً بالغ الشراسة، شديد المكر، فبدأت تتكون له أسطورة بطولية وأخذت شهرته تتسع بين القبائل. وقد ازدادت شهرته حين انضم إلى خدمة "دنقزوايو" الحكيم رئيس قبيلة الـ"مططوا" الكبيرة فكان يرعى ماشيته ويحارب في جيشه ويراقب أسلوبه في تصريف شؤون الحكم باهتمام عظيم وعقل بارد.
سمع "سنزانخونا" بشهرة ابنه وأراد أن يضمه إلى عسكره فرفض، إذ إنه كان يعلم أن أباه لن يستخلفه، وأنه قد اختار وريثه الشرعي. ورغبت عشيرة أمه أيضاً أن تستغل مهاراته في الحرب، فأبى لما كان يضمر لهم من احتقار وكره. ولكنه حين بلغ مبلغ الرجال اضطر إلى أن يذهب إلى أبيه ليكرسه حسب الطقوس القبلية القديمة.
يصف "ماسيسي كونيني" كل هذا في ملحمته الشعرية فيقول:-
الليالي الجميلة تزدحم بالنجوم
التي ياما تفضح خناجر الغدر
وتضج بوسوسات الحقد
كان "شاكا" ولد "ناندي" يرهف سمعه
لألسنة الليالي الطوال
كلمات الشامتين تجرح روحه اليانعة كالسياط
وعيونهم تحرقه مثل لهيب النار
لا شفقة حتى عند النساء العجائز
اللائي يقلن حين يرينه
"أهذا ابن السفاح الذي
ولدته "ناندي" العاهرة؟"
يقلن هذا وعيونهن تتوقد بالشر
ويقلن أيضاً وهن يتصنعن الهمس
"أهذا هو إذاً؟ الفتى الشقي الأرعن؟"
لكن قلب "شاكا" كان جريئاً كقلب نمر
فلم يطأطئ رأسه أبداً
كان مرآه يبث في قلوبهم الرعب
حتي الكبراء الذين كستهم الشيخوخة هيبة
كانوا يفرون من وجهه
ولأنه ولد في برج الجبل يقول
"أنا الثور الفحل لا تهزمني صغار العجول"
يجلس بينهم يكظ أسنانه من الغضب
يتلبسه روح الثور المحارب
وعقله المستعر يطفئ العقول الأكثر منه تجربة
يعجب به البعض لأجل ذلك
وله أصدقاء يمشون في الدورب المخيفة
يقولون:
"قلبه حجر تسكنه الأفاعي
كهف تحاك فيها الخطط لمحق أعدائه
يجلس وحده هناك على حجر هو رفيقه الوحيد
لا يسمع النصح ولا يقبل الصلح ولا يعبأ بأحد
كل صباح يزيده حقداً
ويزيده تصميماً على الانتقام من عشيرته الأقربين"
دموع الحيوان سرعان ما تجف
ولكن دموع الإنسان لها أقدام وأيد وشفاه
الذين يحمدون أباه عنده
ينكأون جرحه الطري ويطردون الكرى من عيون الليل
وأمه "ناندي" تقول له بلسان ريح الشتاء:
"صبراً يا ولدي! غداً سوف تقتلع الأشجار من جذورها"
وهكذا كبر فارع الطول، عملاق الجسم بعيد الصيت:
وحين آن أوان الاحتفال ببلوغ سن الرجولة
قالوا "لا بد أن يذهب الآن إلى أبيه المستهتر
فهو وحده الذي يمنحه ثوب الشباب"
فأسرع ولد "سنزانخونا إلى أبيه
وخاطبه بجنان ثابت ولسان لا يتلعثم
قال له "إنني جئت آخذ منك ثوب شبابي"
رشقه أبوه بنظرة غاضبة وقد أزعجته وقاحته
إنما لم يجد بداً من الاستجابة
لطلب الفتى الذي لا يعبأ بأحد
فأمر بثور يذبح للاحتفال
وكان "شاكا" من غيظه يبرطم بكلام لا يفهم.
في تلك الليلة، ليلة الاحتفال
زاره أجداده في المنام
حدثوه وقالوا له:
"سيأتي يوم تصل فيه شهرتك إلى النجوم
وسوف يمتد ظلك فيغطي أمماً وراء أمم
وسوف تلهج شعوب الأرض كلها بذكرك
وسوف تعنو لك جباه الأبطال من كل جنس
وسف يطأطئون الرؤوس لجبروتك
إلى أن تغرق الشمس في الظلام السرمدي .
  • ملف العضو
  • معلومات
أرسطو طاليس
زائر
  • المشاركات : n/a
أرسطو طاليس
زائر
رد: مقالات الطيب صالح في "المجلة" (4)
02-03-2009, 07:17 AM
آخلر مقالة للراحل في "المجلة":
الطيب صالح: شاكا فارس الزولو
الطيب صالح
07/08/2008
* قريباً سوف تنادي الأقدار (شاكا) فارس الزولو، لينهض بالعمل الذي ظل يعد نفسه له، وهو يحارب في جيش (دنقزوايو) ملك الـ (مططوا) كان هذا قد شاهد من بسالته وإخلاصه ما سرّه فقربه إليه واصطفاه ابناً له.
وإلى جانب العاطفة، كان (دنقزوايو) يريد أن يستغّل (شاكا) أداة لتنفيذ سياسته ومدّ سلطانه. كان يريد أن يجعل منه ملكاً على بلاد الزولو، وبذلك يضمن ولاءهم ومناصرتهم، ويكونون قوة عازلة بينه وبين خصومه. وقد عرض (دنقزوايو) صراحة على ملك الزولو (سنزانخونا) أن يُعلن (شاكا) خلفاً له، فقبل إذ هو في بلاط (دنقزوايو) لكنه حين رجع إلى أرضه، اضطرته زوجته الكبرى الملكة (مكابي)، وكانت ذات نفوذ وهيبة، أن يغيّر رأيه، ويجعل ابنه منها (سقويانا) وريثاً شرعياً.
خلال ذلك، طوّر (شاكا) أسلوبه في الحرب وصقل مهارته في القيادة فأصبح قائداً عسكرياً لا نظير له في مملكة الـ (مططوا) الواسعة. ونمت حوله أسطورة بأنه قائد لا يُغلب. وهو أسلوب عرفه القادة المسلمون الأوائل، وتفننوا فيه، واستطاعوا أن يهزموا به قوّات تفوقهم عدداً وعتاداً. وقد سلكه نابليون بونابرت في انتصاراته الأولى المدهشة، وأصبح فلسفة عسكرية ثابتة لدى الألمان، خاصة في الحرب العالمية الثانية وأسموه (بلتزْكريق- Blitzkrieg) – سرعة الحركة ومباغتة الخصم، والالتفاف بالجناحين، ثم الانقضاض بكامل ثقل القوات في القلب بهدف تدمير قوات العدو تدميراً ماحقاً. وقد بلغ من إعجاب (دنقزوايو) بـ (شاكا) أنه جعله قائداً على صفوة القوات في جيشه المعروف باسم (ايزي جوي).
في عام 1816، جاء مبعوث إلى (دنقزوايو) يحمل نبأ وفاة ملك الزولو. كان (شاكا) في التاسعة والعشرين من العمر، وأحس لتوّه، أن الساعة التي كان ينتظرها قد حلّت. طلب من (دنقزوايو) أن يخلي سبيله ففعل، وأعطاه فرقة من قوات الـ (إيزي جوي) المختارة، تصحبه إلى أرض الزولو، ويتعزّز بها وضعه. لكن (شاكا) تريث قليلاً، فقد علم أن أخاه (سقويانا) قد حلَّ محلّ أبيه، كما دبّرت أمه الملكة (مكابي).
أرسل (شاكا) أخاه لأمه (انْقوادي) الذي ولدته (ناندي) من (قنديانا)، وكان قد آواهم حين طردتهم قبيلة (أيلا نفيني) كانت مهمته أن يتخلص من (سقويانا) كما اتضح فيما بعد، إذ إنهم، في اليوم الذي دخل فيه (شاكا) مركز الحكم في بلاد الزولو، وجدوا جثة (سقويانا) طافية في ماء النهر. وكانوا يعلمون أن ذلك لم يحدث صدفة.
ها هنا يصف (ماسيسي كونيني) في ملحمته الشعرية، وصول نبأ موت (سنزانخونا) إلى (دنقزوايو) ووداعه لـ (شاكا) وعاطفة الأبوة والبنوة التي ربطت بين ملك الـ (مططوا) الشيخ، والفتى الذي سوف يصير قريباً ملكاً على الزولو.
“ أخذت يد (دنقزوايو) ترتعشان لوقع الصدمة،
وأخذ يمشي رائحاً غادياً ورأسه يضطرب بالمشاغل.
يا للخسارة! كان يؤمّل أن يصلح بين (شاكا) وأبيه.
سأل الرسول مرة بعد مرة،
كيف مات (سنزانخونا)؟ وهل ترك وصيّة؟
أجابه الرسول، وهو لا يقوى على حبس الدموع:
الموت بداية رحلة جميلة إلى
مُستقر الأسلاف، ولكن اللحظات الأخيرة من حياة الملك كانت مؤلمة.
نظر إلى زوجته الملكة (مكابي)
وسألها بلهفة، أين ابن (سقويانا)؟
أجابته الملكة، وأكد له الحاضرون
أنه جالس بجانبه لكنه لم يصدق. قال إنهم يخدعونه.
قال إنه لا يرى إلاّ (شاكا).
ثم أخذ يهذي ويصرخ:
(شاكا يلقي ظله فوقي، يحدّق في وجهي بعيون قاسية كشعاع الشمس).
ثم حاول أن ينهض ومدّ يده ليمسك بيد ابنه.
لكنّه هوى. سقط بلا حراك.
التفّ حصير الأرض حول جسده
وما زالت المناخات تتردّد أصداؤها
أجهش الرسول بالبكاء
ودمعت عينا (دنقزوايو) وكان عصي الدموع
فأشاح بوجهه.
هزّه نبأ موت (سنزانخونا)
وأيضاً تذكر أنه قد شاخ، وأن حياته لن تطول.
ثم تذكّر أنه ملك، فعاودته رباطة جأشه
وقال مخاطباً شاكا:
(الموت يمحو من النفوس آثار الجرائم التي ارتكبها الموتى حين كانوا أحياء.
علينا أن نحزن، ولكن لا نستسلم طويلاً للحزن.
الآن، يجب أن تستعدّ للرحيل،
قبل أن تنتهي فترة الحداد.
لابد أن تنقذ مملكة آبائك من الفوضى،
وسوف أعطيك فرقة من قوات الـ (إيزي جوي)
يزيدونك هيبة وأنت تدخل عاصمة مُلكك، كما يليق بأمير مثلك.
أجابه (شاكا) قائلاً:
(الدموع التي واسيتني بها تغسل أحزان قلبي.
سوف أنسى قسوة أبي.
أنت كنت لي أباً
شملتنا بعطفك
بعد أن كنا صعاليك في الأرض
تتخطفنا عيون السكارى والحمقى.
صرنا عيالكَ بحق.
وأنا أدين لك بكل شيء.
سوف أفارقك الآن مضطراً.
لأنجز المهمة التي ينتظرها آبائي مني.
الوداع، وأنا ابنك المطيع حيثما كنت.
عانقه (دنقزوايو) وقد دمعت عيناه من التأثر، ثم طلب أن يحضروا له الرمح الملكي، وقال:
ها أنا أعلن في الملأ، وسوف تعلم الأجيال التي لم تولد بعد، أنني أمدح بطولتك
وأقرّ أنك، أكثر من أي قائد آخر،
أعنتني على تثبيت أركان هذه المملكة العظيمة.
حسبي أنني هيّأت الأرض، وزرعت البذور،
لمولد أعظم حقبة في تاريخ أمّتنا.
خُذ هذا الرّمح الطقوسي الذي ورثته عن آبائي،
أولئك الذي بحكمتهم أرسوا أساس أمتنا
وما أنا إلا شعاع من شمس عظمتهم.
لقد رأوا ببعد نظرهم وحدة شعب النخيل.
حافظ على الرمح، وحافظ على ذكراهم
فنحن جميعاً فروع من دوحتهم.
وها أنا أعطيك البركة باسمهم.
وهكذا افترق البازيان العظيمان،
أحدهما نحو الغروب،
والآخر نحو الفجر .
مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 


الساعة الآن 11:41 AM.
Powered by vBulletin
قوانين المنتدى