حديث افتراق الأمة للعلامة: يوسف القرضاوي
23-05-2013, 07:09 PM
حديث افتراق الأمة


للعلامة: يوسف القرضاوي





سؤال:ما مدى صحة الحديث الذي اشتهر بين الناس، وتناوله علماء الكلام والفِرق وغيرهم؟ وهو الحديث الذي يقول:"افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة. قيل: ماهي يا رسول الله؟ قال: هي الجماعة" أو نحو ذلك، وقد شغل هذا الحديث العلماء، وحاولوا أن يحدِّدوا هذه الفرق ويعدِّدوها، وأجهدوا أنفسهم، حتى يصلوا بها إلى هذا الرقم (73) كما حاول عبد القاهر البغدادي في كتابه "الفَرق بين الفِرَق" والشهرستاني في كتاب "المِلل والنحل" وابن حزم في كتابه "الفصل" والإيجي في "المواقف" في علم الكلام وشرحه للشريف الجرجاني، والسعد التفتازاني في "شرح المقاصد" إلخ، كما تحدث عنه أبو إسحاق الشاطبي في كتابه "الاعتصام".

فإن كان هذا الحديث صحيحا، فما هذه الفرق؟ وهل يعني هذا أن افتراق الأمة قدر لازم؟ وما هي الفرقة الناجية من بين هؤلاء الفِرق الهالكين؟ وما معنى (الجماعة) الواردة في الحديث ؟



الجواب: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

تعرضنا للكلام عن هذا الحديث منذ بضعة عشر عاما، عندما تحدثنا عن فقه الاختلاف في كتابنا "الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم" وذكرنا بإجمال وتركيز القيمة العلمية لهذا الحديث، وبيَّنا ما فيه من كلام كثير في ثبوته وفي دلالته، ولا بأس أن نعيد هنا ما كتبناه هناك لأهميته وضرورته للسائل، ولمثله من القراء المسلمين، مع إضافة بعض الفوائد إليه إن شاء الله.

أ – فأوّل ما ينبغي أن يُعلم هنا: أن الحديث لم يرِد في أيٍّ من « الصحيحين »، برغم أهمية موضوعه، دلالة على أنه لم يصح على شرط واحد منهما.

وما يقال من أنهما لم يستوعبا الصحيح، فهذا مسلَّم، ولكنهما حرصا أن لايدعا باباً مهما من أبواب العلم إلا رويا فيه شيئا، ولو حديثا واحدا.

ب- إن بعض روايات الحديث لم تذكر أن الفِرق كلها في النار إلا واحدة، وإنما ذكرت الافتراق وعدد الفرق فقط.وهذا هو حديث أبي هريرة الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم، وفيه يقول: "افترقت اليهود على إحدى – أو اثنتين- وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى – أو اثنتين- وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" رواه أبو داود في "السنة" برقم (4596)، والترمذي في الإيمان (2642) وقال: حسن صحيح، وابن ماجه في الفتن مختصرا(3991)، وابن حبان كما في "الموارد"(1834)، والحاكم (1/6)، وصححه على شرط مسلم وردّه الذهبي.

والحديث - وإن قال فيه الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان والحاكم – مداره على محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، ومن قرأ ترجمته في "تهذيب الكمال" للمزي، وفي "تهذيب التهذيب" لابن حجر:علم أن الرجل متكلَّم فيه من قِبل حفظه، وأن أحداً لم يوثقه بإطلاق، وكل ما ذكروه أنهم رجحوه على من هو أضعف منه. ولهذا لم يزد الحافظ في "التقريب" على أن قال: صدوق له أوهام. والصدق وحده في هذا المقام لا يكفي، ما لم ينضم إليه الضبط، فكيف إذا كان معه أوهام ؟؟! ومعلوم أن الترمذي وابن حبان والحاكم من المتساهلين في التصحيح، وقد وصف الحاكم بأنه واسع الخطو في شرط التصحيح.

وهو هنا صحَّح الحديث على شرط مسلم، باعتبار أن محمد بن عمرو احتج به مسلم، وردّه الذهبي بأنه لم يحتج به منفرداً بل بانضمامه إلى غيره(1/6). على أن هذا الحديث من رواية أبي هريرة ليس فيه زيادة: أن الفرق "كلها في النار إلا واحدة" وهي التي تدور حولها المعركة.

وقد روي الحديث بهذه الزيادة من طريق عدد من الصحابة: عبد الله بن عمرو، ومعاوية، وعوف بن مالك، وأنس، وكلها ضعيفة الإسناد، وإنما قوّوها بانضمام بعضها إلى بعض.

والذي أراه: أن التقوية بكثرة الطرق ليست على إطلاقها، وخصوصاً عند المتقدِّمين من أئمة الحديث، فكم من حديث له طرق عدة ضعفوه، كما يبدو ذلك في كتب التخريج، والعلل، وغيرها! وإنما يؤخذ بها فيما لا معارض له، ولا إشكال في معناه.

وهنا إشكال أي إشكال في الحكم بافتراق الأمة أكثر مما افترق اليهود والنصارى من ناحية، وبأن هذه الفرق كلها هالكة وفي النار إلا واحدة منها. وهو يفتح بابا لأنْ تدَّعي كل فرقة أنها الناجية، وأن غيرها هو الهالك، وفي هذا ما فيه من تمزيق للأمة، وطعن بعضها في بعض، مما يضعفها جميعا، ويقوي عدوها عليها، ويغريه بها.

ولهذا طعن العلامة ابن الوزير في الحديث عامة، وفي هذه الزيادة خاصة، لما تؤدي إليه من تضليل الأمة بعضها لبعض، بل تكفيرها بعضها لبعض.

قال رحمه الله في "العواصم والقواصم" وهو يتحدث عن فضل هذه الأمة، والحذر من التورُّط في تكفير أحد منها، قال: (وإياك و الإغترار بـ"كلها هالكة إلا واحدة" فإنها زيادة فاسدة، غير صحيحة القاعدة، ولا يؤمن أن تكون من دسيس الملاحدة!

قال: وعن ابن حزم: أنها موضوعة، غير موقوفة ولا مرفوعة، وكذلك جميع ما ورد في ذم القدرية والمرجئة والأشعرية، فإنها أحاديث ضعيفة غير قوية) "العواصم و القواصم"1/186 .

ج- إن من العلماء قديما وحديثا من ردَّ الحديث من ناحية سنده، ومنهم من ردّه من ناحية متنه ومعناه، وفي متن هذا الحديث إشكال من حيث أنه جعل هذه الأمة التي بوَّأها الله منصب الشهادة على الناس، ووصفها بأنها خير أمة أخرجت للناس، أسوأ من اليهود والنصارى في مجال التفرق والاختلاف، حتى إنهم زادوا في فرقهم على كل من اليهود والنصارى. هذا مع أن القرآن قال في شأن اليهود: ﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمْ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ "سورة المائدة: 64".

وقال في شأن النصارى :﴿وَمِنَ الذِّينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئهُمْ الله بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ"سورة المائدة: 14"

ولم يجئ في القرآن عن أمة الإسلام شيء يشبه هذا، بل فيه التحذير أن يتفرقوا ويختلفوا كما اختلف الذين من قبلهم.

ثم إن الحديث حكم على فرق الأمة كلها – إلا واحدة – بأنها في النار، هذا مع ما جاء في فضل هذه الأمة، وأنها أمة مرحومة، وأنها تمثل ثلث أهل الجنة، أو نصف أهل الجنة. على أن الخبر عن اليهود والنصارى بأنهم افترقوا إلى هذه الفِرق التي نيفت على السبعين غير معروف في تاريخ الملَّتين، وخصوصاً عند اليهود، فلا يُعرف أن فرقهم بلغت هذا المبلغ من العدد.

فهذا أبو محمد بن حزم، يردُّ على من يكفِّر الآخرين بسبب الخلاف في الاعتقاديات بأشياء يوردونها .

و ذكر من هذه الأشياء التي يحتجون بها في التكفير حديثين يعزونهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، هما:

1- "القدرية والمرجئة مجوس هذه الأمة".

2-"تفترق هذه الأمة على بضع وسبعين فرقة، كلها في النار حاشا واحدة، فهي في الجنة".

قال أبو محمد: هذان حديثان لا يصحان أصلا من طريق الإسناد، وما كان هكذا فليس حجة عند من يقول بخبر الواحد، فكيف من لا يقول به؟ "الفصل في الملل والنحل لابن حزم 3/292"، تحقيق: د.محمد إبراهيم نصر، ود.عبد الرحمن عميرة ، ط .دار عكاظ، جدة، وقد ذكر الشيخ الألباني في "الصحيحة" رقم(204) أنه بحث عن كلام ابن حزم هذا في"الفصل" فلم يعثر عليه، وهو ذا واضح صريح.

وهذا الإمام اليمني المجتهد، ناصر السنة، الذي جمع بين المعقول والمنقول، محمد بن إبراهيم الوزير (ت 840 ه) يقول في كتابه "العواصم والقواصم" أثناء سرده للأحاديث التي رواها معاوية رضي الله عنه، فكان منها (الحديث الثامن): حديث افتراق الأمة إلى نيف و سبعين فرقة،كلّها في النار، إلا فرقة واحدة، قال: وفي سنده ناصبي، فلم يصح عنه، وروى الترمذي مثله من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وقال: حديث غريب. ذكره في الإيمان من طريق الأفريقي واسمه عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن يزيد عنه.

وروى ابن ماجه مثله عن عوف بن مالك، وأنس.

قال: وليس فيها شيء على شرط الصحيح، ولذلك لم يخرج الشيخان شيئا منها. وصحح الترمذي منها حديث أبي هريرة من طريق محمد بن عمرو بن علقمة، وليس فيه: "كلها في النار إلا فرقة واحدة". وعن ابن حزم: أن هذه الزيادة موضوعة، ذكر ذلك صاحب "البدر المنير". "العواصم والقواصم" لابن الوزير بتحقيق الشيخ شعيب الأرناؤوط، 3/170 -172، والمذكور هنا يرد على الشيخ الألباني الذي ذكر في"الصحيحة" المجلد الأول 3/19- 20، أن ابن الوزير ردَّ الحديث من جهة متنه لا من جهة سنده، ولا أدري من أين له هذا؟ وصاحب"البدر المنير" هو: ابن الملقن.

وقد قال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى في سورة الأنعام: ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ويُذيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ: وقد ورد في الحديث المرويِّ من طرق عنه صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: "وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا واحدة("تفسير ابن كثير"2/7143،ط.عيسى الحلبي.)، ولم يزد على ذلك فلم يصفه بصحة ولا حسن، رغم أنه أطال في تفسير الآية بذكر الأحاديث والآثار المناسبة لها.

وذكر الإمام الشوكاني قول ابن كثير في الحديث، ثم قال: (قلت: أما زيادة "كلها في النار إلا واحدة" فقد ضعفها جماعة من المحدثين، بل قال ابن حزم: إنها موضوعة "فتح القدير" للشوكاني في تفسير الآيات 65-67 من سورة المائدة2/59،ط.دار الفكر .

على أن الحديث – وإن حسنه بعض العلماء كالحافظ ابن حجر، أو صححه بعضهم كشيخ الإسلام ابن تيمية بتعدُّد طرقه – لا يدل على أن هذا الافتراق بهذه الصورة وهذا العدد، أمر مؤبَّد ودائم إلى أن تقوم الساعة، ويكفي لصدق الحديث أن يوجد هذا في وقتٍ من الأوقات.

فقد توجد بعض هذه الفرق، ثم يغلب الحق باطلها، فتنقرض ولا تعود أبداً.

وهذا ما حدث بالفعل لكثير من الفرق المنحرفة، فقد هلك بعضها، ولم يعد لها وجود.

ثم إن الحديث يدلّ على أن هذه الفرق كلها (جزء من أمته صلى الله عليه وسلم)، أعني أمة الإجابة المنسوبة إليه، بدليل قوله: "تفترق أمتي" ومعنى هذا أنها – برغم بدعتها– لم تخرج عن الملة، ولم تُفصل من جسم الأمة المسلمة.

و كونها "في النار" لا يعني الخلود فيها كما يخلد الكفار، بل يدخلونها كما يدخلها عصاة الموحدين.

وقد يشفع لهم شفيع مطاع من الأنبياء أو الملائكة أو آحاد المؤمنين، وقد يكون لهم من الحسنات الماحية، أو المحن والمصائب المكفرة ،ما يدرأ عنهم العذاب .

وقد يعفو الله عنهم بفضله وكرمه ، ولا سيما إذا كانوا قد بذلوا وسعهم في معرفة الحق، ولكنهم لم يوفقوا وأخطأوا الطريق، وقد وضع الله عن هذه الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه .