السلطان محمد جلبي الأول
18-08-2016, 08:03 AM




تفكك الدولة العثمانية بعد هزيمة أنقرة:
في عام 799هـ / 1397م تمكنت قوات السلطان العثماني بايزيد الأول من حصار القسطنطينية للمرة الثالثة وللمرة الرابعة سنة 801هـ / 1399م، ولكن هجوم الخبيث زعيم المغول تيمور لنك على أنقرة أجبر السلطان بايزيد الأول على رفع الحصار عن القسطنطينية والتوجه شرقًا لمقاومة جيوش تيمورلنك، وبعد سلسلة من المراسلات مع بايزيد لم تنته إلى نتيجة توغل تيمور بجيوشه الجرارة والتي تقدر بثمانمائة ألف مقاتل داخل الأناضول، وكان اللقاء الحاسم قرب أنقرة في ذي الحجة 804هـ / يوليو 1402م، وانتهت المعركة بهزيمة العثمانيين وأُسر السلطان العثماني الذي توفي بعد مدة وجيزة من الغم أسيرًا في مدينة اكشهر التركية التي تقع قرب مدينة قونية، وذلك في الخامس عشر من شعبان سنة 805هـ / 1403م، وأُرسل جثمانه إلى مدينة بورصة. وأعقب نصر أنقرة عمليات اكتساح واسعة لما تبقى من أملاك الدولة العثمانية الآسيوية. وتفكك العثمانيون مرة أخرى لدويلات صغيرة في الأناضول.

كما أعاد تيمورلنك أمراء آسيا الصغرى الى أملاكهم السابقة، ومن ثم استرجاع الإمارات التي ضمها بايزيد لاستقلالها، كما بذر تيمور بذور الشقاق بين أبناء بايزيد المتنازعين على العرش. وانتهزت الولايات الأوربية التي تحت الحكم العثماني ما حل بالدولة فأعلنت استقلالها، وهي البلغار والصرب والأفلاق، فانكمشت الدولة العثمانية.

الحرب الأهلية بين أبناء بايزيد:
وقد تعرضت الدولة العثمانية لخطر داخلي تمثل في نشوب حرب أهلية في الدولة بين أبناء بايزيد على العرش، واستمرت هذه الحرب عشر سنوات (806 - 816هـ / 1403 - 1413م). فقد كان لبايزيد خمسة أبناء اشتركوا معه في القتال، أما ابنه مصطفى فقد ظُنَّ أنه قُتل في المعركة، أما موسى فقد أسر مع والده، ونجح الثلاثة الآخرون في الفرار، وهم (محمد وسليمان وعيسى).

أما أكبرهم سليمان فاستقل بالجزء الأوربي من الدولة العثمانية بما فيها مدينة أدرنة وأعلن نفسه سلطاناً هناك، وعقد حلفًا مع مانويل الثانى إمبراطور بيزنطة ليساعده ضد إخوته, وأعطاه في سبيل ذلك مدينة سالونيك وبعض سواحل البحر الأسود وتزوج من إحدى قريباته.

أما عيسى فبمجرد وفاة أبيه أعلن نفسه سلطانًا في مدينة بورصة (بروسة) وأعلن للناس أنه خليفة أبيه.

وأما محمد الذي كان مختبئًا في الأناضول، فحينما خف ضغط التتار خرج ومن معه من الجند يقاتل ما بقي من التتار، وتمكن من السيطرة على توقات وأماسب، واستطاع تخليص أخيه موسى من الأسر وسار لمحاربة إخوته.

ونشبت الحرب بين هؤلاء الأخوة الثلاثة يتنازعون بينهم أشلاء الدولة الممزقة والأعداء يتربصون بهم من كل جانب. وبعد عام ارتحل تيمورلنك بجيشه وترك وراءه البلاد على أسوأ حال من الدمار والخراب والفوضى.

انتصار محمد على إخوته وانفراده بالسلطة:
استطاع محمد أن ينتصر على أخيه عيسى بعد عدة معارك بينهما وقتل عيسى، ثم أرسل جيشًا بقيادة أخيه موسى لمحاربة أخيهما سليمان، ولكنه عاد يجر ذيل الخيبة وراءه، ولكنه لم ييئس فحاول موسى مرة أخرى الهجوم, واستطاع في هذه المرة أن ينتصر وقتل سليمان على أبواب أدرنة عام 813هـ / 1410م.

ثم اتجه موسى لتأديب الصرب على موقفهم أثناء الهجوم التتري، وحارب ملك المجر الذي حاول مساعدة الصرب وانتصر موسى عليه. وأراد موسى أن ينفصل بالجزء الأوربي، وضرب الحصار على القسطنطينية، فاستنجد إمبراطورها بالأمير محمد الذي أسرع فعقد حلفًا مع إمبراطور القسطنطينية، وملك الصرب ضد أخيه، وانتصر الحلف، وقُتل الأمير موسى، وانفرد الأمير محمد بالسلطة.

لقد كانت هذه المرحلة في تاريخ الدولة العثمانية مرحلة اختبار وابتلاء سبقت التمكين الفعلي المتمثل في فتح القسطنطينية، ولقد جرت سنة الله تعالى ألا يمكن لأمة إلا بعد أن تمر بمراحل الاختبار المختلفة، وإلا بعد أن ينصهر معدنها في بوتقة الأحداث، فيميز الله الخبيث من الطيب، وهي سنة جارية على الأمة الاسلامية لا تتخلف. فقد شاء الله تعالى أن يبتلي المؤمنين، ويختبرهم، ليمحص إيمانهم، ثم يكون لهم التمكين في الأرض بعد ذلك.

صمد العثمانيون لمحنة أنقرة بالرغم مما عانوه من خلافات داخلية، إلى أن أنفرد محمد الأول بالحكم في عام 816هـ / 1413م، وأمكنه لم شتات الأراضي التي سبق للدولة أن فقدتها. إن إفاقة الدولة من كارثة أنقرة يرجع إلى منهجها الرباني الذي سارت عليه، حيث جعل من العثمانيين أمة متفوقة في جانبها العقدي والديني والسلوكي والأخلاقي والجهادي، وبفضل الله حافظ العثمانيون على حماستهم الدينية وأخلاقهم الكريمة، ثم بسبب المهارة النادرة التي نظم بها أورخان وأخوه علاء الدين دولتهما الجديدة، وإدارة القضاء المثيرة للإعجاب، والتعليم المتواصل لأبناء وشباب العثمانيين، وغير ذلك من الأسباب التي جعلت في العثمانيين قوة حيوية كاملة، فما لبثت هذه الدولة بعد كارثة أنقرة أن انبعثت من جديد من بين الأنقاض والأطلال، وانتعشت وسرى في عروقها ماء الحياة، وروح الشريعة، واستأنفت سيرها إلى الإمام في عزم وإصرار حير الأعداء والأصدقاء.

السلطان محمد جلبي خامس السلاطين العثمانيين:
يقول محمد فريد بك: "وبذلك انفرد محمد المولود سنة 781هـ / 1379م بما بقي من بلاد آل عثمان، واشتهر في التاريخ باسم السلطان محمد جلبي الغازي. ويعتبر بعض المؤرخين السلطان محمد الاول خامس سلاطين آل عثمان ولم يعتبروا إخوته؛ لكونهم لم يلبثوا في الملك مدة طويلة وذلك لعدم الخلط في تعداد ملوك هذه الدولة، ولم يراع البعض الآخر هذا الترتيب بل اعتبرهم ملوكا، ولذلك وجد اختلاف بين كتب المؤرخين في عدد سلاطين الدولة العثمانية، لكن المتفق عليه هو عدم اعتبار من نازع السلطان محمد جلبي في الملك من إخوته وعده هو خامس سلاطين الدولة العلية".

كان السلطان محمد جلبي متوسط القامة، مستدير الوجه، متلاصق الحاجبين، أبيض البشرة، أحمر الخدين، واسع الصدر، صاحب بدن قوي، في غاية النشاط وجسورًا ، يمارس المصارعة، ويسحب أقوى أوتار الأقواس، لذلك أطلق عليه لقب "كرشجي" أي المصارع، كما اشترك أثناء حكمه في 24 حربًا وأصيب بأربعين جرحًا. استطاع السلطان محمد جلبي أن يقضي على الحرب الأهلية بسبب ما أوتي من الحزم والكياسة وبعد النظر وتغلب على إخوته واحدًا واحدًا حتى خلص له الأمر وتفرد بالسلطان، وقضي سني حكمه الثماني في إعادة بناء الدولة وتوطيد أركانها، لذا يعتبره بعض المؤرخين المؤسس الثاني للدولة العثمانية.

سياسة السلطان محمد الأول الداخلية:
يبدو أن السلطان محمد عاش معذب الضمير من جراء قتله لإخوته الثلاثة عيسى وموسى وسليمان, وقد انعكس ذلك في معاملة الآخرين, فمما يؤثر عن هذا السلطان أنه استعمل الحزم مع الحلم في معاملة من قهرهم ممن شق عصا طاعة الدولة، فإنه لما قهر أمير بلاد القرمان وكان قد استقل عفا عنه بعد أن أقسم له على القرآن الشريف بأن لا يخون الدولة فيما بعد، وعفا عنه ثانية بعد أن حنث في يمينه. وأيضًا في انتصاره على أمير أزمير قرة جنيد، ثم عفا عنه وعينه حاكمًا لمدينة نيكوبلي.

سياسة السلطان محمد جلبي الخارجية:
اتبع السلطان محمد جلبي سياسة المهادنة والمسالمة مع القوى المجاورة، حيث كانت سياسته تهدف الى إعادة بناء الدولة وتقويتها من الداخل، فخاطب مبعوثي جمهوريات البندقية وجنوة وراجوزة وممثلي الصرب والأفلاق ورسول دوقة ألبانيا الذين جاءوا يباركون انتصاره على أخيه موسى قائلا: "قولوا لحكامكم وأمرائكم إني أريد السلام معهم، والذي لا يريد السلام فخصمه الله راعي السلام الأكبر".

ولذلك سالم مانويل الأول إمبراطور القسطنطينية وحالفه، والتزم باتفاقية اسكدار التي وقعها معه عام 814هـ / 1411م، فأعاد إليه بعض المدن على شاطئ البحر الأسود التي كان الأمير موسى قد سيطر عليها. كما أعاد إليه ضواحي سيلانيك. كما صالح البندقية بعد هزيمة أسطوله أمام كليتبولي وعقد اتفاق تعهدا كل منهما بعدم المساس بسفن الآخر. كما قمع الفتن والثورات في آسيا وأوروبا وأخضع بعض الإمارات الآسيوية التي أحياها تيمورلنك ودانت له بالطاعة والولاء.

وقد خاف الأوربيون من عودة قوة السلطنة العثمانية، وأصبح سيغموند إمبراطورا في ألمانيا، وساندته المجر والهرسك فوجَّه جيشه ضد العثمانيين، فتصدى له المُجاهد إسحق بيك، ووقعت معركة "ديبوي" في شمال البوسنة، فهُزم الأوربيون، وانتصر العثمانيون، فأعلن دوق الهرسك خضوعه للسلطان العثماني، وبدأ إعمار مدينة سراي البوسنة أي: سراييفو لتكون مدينة إسلامية، وقاعدة للفتوحات، فتم تحوليها من قرية منسية إلى حاضرة إسلامية تحمل سمات المدينة الإسلامية بشكل كامل، واجتاز السلطان نهر الدانوب شمالًا، فاستولى على رومانيا، واجتاحت قواته ميناء تريستا، ووصلت إلى ترانسلفانيا بقيادة المجاهد إسحاق بيك الذي استشهد هنالك.

واستمرارا لسياسته السلمية أكد في مراسلاته مع شاه رخ خليفة تيمور لنك على كونه غازيا ضد الكفار؛ لإبعاد شبه المواجهة معه.

حركة بدر الدين:
قام أحد القضاة ويدعى بدر الدين بحركة يدعو فيها إلى مبادئ مشابهة للاشتراكية وتبنيها الفلسفة الوجودية, وتبعه في ذلك الكثير وخاصة من أصحاب الديانات الأخرى، وأحس السلطان باستفحال أمره فقاتله وانتصر عليه وقتله، بعد أن اصدرت المحكمة حكما بتكفيره.

حركة دوزمة مصطفى:
ظهر فجأة الأمير مصطفى بن السلطان بايزيد، وطالبه بأنه أحق بالعرش من أخيه محمد، وأطلقت المصادر العثمانية عليه (دوزمة مصطفى) أي المزيف أو المنتحل، على اعتبار أن مصطفى قُتل في معركة أنقرة، بينما البحوث الحديثة أكدت أنه الابن الحقيقي للسلطان بايزيد الأول، وأطلق سراحه بعد وفاة تيمور لنك عام 807هـ / 1405م، فعاد إلى الأناضول، واختفى خلال مدة صراع الإخوة على العرش. ثم ظهر وأعلن أحقيته بالعرش من أخيه محمد وقاتله، وانضم إليه قرة جنيد، ودخل إلى بلاد اليونان، ولكنه هُزم ففر إلى مانويل الثاني إمبراطور بيزنطة الذي رفض تسليمه إلى السلطان محمد فلقد كان يعدهما ورقة ضغط ضد السلطان محمد. لذلك لم يسلمهما، ولكنه وعده بوضع أخيه مصطفى تحت الإقامة الجبرية، وخصص السلطان لأخيه راتبًا شهريًّا، وبرغم خيانة قرة جنيد إلا أن السلطان عفا عنه مرة أخرى.

مناقب السلطان محمد جلبي:
بعد أن انتهى السلطام محمد من القضاء على الفتن الداخلية، تفرغ لبناء دولته، فقد كان السلطان محمد جلبي محبًا للشعر والأدب والفنون، ورغم الحروب فقد شيد السلطان محمد جلبي العديد من الآثار المعمارية الإسلامية في شتى أنحاء السلطنة العثمانية، فأكمل بناء الأبنية التي توقف بنائها خلال مدة حرب الإخوة ووضع أسسا أخرى، فأكمل بناء الجامع الذي وضع أسسه أخيه سليمان واستمر موسى لبنائه، على ساحل نهر مريج على طريق مدينة فيليبة Phillipa، وعرف بجامع "أولو جامع"، كما أكمل الجامع الذي أسسه جده مراد الأول في بورصة على مساجة مائة قدم مربع،

وطبقا لبعض المصادر العثمانية فإن السلطان محمد جلبي الأول هو أول سلطان عثماني أرسل الهدية السنوية إلى أمير مكة التي يطلق عليها اسم الصرة (كيس مال)، وهي عبارة على قدر معين من النقود يرسل إلى أمير مكة لتوزيعه على أهالي مكة والمدينة، وكانت بنحو عشرة آلاف قطعة ذهب سنويًّا، مخصصا لها وقف الجامعين والحمامين الذين بناهما في قصبة مرزيفون التابعة لأماسية. فأصبح عمله قانونا يراعى في الدولة العثمانية ويعمل به السلاطين.

وقد أحب الشعب العثماني السلطان محمد الأول وأطلقوا عليه لقب بهلوان (ومعناها البطل) وذلك بسبب نشاطه الجم وشجاعته، كما أن أعماله العظيمة وعبقريته الفذة التي قاد من خلالها الدولة العثمانية إلى بر الأمان، مع جميل سجاياه وسلوكه وشهامته وحبه للعدل والحق، جعل شعبه يحبه ويطلق عليه لقب "جلبي" أيضًا وهو لقب تشريف وتكريم فيه معنى الشهامة والرجولة.

ولقد كان السلطان محمد الأول محبًا للسلام والعلم والفقهاء، ولذلك نقل عاصمة الدولة من أدرنة (مدينة الغزاة) إلى بورصة (مدينة الفقهاء)، وكان على خلق رفيع، وحزم متين ، وحلم فريد، وسياسة فذة في معاملة الأعداء والأصدقاء.

حقيقة إن بعض حكام آل عثمان قد فاقوه شهرة، إلا أن بالإمكان اعتباره من أنبل حكام العثمانيين، فقد اعترف المؤرخون الشرقيون واليونانيون بإنسانيته، واعتبره المؤرخون العثمانيون بمثابة القبطان الماهر الذي حافظ على قيادة سفينة الدولة العثمانية حين هددتها طوفان الغزوات التترية، والحروب الداخلية، والفتن الباطنية.

وفاة السلطان محمد جلبي:
بعد أن بذل السلطان محمد الأول قصارى جهده في محو آثار الفتن التي مرت بها الدولة العثمانية وشروعه في إجراء ترتيبات داخلية تضمن عدم حدوث شغب في المستقبل، وبينما كان السلطان مشتغلًا بهذه المهمام شعر بدنو أجله، فدعى الباشا بايزيد وقال له: "عينت ابني مراد خليفة لي فأطعه وكن صادقًا معه كما كنت معي. أريد منكم أن تأتونني بمراد الآن لأنني لا أستطيع أن أقوم من الفراش بعد. فإن وقع الأمر الإلهي قبل مجيئه حذاري أن تعلنوا وفاتي حتى يأتي".

وفاجأه الموت في سنة 824هـ / 1421م في مدينة أورنة، وأسلم روحه لخالقه وعمره 43 سنة، ونقل جثمانه إلى مدينة بورصة ودفن هناك في التربة المشهورة حتى الآن باسم (يشيل تربة) أي التربة الخضراء. وخوفًا من حصول ما لا تحمد عقباه لو عُلم موت السلطان محمد الأول اتفق وزيراه إبراهيم وبايزيد على إخفاء موته على الجند حتى يصل ابنه مراد الثاني، فأشاعا أن السلطان مريض، وأرسلا لابنه فحضر بعد واحد وأربعين يومًا واستلم مقاليد الحكم.

وهكذا تمكن السلطان محمد جلبي الأول من إعادة هيبة الدولة العثمانية مرة ثانية، واسترجعت السلطة رونقها بعد تداعت جوانبها، فاستحق بجدار لقب "النوح الذي أنقذ سفينة الدولة التي ألقيت في طوفان خطر التتر"، والمؤسس الثاني للدولة العثمانية.

المراجع:
- محمد فريد بك: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، الناشر: دار النفائس، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1401هـ / 1981م.
- علي الصلابي: الدولة العثمانية، الناشر: دار التوزيع والنشر الإسلامية، مصر، الطبعة: الأولى، 1421هـ / 2001م.
- علي خليل أحمد: جهود السلطان محمد الأول في إعادة بناء الدولة العثمانية، بحث منشور ضمن بحوث كلية التربية / جامعة كركوك - العراق.

قصة الإسلام