من كتاب الإسلام والإيمان والإحسان والواقع المعيش- الفصل السادس - الحـج
24-05-2012, 07:47 AM
الحج ركن من أركان الإسلام الخمسة، من أنكر وجوبه فقد كفر وارتد عن الإسلام، فرض سنة ست بعد الهجرة(1)، والحج لغة هو القصد إلى معظم، أما شرعا فهو تأدية أعمال مخصوصة في زمان مخصوص ومكان مخصوص وعلى وجه مخصوص(2).
الحج فرض على كل مسلم ومسلمة مرة واحدة في العمر لمن استطاع إليه سبيلا(3)، قال تعالى: ﴿ ...وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِين ﴾(ال عمران/97)(4)، الحج فرض على الفور. فكل من توفرت فيه شروط وجوبه، ثم أخره عن أول عام استطاع فيه يكون آثما بالتأخير(5) ومن مات وعليه حجة الإسلام، أو حجة كان قد نذرها وجب على وليه أن يجهز من يحج عنه من ماله، كما أن عليه قضاء ديونه... ومن استطاع السبيل إلى الحج ثم عجز عنه، بمرض أو شيخوخة، لزمه إحجاج غيره عنه لأنه أيس من الحج بنفسه لعجزه، فصار كالميت فينوب عنه غيره(6).
يشترط لوجوب الحج البلوغ، فلا يجب على الصبي الذي لم يبلغ الحلم، فإذا حج الصبي وكان مميزا يدرك معنى الحج فانه يصح منه، ولكن لا يسقط عنه الحج المفروض، ويشترط العقل، فلا يجب الحج على المجنون، ولا يصح منه، وتشترط الحرية والإستطاعة فلا يجب الحج على الرقيق ولا على غير المستطيع، أما الإسلام فهو شرط صحة؛ لا شرط وجوب(7).
الإستطاعة في الحج هي أن يكون المكلف صحيح البدن، أما العاجز لشيخوخة أو مرض لا يرجى شفاؤه فيلزمه إن كان له مال أن يحج غيره نيابة عنه، ومن الإستطاعة كذلك؛ أن تكون الطريق آمنة بحيث يأمن الحاج على نفسه وماله، وأن يكون مالكا للزاد والراحلة، وأن لا يوجد ما يمنع من الذهاب إلى الحج كالحبس والخوف من سلطان جائر يمنع الناس من الذهاب إلى الحج(8).
يجب أن يكون المال الذي يملكه الحاج؛ خالصا من الدين وحقوق الغير، خاليا من الربا والمحظورات، مدفوعا عنه فريضة الزكاة(9)، قال محمد الغزالي رحمه الله« الحج عبادة تقيمها قلوب ساجدة وأيد مجاهدة، فهل نحسن الحج؟ أم نذهب ونعود ونحن لا ندرى؟ »(10)، فيا شقاوة من حج بمال اكتسبه عن طريق الرشوة والربا وإن حج صاحبه وأعاد!!.
أركان الحج أربعة وهي: الإحرام؛ وهو الدخول في حرمات الحج، يتحقق بالنية فقط ويسن اقترانه بقول كالتلبية والتهليل، أو فعل متعلق بالحج كالتوجه وتقليد البدنة، ثم طواف الإفاضة ويقال له طواف الزيارة وهو سبعة أشواط، ثم السعي بين الصفا والمروة وهو سبعة أشواط كذلك، والركن الرابع هو الوقوف بعرفة، الحضور بأرض عرفة على أي حال من الأحوال، وإذا نقص ركن من هذه الأركان بطل الحج(11)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مَا مِنْ يَوْمٍ اَكْثَرَ مِنْ اَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّار، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَاِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلاَئِكَةَ فَيَقُولُ: "مَا اَرَادَ هَؤُلاَءِ؟ " »(12).
الحج أجره عظيم، قال رسول الله صلى عليه وسلم: « مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ اُمُّهُ »(13)، وقال: « الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ »(14).
فعلى الحاج أن يكون خاليا في حجه من تجارة تشغل قلبه وتفرق همه، ليجتمع على طاعة الله تعالى، وأن يكون أشعث أغبر، رث الهيئة، غير مستكثر من الزينة(15).
يحقق الحج فوائد روحية وأدبية واجتماعية واقتصادية، قال تعالى: ﴿ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَاتُوكَ رِجَالاَ وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَاتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الانْعَامِ فَكفَُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ﴾(الحج/28،27).
لفت الحج انتباه حتى غير المسلمين فها هو ذا الدكتور فيليب حتي يقول في كتابه ( تاريخ العرب): « ولا يزال الحج على كر العصور نظاما لا يبارى في تشديد عرى التفاهم الإسلامي والتأليف بين مختلف طبقات المسلمين، وبفضله يتسنى لكل مسلم أن يكون رحالة مرة على الأقل في حياته، وأن يجتمع مع غيره من المؤمنين اجتماعا أخويا، ويوحد شعوره مع شعور سواه من القادمين من أطراف الأرض. وبفضل هذا النظام يتيسر للزنوج والبربر والصينيين والفرس والترك والعرب وغيرهم أغنياء كانوا أم فقراء، عظماء أم صعاليك أن يتآلفوا لغة وإيمانا وعقيدة. وقد أدرك الإسلام نجاحا لم يتفق لدين آخر من أديان العالم في القضاء على فوارق الجنس واللون والقومية خاصة بين أبنائه فهو لا يعترف بفاصل بين أفراد البشر إلا الذي يقوم بين المؤمنين وبين غير المؤمنين. ولا شك أن الإجتماع في مواسم الحج أدى خدمة كبرى في هذا السبيل»(16).
والعمرة سنة مؤكدة مرة في العمر، ويكره تكرارها في السنة مرارا وحكمها في الإستطاعة، والنيابة والإجارة، حكم الحج(17)، والعمرة لغة الزيارة يقال: أعمره إذا زاره، وشرعا زيارة البيت الحرام على وجه مخصوص(18).
كثر التنافس في الوقت الحالي على تكرار الحج والعمرة؛ وهذا شيء جيد وجميل إن كان المال خاليا من أي شبهة، وليس فيه حق للغير، ولا يسبب هذا التكرار المهالك للغير، والله سبحانه وتعالى لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة، فمن تطوع بالحج أو العمرة؛ وهو يبخل بإخراج الزكاة المفروضة عليه؛ فحجه وعمرته مردودان عليه.
وأولى بمن يريد أن يكرر الحج والعمرة أن يطهر ماله بإخراج الزكاة، ومثل ذلك؛ من كان عليه دين ولم يوف هذا الدين لا يجوز له التنفل بالحج أو العمرة قبل قضاء ما عليه من ديون، وإذا كان يترتب على كثرة الحجاج المتطوعين إيذاء لكثير من المسلمين من شدة الزحام وانتشار الأمراض يجب تقليل هذا الزحام، وأن يمتنع الذين حجوا عدة مرات عن الحج ليفسحوا المجال لغيرهم ممن لم يحج حجة الفريضة، وإذا كان القصد من ذلك التطوع بالخيرات فأبواب التطوع بالخيرات واسعة وكثيرة، ولم يضيق الله سبحانه وتعالى على عباده فيها، والمؤمن البصير هو الذي يتخير منها ما يراه أليق بحاله، وأوفق بزمانه وبيئته.
فإذا كان في التطوع بالحج أذى أو ضرر يلحق بالمسلمين؛ فقد فسح الله للمسلم مجالات أخرى يتقرب بها إلى ربه سبحانه وتعالى كلإنفاق على الجمعيات الدينية، والمراكز الإسلامية، والمدارس القرآنية، والمؤسسات الإجتماعية والثقافية التي تقوم على أساس الإسلام.
فلو أن مئات الألوف الذين يتطوعون سنويا بالحج والعمرة رصدوا ما ينفقون في حجهم وعمرتهم لإقامة مشروعات إسلامية، أو لإعانة الموجود منها، ونظم ذلك تنظيما حسنا، لعاد ذلك على المسلمين عامة بالخير وصلاح الحال والمآل، وإن كان لابد من تكرار الحج والعمرة فليكن كل خمس سنوات(19).
لقد أنعم الله سبحانه وتعالى علينا بأفضل النعم، أنعم علينا بنعمة الإسلام وفضلنا على كثير من الأمم، وفضل نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم على جميع الأنبياء والمرسلين، فلنكن في مستوى هذا التفضيل، ولنعبد ربنا حتى يأتينا اليقين، فنكون بإذنه إن شاء الله من الفائزين آمين.
ــــــــــــ
(1)– ينظر فقه السنة، الجزء الأول ص527.
(2)– ينظر كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، المجلد الأول ص631.
(3)– ينظر كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، المجلد الأول ص631.
(4)– أول الآية ( فِيهِ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا...).
(5)– كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، المجلد الأول ص631.
(6)– فقه السنة، الجزء الأول ص537،536.
(7)– ينظر كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، المجلد الأول ص632
(8)– ينظر فقه السنة، الجزء الأول ص531- 533.
(9)– روح الدين الإسلامي، ص261.
(10)- علل وأدوية، ص158.
(11)– ينظر كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، المجلد الأول ص638-664.
(12) - مختصر صحيح مسلم، ص191.
(13) - مختصر صحيح البخاري، ص181.
(14) - مختصر صحيح البخاري، ص199.
(15) - مختصر منهاج القاصدين، ص48.
(16) – روح الدين الإسلامي، ص265.
(17) – التلقين في الفقه المالكي، الجزء الأول ص204.
(18) – كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، المجلد الأول ص684.
(19)– ينظر فتاوى معاصرة ( العبادات في الإسلام)، ص159.

المصادر والمراجع
- القرآن الكريم برواية ورش.
- السيد سابق، فقه السنة، الجزء الأول- العبادات-، دار الفكر بيروت، الطبعة الأولى1397هـ - 1977م.
- عبد الرحمن الجزيري، كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت، المجلد الأول.
- عفيف عبد الفتاح طبارة، روح الدين الإسلامي، دار العلم للملايين بيروت - لبنان، الطبعة السادسة عشرة تشرين الثاني1977.
- محمد الغزالي، علل وأدوية، دار الشهاب للطباعة والنشر باتنة- الجزائر، الطبعة الثانية 1406هـ -1986.
– الحافظ عبد العظيم بن عبد القوي المنذري، مختصر صحيح مسلم دار الإمام مالك الجزائر، الطبعة الأولى1428هـ -2007م.
- الإمام زين الدين أحمد بن عبد الطيف الزبيدي، مختصر صحيح البخاري المسمى التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، دار الإمام مالك الجزائر، الطبعة الأولى1428هـ -2007م.
- الإمام أحمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسي، مختصر منهاج القاصدين، المكتبة القيمة للطباعة والنشر والتوزيع القاهرة.
- القاضي أبو محمد عبد الوهاب البغدادي المالكي، تحقيق ودراسة محمد ثالث سعيد الغاني، التلقين في الفقه - المالكي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت لبنان1425-1426هـ-2005م.
- الدكتور يوسف القرضاوي، فتاوى معاصرة، العبادات في الإسلام، دار الشهاب باتنة الجزائر.

بوداود جلولي
.../...