مؤسسات القطاع العام في تونس بين حمى التفويت وإمكانات التصدي
10-09-2018, 12:31 AM
بلغ الحوار والتجاذب حول مصير المؤسسات العمومية في تونس بين المنظمة النقابية الاتحاد العام التونسي للشغل و الحكومة مأزقا ينذر بالصدام بين الطرفين بعد اعتزام الحكومة الرضوخ لاملاءات الصناديق الدولية ومعالجة ملف مؤسسات القطاع العام بالتفويت أساسا و باصلاح ما سيتم تأجيل التفويت فيه وبعد تلويح الاتحاد بالدخول في اضراب عام في القطاع العام على اثر تنكر الحكومة لالتزاماتها بمعالجة واصلاح المؤسسات حالة بحالة وطي ملف التفويت .
يحاول البعض تبسيط النقاش حول هذا الملف و الترويج لذلك عبر الأذرع الاعلامية بأنه من البديهي أن يتم بيع مؤسسة إنتاج عمومية بما أنها خاسرة أو لم تحقق أرباحا منذ مدة وبتعلة أنها تثقل كاهل دافعي الضرائب بأموال تضخ فيها سنويا لمساعدتها على تجاوز الصعوبات المالية . وبأن الحديث عن التفويت هو حديث علمي خال من كل خلفية ...
الموضوع شائك و الخلفية واضحة وفي عمق التحليل الذي ينتهي بالتفويت أو بالمحافظة كلاهما يخفي تصور كامل للاقتصاد وللدولة وللتنمية ولدور الدولة والقطاع الخاص في التنمية والتشغيل وتصور للسيادة الوطنية على الثروات وتصور لعلاقة القطاع العام بالخاصة ودور الدولة في توجيه القطاع الخاص ... وبالتالي فان الصراع صراع إيديولوجي ان صح التعبير لا مجرد موازين قوى سياسية ، بين منظومة ذات توجه اجتماعي ومنظومة نيوليبيرالية ، منظومة تصب في صالح النفع الجماعي و المستدام الذي يأخذ بعين الاعتبار مصلحة الأجيال القادمة و يحافظ على ما ورث من الأجيال السابقة من ركائز للاقتصاد الوطني تجنبه هزات الأزمات الدورية العالمية وبين منظومة ثانية لها امتداداتها في الحكم و في الجهاز الذي ينظّر لخيارات الحكم داخليا وخارجيا ، تقوم على التفويت لتشجيع المنافسة بين الخواص و تدعيم الحيتان الكبيرة للهيمنة على مقدرات البلاد ومواصلة التهرب الضريبي وتسريح العمال و طلب المساعدة المستمر من الدولة بعد تجريدها من ممتلكاتها وافراغها من أي دور تنموي اجتماعي ...
هذه المنظومة رغم محاولاتها لم تستطع بجرة قلم نسف مؤسسات القطاع العام والتفويت فيها دفعة واحدة بل تعتمد على مرحلية مدروسة تأخذ بعين الاعتبار الظرفية العالمية و الوضع الاقتصادي المحلي وتأثيرات الأزمة الاقتصادية و السياسية و مدى قوة الجانب النقابي ودوره في التأثير في الشأن الوطني ، ذلك أن موجة الخصخصة التي انتعشت نهاية الثمانينات وبداية التسعينات لم تنجح في تحقيق أهدافها الا بعد ضرب المنظمة النقابية وتدجينها عبر مراحل وصولا لمؤتمر 1989 وما أفرزته من تركيبة مهادنة للسلطة القائمة ولممارساتها العابثة بالاقتصاد الوطني وبحقوق العمال .وفي هذا الاطار عددت هذه الاطراف أساليبها لبلوغ مراميها . أولها كما سبق أن ذكرنا اختيار التوقيت المناسب والظرفية الداخلية وضعف العمل النقابي للقيام بالتفويت المباشر وان تعذر الأمر يتم ترك المؤسسة للتسيب الإداري و الفساد و غياب الحوكمة و الرقابة و إغراقها بالعمال والموظفين والديون فتتحول عمليا الى عالة على المجموعة الوطنية فتجد الحكومات الذريعة للتفويت فيها بصيغة التخلص منها ، فان تعذر ذلك فان الحفر بجانب أسسها قبل الاجهاز عليها يكون هو الحل باطلاق يد مؤسسات تنافسية خاصة في نفس المجال وبإمكانيات أكبر و قدرة أكثر على التجديد والتطوير و بطاقة تشغيلية أقل وامتيازات أكبر للإطارات و الخبرات فتجفف منابع المؤسسة العمومية من حيث الصفقات و العقود والشراكة والأسواق وحتى المهارات والخبرات فتتراجع مردوديتها وتصبح عالة على ميزانية الدولة فتجد المسوغ للتفويت فيها جزئيا أو كليا .
التفويت كاجراء يحمل في ذاته نية مبيتة فالاستثمار الخاص الذي سيتحصل على صفقة شراء المؤسسة العمومية أو جزء منها هدفه بلا شك الربح والربح الأقصى و أمله من هذه المؤسسة بعد إصلاحها هو تحقيق الأرباح بعد استعادة ما تم دفعه مقابل الحصول عليها عبر الصفقات والرشاوي وغيرها ... أوليس الشعب والدولة أولى بإصلاح هذه المؤسسات و تطويرها و الأمل في ربح للمجموعة الوطنية .
لذلك فان الطرح الذي يرفض التفويت في مؤسسات القطاع العامل ليس طرحا طوباويا محافظا كما يروج له بل طرح عملي عقلاني يعتبر أن هذه المؤسسات هي مصدر من المصادر الهامة لخلق الثروة وتدعيم الدخل بالنسبة للدولة و ما الصعوبات التي تمر بها إلا بفعل فاعل أو في أفضل الحالات نتيجة سوء تصرف وبيروقراطية وغياب الحوكمة وتحولها إلى مؤسسات يتمعش منها الجميع بدء بميزانية الدولة وصولا لتشغيل ضعف طاقتها واغراقها بالعمالة الإضافية وتكبيلها بقوانين لا تتماشى وطبيعتها الإنتاجية التنافسية ... لذلك فان المطالب النقابية و السياسية ذات التوجه الاجتماعي واليساري اذ تطرح مسالة المحافظة على مؤسسات القطاع العام و إصلاحها حالة بحالة فان عليها أن تعي جيدا أن تضحيات لابد منها لإنقاذها من منزلق التفويت و أولها الحوكمة في الانتدابات بتخليص المؤسسات الإنتاجية من فائض اليد العاملة بصيغ تحفظ حقوقهم لكن تضمن استمرارية المؤسسة و تخصيص اعتمادات تنافسية لانتداب كفاءات ذات مستوى يظاهي المؤسسات الخاصة ، وتطوير طرق العمل والإنتاج والتسويق و فتح أفاق توسيع نشاط المؤسسة داخليا وخارجيا ، وتحول النقابة من مجرد طرف مطلبي الى شريك حقيقي في التفكير في تطوير المؤسسات العمومية و تحويلها إلى مكسب حقيقي للشعب والضرب أساسا على أيدي الفاسدين و على كل محاولات إنهاكها تمهيدا لبيعها وخلق رأي عام مدافع عن ممتلكات الشعب وعن مؤسسات القطاع العام والخروج بالملف من الغرف التفاوضية الضيقة الى النقاش العام الذي لن يصب سوى في صالح المحافظة على هذا المكسب وتدعيمه و كشف نوايا التفويت فيه .

محمد المناعي - تونس
[email protected]