( قصــــة ) أخـتـــــــــــي !!
23-10-2018, 01:37 PM
بسم الله الرحمن الرحيم













( قصــــة )
أخــــــــــــــــــــتي !!

تلك هي أختي .. شقيقتي ورفيقة الدرب لطفولتي .. ومنذ أن رأيت معالم الحياة وجدتها أمام عيني .. كنا نمثل طفلة وطفل لعائلة صغيرة .. أب لطيف وأم حنونة .. ولكن لسبب مجهول كنا نتبادل العداء بإفراط غير معقول .. فتلك الأخت قد مثلت نموذج الشقاء في مسار طفولتي .. كنا نتبادل نوعاً من التشاجر والتناحر والعداء المكبوت .. وقد مثلت تلك الأخت ذلك الخصم اللدود في كل المواسم .. فهي كعادتها منذ نعومة أظفارها كانت تحب وتنتشي بمناوشتي ومناكفتي ومكايدتي .. تجيد العناد والخصام بقدر لا يحتمل التراجع .. كانت كل خطواتها واجتهاداتها أن تعمل عكس مرامي .. فإذا قلت لها شرقاً قالت بل غرباً وغرباً .. وإذا قلت لها غرباً قالت بل شرقاً وشرقاً .. وإذا حكمت في أمر كانت تناقض حكمي بعناد .. وتصر على العكس والعناد .. وإذا بكيت يوماَ أزرف الدموع وجدتها ترقص فرحا وطربا لبكائيَ .. وإذا ضحكت يوماَ أمرح وأفرح بلحظة سعادة أظهرت ملامح الحزن في وجهها .. وكنت دائماً أتعجب من مواقف أختي تلك العدائية .. فهي رغم أنها الوحيدة في المعية والرفقة كانت تكرهني لسبب أجهله .. فكأنها قد وجدت في الحياة لتعكر صفوي ومزاجي .. كانت تعشق كل أمر يجلب همي وغمي .. ولم نلتقي يوماَ في لحظة ضحكة تجمع البين .. بل كان ذلك الشجار تلو الشجار .. وذلك الخصام تلو الخصام .. وفي كثير من الأحيان كانت تصنع الأسباب ليكون الشجار .. وقد يصل الشجار لمرحلة التشابك بالأيدي والعراك .. وفي كل مرة كانت تلك الدموع في أحداقها وأحداقي .. والأعجب في الأمر أن تلك الصورة والديمومة في السجال والشجار والخصومة جعلتني أعتقد بجهالة أن ذلك الواقع هو السائد في بيوت الناس بين الأولاد والبنات !! .. ولم يخطر في بالي لحظةً أن تلك الحروب ليست بالضرورة .. وأن هنالك حياة غير تلك الحياة المشوبة بالعداء والعراك .
............... وكما أسلفنا فإن العائلة كانت تشملني وتشملها .. كانت هي وكنت أنا .. وهي كانت تكبرني بعامين .. ترعرعنا سوياَ لنجتاز مراحل الطفولة في ذلك البيت الذي كان يخلو من أطفال غيرنا .. وهي أسرة كانت هانئة ومتواضعة ومحافظة .. وحين كنا نتشاجر أنا وأختي كانت أمنا تتدخل في غياب الأب لتفض الشجار .. أو يتدخل أبونا في حال تواجده بالدار .. وبحكم جهلي وبراءة ظني كنت أعتقد أن أبي يفضلها علي .. وهي بحكم جهلها كانت تظن أن أمي تفضلني عليها .. فإذا تشاجرنا كما يحدث عادة بين أخ وأخت كانت أمي تقف بجانبي مدافعة عن ولدها .. وكان أبي دائماَ يقف بجانبها يدافع عنها ويحفظها من غدري وكيدي .. والحكمة ليست متعمدة إنما ذلك هو الأب الذي يظن أن عليه أن يحمي ابنته في حال الشجار .. لأن البنت مهما تدعي القوة فهي رقيقة المشاعر وضعيفة عند التشبك والتعارك .. وعنفها ليس بدرجة العنف المتطرف لدى الأولاد الذكور .. ثم أن الوالد عادة يقف بجانب البنت حتى لا تتعرض البنت لضرب قد يترك آثاراَ تشوه وجهها وجمالها .. أما تلك الأم الحنونة فكانت تدافع عن ولدها الوحيد وتظن أن ولدها ضحية مكائد ابنتها الماهرة في التخطيط والإيقاع .. تلك الابنة الشقية التي كانت دائماَ تنجح في كسب عطف أبيها بالدموع الخادعة الكاذبة .. ومجمل الأحوال كان يمثل ذلك الجدل المعتاد الذي يحدث بين الأطفال في الأسرة الواحدة .. فهي تلك المناكفات والمشاحنات من حين لآخر .. وعادة تستمر تلك المظاهر السلبية البريئة في كل مراحل الطفولة .. ثم تتقلص وتتناقص تلك الصورة تدريجياَ عند مراحل العقل والتعقل .. أما أنا وأختي فكانت معركتنا قوية ومبالغة في الحدة والخصام .. وكانت العداوة والخصومة قوية بدرجة تفوق المعدل العادي لدى الآخرين .. فكم من المرات مزقت لها الكتب المدرسية وجعلتها تبكي وتولول حتى يعود أبي فتحكي له الرواية بالزيادة وبالرتوش اللازمة .. ثم أنال أنا تلك العلقة الساخنة .. وكم من المرات كانت أختي تخفي ملابسي المدرسية حتى أتأخر عن مواعيد الطابور في الصباح .. ثم أنال ذلك الجزاء والعقاب من إدارة المدرسة .. وباختصار شديد كانت معركة الطفولة بيننا عنيفة وقوية للغاية .. ومع الأسف الشديد فإن تلك المعركة مع مرور الزمن تركت أثرها البالغ في نفسي ونفسها .. وأوجدت حاجزاَ مانعاَ بيني وبينها بذلك القدر الذي خلق نوعاَ من الجفاء الشديد والسلبية الغير عادية في علاقة الأخ بالأخت .. وعندما كبرنا دامت تلك السلبية وذلك الجفاء وعدم الاكتراث بالآخر .. وكلما تعمقنا في مراحل العقل والعمر كلما ابتعدنا عن عادة الشجار .. ثم مرت السنوات بيني وبين أختي ونحن نتمسك بتلك السلبية القاحلة المفرطة .. لا أهتم إطلاقاً بشئونها .. ولا تهتم إطلاقاً بشئوني .. وكأنها ليست بأختي وكأني لست بأخيها .
.............. مرت السنوات .. وكبرت الأجساد .. وتباعدت المسافات .. هي بصديقاتها وأترابها .. وأنا بأصدقائي وأترابي .. والخيط الرفيع الذي يربطنا هو فقط ذلك المسمى حيث مسمى ( الأخ والأخت ) .. وحين شاءت الأقدار وتلاءم الظروف فكرت في التأهل والزواج .. وبدأت الأسرة خطواتها في مراسيم الاحتفالات .. تتبع في ذلك تلك العادات المعهودة في تلك البلاد .. ومن تلك العادات ما يعرف باحتفالات يوم ( الحناء ) لدى أهل العريس ولدى أهل العروسة .. والقرية التي نحن فيها تتميز بطقوسها الخاصة في الكثير من جوانب تلك الاحتفالات .. ومن تلك العادات أن جميع أهل العريس يلتقون يوم الحناء في بيت العريس .. كما أن جميع أهل العروسة يلتقون في بيت العروسة .. وبعد الانتهاء من مراحل التكريم والولائم تبدأ مراسيم الحناء حيث الزغاريد والترانيم والأغنيات .. في تلك اللحظات يجلس العريس مع مجموعة من الأصدقاء المقربين والإخوان الأشقاء فوق أريكة تتوسط بساطاَ مزركشاَ يفترش على الأرض .. ثم يتم تحضير العطور والحناء .. ومن التقاليد المقدسة في تلك اللحظات أن تتقدم القريبات من أولاة الأرحام ( الأم والأخوات والخالات والعمات وبنات الأعمام وبنات الخالات ) بوضع نقطة صغيرة من عجين الحناء في جبين العريس .. وكثرة النقاط فوق الجبين تعني كثرة الأهل من أولي الأرحام .
.............. وفي ذلك اليوم كنت اجلس فوق الأريكة وسط الأقران والأصدقاء لإتمام مراسيم الحناء .. ثم همت إحدى الخالات لتضع النقطة الأولى من الحناء فوق جبيني .. وذلك بمصاحبة الزغاريد من الحسان .. ولكن لذهولي وذهول الحاضرين صرخت أختي بأعلى صوتها في تلك اللحظة .. ثم وقفت أمام الجميع والكل ينظر إليها في دهشة .. ثم أقسمت بالله بأن أحداً غيرها لن يضع النقطة الأولى من الحناء في جبين أخيها .. ثم فجأة تقدمت نحوي وهي تمسك بإناء الحناء في يدها .. وفي تلك اللحظة انطلقت الزغاريد والتباشير من الأهل والأصدقاء .. جلست أختي أمامي مباشرةً وهي تحاول ان تأخذ قطعة من باقة الحناء .. كانت أختي في تلك اللحظات تلبس أجمل الثياب بمناسبة زواجي .. وحين جلست أمامي كانت تغمرها الفرحة العارمة .. وهي تجتهد أن تمنع دموع الفرحة التي تسيل فوق خدودها .. ثم فجأة التقت عيني بعينها .. ولأول مرة تلتقي العيون في لحظة ود وحنان .. كانت دموع الفرح في عينيها .. وحين نظرت إليها مالت برأسها نحو الأرض باستحياء .. فأمسكت بيديها .. ثم رفعت رأسها بيدي لتنظر في عمق عيني .. فإذا بها تظهر كل ألوان السعادة بأخيها .. ثم فجأة تعانقت أناملي بأناملها بشدة والفرحة تغمر القلبين .. وفي تلك اللحظة أحسست لأول مرة بأنني أملك أختاً بمنتهى الرقة والحنان .. كما أحسست بأنها اقرب الأقربين إلى قلبي .. فرحة غامرة أنستني كل الماضي .. وقد عادت أختي التي فقدتها منذ نعومة أظفاري .. ثم تأملت في ملامح أختي وكأنني أشاهدها لأول مرة .. فإذا بها تلك الأخت الجميلة غاية الجمال .. ورقيقة غاية الرقة والخصال .. ودون اجتهاد مني بدأت دموع الفرحة تفلت من عيني .. كما كانت تفلت من عينها .. فكانت تلك اللحظات من أجمل اللحظات في حياتي .. وقد زادت اللحظات جمالاَ وروعة حين مالت أختي وهمست في أذني وقالت : ( ألف وألف مبروك يا أخي العزيز !! ) .. ثم أردفت وقالت : ( وعزة الله أنا أحبك كثيراَ وكثيرا يا شقيقي الوحيد ) .. تلك هي المرة الأولى التي تعترف فيها أختي بمحبتها الشديدة لنا .. كم وكم تمنيت أن أسمع تلك الحروف من قلبها .. فيا عجباً ففي لحظات قليلة تلاشت مجابهات العداء والخصومات بيني وبين أختي .. وكأنها لم تكن في يوم من الأيام .. وقد صدق الذي قال : ( أن دماء الأرحام لا تتحول أبــــداً ماءً ) .
ـــــــــــــ
قصة من محض الخيال للكاتب السوداني / عمر عيسى محمد أحمد