صنع في مـــــاليزيا
02-07-2018, 05:49 PM

وسط هدأة الليل و أوبة الأطيار الى أوكارها و خضوع الفضاء و الأمكنة الى سلطان الصمت و السكينة تتدفق الذكريات الى مخيلتي مثل تدفق المياه في الجداول...
تتزاحم الأشكال و الصور و التصاميم بين أسوار عقلي...
لكنني لا أستطيع أن أتخذ قرارا صائبا بعد...و حده قلم الرصاص كفيل بأن يترجم أفكاري و يفهم نزواتي و خيالاتي الجامحة و يحضن طموحي المتوثب.
بسطت أمامي ورقة كبيرة و خططت - خربشات - متواضعة كيفما اتفق.
ثم رسمت تصاميم متناقضة و تدعوا الى السخرية أحيانا ...
انسلخت ساعة و ساعة من عمر الليل السرمدي و اكتمل أخيرا تصميم الخزانة على الورقة .
نعم خزانة باذخة لنجل صديقي و جاري عثمان...
صباح أمس دخل علي عثمان الورشة و هو يدخن غليونا قديما جدا من مخلفات الاستعمار الايطالي و قال و هو يلوث الفضاء بسحابة من الأدخنة :
- ولدي سوف يتزوج الشهر القابل و قد قررت أن تكون أنت النجار الذي سوف يصنع خزانة لغرفة نوم العروسين –
و انصرف الرجل و هو يغمز بعينه قائلا:
- أكيد لن نختلف على الثمن -
فرحت فرحا شديدا بهذا التصميم الرائق. و هرولت مسرعا نحو الورشة في قبو المنزل..
أوقدت المصباح و أرسلت بصري ليصول و يجول في أركان الورشة العتيقة..
كأنني ألجها للوهلة الأولى في حياتي.
رائحة الخشب الأبيض تقتحم الأنوف بلا استئذان.
كل شيء مرتب في مكانه بعناية. علب المسامير وأنواع المناشير و ألواح الخشب و أوعية الصمغ الأصفر و و و...
تلك الورشة شهدت سنوات طفولتي و طيشي و مراهقتي و وجعي و كهولتي و فرحي. وأصبحت جزءا من أبجديات حياتي بل جزءا من كياني...
منذ سنوات طويلة كدت أن أفقد أصابعي بين أسنان المنشار لولا لطف الأقدار.
تلك الورشة المتواضعة هي كل ما ورثته عن المرحوم والدي.
بسطت ورقة التصميم أمامي ثم انغمست وسط الأخشاب و المسامير و المنشار.
طق- طق –طق –طق.- ارتفع صدى المطرقة ليشق هدوء القبو و يبدد سلطان الليل...
من جوف هذا القبو الرطيب خرجت تحف فنية راقية على يدي.
كنت أحلق فرحا في الفضاء و أنا أنصت لأحدهم و هو يهمس :
- تلك الأرائك الجميلة من ابداع عم رشيد-
و لآخر و هو يهتف واثقا:
- هذه الطاولة الرائعة أنجزها عم رشيد –
و سيدة أنيقة تهمس في سمع صويحباتها :
- سرير نوم و لا أروع ذاك الذي صنعه عم رشيد –
عكفت أسبوعا كاملا في صناعة تلك الخزانة..و ظهرت أخيرا الى الوجود كتحفة فنية نادرة...
في هذا الصباح فتحت كل نوافذ القبو. كان رذاذ المطر يتساقط بلا توقف في الأزقة و الشوارع...
أعجبني هذا الهواء المترع برائحة المطر اللذيذة ...و تملكني نشاط قوي حين أمسكت فرشاة الطلاء لأصبغ الخزانة.
انهيت المهمة سريعا و ألقيت نظرة على الخزانة و احسست بالفخر و السرور و الرضى ..و على الفور اتخذت قرارا لا رجعة فيه:
- لن أقبض سنتيما واحدا من جاري عثمان. هذه الخزانة هدية خالصة لولده العريس –
ملأت قدحا من الشاي الدافيء الممزوج بأوراق النعناع. و وقفت أمام النافذة لكي أملأ رئتي بأوكسوجين طازج...
في الزقاق المحاذي للقبو كانت جلبة الصباح ترتفع رويدا رويدا . لكن بصري تسمر فجأة على عربة يقودها شيخ يجلس الى جواره عثمان ..
كانت العربة تحمل خزانة عملاقة جدا و موشحة بشريط مذهب استطعت بعد عناء أن أقرأ أحرفه الباهتة – صنع في دولة ماليزيا -.