الحرب الاقتصادية أثناء الحروب الصليبية
13-07-2020, 11:49 AM


هناك مجموعة من العلاقات التجارية والاقتصادية التي جرت أثناء فترة الحروب الصليبية، فالمعروف أن الامارات الصليبية التي أقيمت على امتداد سواحل بلاد الشام، قد جعلت موانئ التجارة مع الغرب في قبضة الفرنج الصليبيين، ولكن المسلمين احتفظوا بسيطرتهم الاقتصادية، إذا كانت قوافلهم هي التي تنقل المنتجات الزراعية والصناعات المختلفة من سائر المشرق الإسلامي، فأفاد الفرنج من الرسوم التي فرضوها على مرور هذه المتاجر.

وبذلك استمر تدفق التجارة بصورة منتظمة، وقام تعاون وثيق بين تجار المسلمين وتجار الفرنج في سواحل بلاد الشام، وخاصة البنادقة والجنويين والبيازنة الذين احتكرت أساطيلهم نقل التجارة عبر البحر إلى سائر أرجاء أوروبا.
وقد وجد تجار المسلمون أن الفرصة مؤاتية لاستثمار ضائقة الفرنج، وبيع منتجاتهم بأثمان مرتفعة، وكان المسلمون يتقوون بما يحصلون عليه من الأرباح لدعم قدرتهم الذاتية.

لقد عرفت الحروب الصليبية القديمة نوعًا من الحرب الاقتصادية ذات الظواهر المتعددة، والأشكال المتنوعة: منها التدمير المتبادل للموارد الزراعية، ومنها النهب المتبادل للقرى والمدن، ومنها استخدام الأسرى لأعمال الزراعة والصناعة والبناء، ومنها الهجوم على القوافل التجارية، ومنها أيضًا أعمال الحصار والتطويق والعزل للمدن والحصون، وكانت البداية على أيدي الفرنج عندما عملوا على تدمير كل ما يصادفونه في طريقهم خلال هجومهم الأول.

ولكن سرعان ما تبين لهم أنهم هم الخاسرون من هذا التدمير، إذ بقى الشريط الساحلي، وما يتضمنه من المزارع والحقول هو موردهم الحياتي الأول، وعليه يعتمدون في تأمين متطلباتهم التموينية، كما كانت مواردهم البشرية موجهة بصورة أساسية للحرب لا للزراعة والبناء والصناعة، ولم تكن لديهم أصلًا المهارات الصناعية التي عرفتها أقطار العالم الإسلامي، وخاصة ما اشتهرت به بلاد الشام وصناعها من المهارات، فتوقفوا عن أعمال الإبادة، وأخذوا في الاحتفاظ بالأسرى لاستخدامهم للبناء والزراعة والصناعة.

وقد بقى هذا شأنهم حتى وقت متأخر، وقد ظهر ذلك واضحًا أيام الظاهر بيبرس، ندما اشترط بيبرس اطلاق سراح أسرى الذين يحتفظون بهم قبل أي اتفاق، وعندما رفض الداوية اطلاق سراح المسلمين لا سيما عمال الصناعة منهم، غضب الظاهر بيبرس وامتنع عن الاتفاق مع الفرنج وشن عليهم حرب شعواء هدفها الأساسي تحرير أسرى المسلمين.


أدرك المسلمون أهمية الخنق الاقتصادي في تضييق الخناق على الفرنج، منذ البداية، فأخذوا في تدمير المزارع والحقول تدميرًا منهجيًا منظمًا، ببداية من أقصى الشمال وحتى أقصى الجنوب، وانطلقت سراياهم وكتائبهم وهي تجوب المناطق التي فرض الفرنج سيطرتهم عليها لتنهب قطعان الماشية ولتدمر المزارع ولتحرق الحقول.

وإذ تأكدت للمسلمين أهمية الخنق الاقتصادي أصبحت الاغارات على ممتلكات الفرنج تحتل المرتبة الأولى في سلم الأفضليات، وتسبق وترافق كل عملية هجومية كبرى، وقد اضطر الفرنج نتيجة لذلك إلى التماس متطلباتهم الحياتية، تارة من قبرص، وتارة من بلاد البيزنطيين، أو منهما معًا، ووصل الامر إلى تنظيم أعمال هجومية كبيرة للحصول على المواد التموينية، وكان المسلمون يعرفون ذلك، فيعدون العدة لمجابهة هجمات الفرنج المتوقعة وإحباطها، بل إن مثل هذا الصراع حول الموارد الاقتصادية، كثيرًا ما أخذ شكل نزاع مثير، حيث يباغت الفرنج بعض الأقاليم للاستيلاء على قطعان الماشية والخيول والأغنام، فتسرع قوات المسلمين لنصب الكمائن ومطاردة المؤخرات حتى يتم لها استرداد (الغنيمة)، وكان الصراع على الموارد الاقتصادية في مرات كثيرة هو العامل الأساسي لتفجير الحرب وتصعيد الصراع المسلح، والمعروف أن أحد العوامل التي فجرت الصراع وأدت إلى وقوع معركة حطين كانت قيام أمير الكرك -رينالد شاتيون- على قافلة من قوافل المسلمين ونهبها.

ومقابل ذلك، أظهر المسلمون اهتمامًا كبيرًا بتنمية مواردهم الاقتصادية- الزراعية والصناعية- لتلبية متطلبات الحرب، وكان الزنكيون هم أول من أدرك ضرورة تنمية الموارد الزراعية، فعملوا على استصلاح الإقليم المحيط بالموصل، حتى أصبح حقولًا زراعية متصلة، وحتى تحول إلى منطقة مكتظة بالسكان، تضج بالحياة، بعد أن كانت خرابًا، واستمروا على هذا النهج وطوروه في سائر بلاد الشام، ولم يكن جهدهم لضم مصر لمسيرة الجهاد في سبيل الله إلا ليتقوى بها المسلمون على أعدائهم، وللإفادة من مواردها البشرية والزراعية، فربطوا بذلك بين التكامل الاقتصادي والكمون الحربي في صورته البسيطة الأولى.

وإذ لجأ الفرنج للإفادة أسرى المسلمين لأعمال الزراعة والبناء، فليس هناك ما يمنع من استخدام الوسيلة ذاتها، لا سيما وأنه توافر في مصر في بعض الأوقات آلاف الأسرى، فتم توجيههم لأعمال الزراعة والبناء وسواها من الأعمال التي تتطلب جهد الطاقة البشرية، فكان الفرنج هم الخاسرون دائمًا، إذ بينما كانت المساحات الزراعية التي استولى عليها الفرنج محدودة وضيقة، كان لدى المسلمين من الموارد الهائلة ما يضمن لهم الإمداد المنتظم لقواتهم، فكانت أعمال التدمير المتبادلة تلحق الضرر بالفرنج اضعافًا عما كانت تلحقه بالمسلمين، هذا بالإضافة إلى امتلاك المسلمين قدرات أكبر وإمكانات لحماية اقتصادهم وممتلكاتهم ضد هجمات الفرنج المباغتة نظرًا لتفوقهم في أساليب الحركة وفي الأساليب الهجومية.

لقد أثار المسلمون أكثر من حرب ضارية بسبب استيلاء الفرنج على قافلة تجارية، أو بسبب إغاراته العنيفة على إقليم من أقاليم بلاد الشام ونهبه وتدميره، وقد يبدو ذلك غريبًا للوهلة الأولى، إذ قد لايستحق قطيع من قطعان الأغنام، أو فقد قافلة من القوافل، إجراء مثل تلك الحشود، وتحمل مثل المشقة، والتعرض لمثل تلك الخسائر، لا سيما وقد ملك الفرنج ممدنًا ومناطق أكثر قيمة من القطيع أو القافلة.

غير أن المسلمين لم تكن نظرتهم محددة بالقيم المادية، بل كان ما هو أكثر أهمية بالنسبة لهم: المحافظة على أمن المسلمين وروحهم المعنوية، واستعدادهم القتالي، وها يظهر الفارق المميز بين حرص الفرنج على استعادة أسراهم وبين حرص المسلمين على استعادة أسراهم، لقد كان الفرنج يرغبون في استعادة الأسرى حفاظًا على فضائل المسلمين وتجنيبهم مذلة الأسر، ومهانة فقد الحرية، وحملهم على الاعتزاز بالأمة التي إليها ينتسبون، ومن أجل قضيتها يحاربون فيُقْتَلون، وَيَقْتُلون، ويؤسرون ويأسرون.

وكان هذا الرباط المعنوي أشد قداسة وأكثر أهمية بالنسبة للمسلمين، وقد تكون النتيجة المباشرة واحدة بالنسبة للطرفين المتصارعين، غير أن النتيجة غير المباشرة كانت مختلفة تمامًا، إذ أنها زادت من تلاحم المسلمين وتماسكهم، بينما أدت إلى تفتت الجبهة الداخلية للفرنج وضعفها.

لقد بقى الإنسان المسلم عزيزًا على الدولة الإسلامية، كريمًا على الأمة الإسلامية، رغم ما أنزلته الحروب الصليبية بساحته من النكبات، وما تعرض له من البلاء والابتلاء، ولقد أظهر عرض الأحداث مدى اهتمام أمراء المسلمين بجندهم وأمتهم، باعتبارهم كرماء لما كرمهم الله به من الإسلام، لا باعتبارهم قدرة إنتاجية، ولا باعتبارهم قدرة مقاتلة، ولهذا فكان كل عمل يقوم به الفرنج ضد المسلمين كان امراء المسلمين يقابلونه برد أقوى، وصحيح أنهم لم يستطيعوا مجاراة الفرنج بفظائعهم ومذابحهم بسبب تناقض هذه الفظائع والجرائم مع الفضائل الحربية للمسلمين، إلا أنهم كانوا في ميادين القتال أشد بأسًا على الفرنج، وأقسى انتقامًا غضبًا لله ودينه وأمته{أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]....

فهل من الغريب إنْ تلاحم العامل الاقتصادي بالعامل البشري، وتلاحم العامل المادي بالعامل المعنوي، وتلاحمت قاعدة جبهة المسلمين وقيادتها، في إطار الهدف الكبير الذي هو الدفاع عن الإسلام وأهله ضد أشرس وأقوى حرب عرفها التاريخ في القديم والحديث؟، وهل من الغريب أن ينتصر المسلمون، وقد توافرت لهم العوامل الأساسية لإحراز أي نصر؟، لم يكن ذلك أمرًا غريبًا غير أن الظاهرة المثيرة حقًا هي تكامل عوامل الصراع بصورة مذهلة، وتوازنها، وتظافرها في إطار هدف الحرب[1].

[1] بسام العسلي: فن الحرب الإسلامي (أيام الحروب الصليبية)، دار الفكر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1408هـ= 1988م، المجلد الرابع، ص649- 654.