بني يعرب في ميزان الثورة الصناعية الرابعة ... اليزيد عياش
25-10-2020, 06:40 PM
بني يعرب في ميزان الثورة الصناعية الرابعة ... بــــقــــــــــــــــــــــلم الاســـــــــــــــــــــــــتاذ اليزيد عياش .
عرف العالم بعد تراجع الحضارة الاسلامية ودخولها في متاهة التخلف والانحدار في سلم الحضارة وانهيارها بعد ذلك بداية من القرن 15 م ، ولأن التاريخ كما يقال ماض في صيرورته ونفاذ سننه الكونية الثابتة التي لا تحابي أحدا مهما كان دينه أو لونه أو عرقه ، وفي اطار سنة التدافع الحضاري بين الامم والشعوب اقتضى الحال ضرورة بزوغ حضارة بديلة للحضارة الاسلامية تستلم منها المشعل وزمام القيادة الحضارية للعالم ، فاقتضت مشيئة الله تعالى أن تكون أوروبا صاحبة هذا الشرف والقيادة ، هذا الشرف والقيادة ما كانا ليكونا لها لولا توافر العديد من الاسباب النفسية والتاريخية والثقافية ، ففي الاسباب النفسية نجد تحرر انسان هذه الامة من قيود الكنسية وسلطتها على العقل وتحجيمها له في اطار ما يسمى بعصر التنوير أو تحرر العقل ، أما تاريخيا وثقافيا فالصراع بين الحضارتين في اطار ما يسمى بالحروب الصليبية وقبل ذلك ، واحتكاك هذه الاخيرة بها بحكم تواجد الحضارة الآفلة بأرضها من خلال تواجدها في شبه الجزيرة الآيبيرية أو ما يعرف بحضارة الاندلس ؛ هذه الحضارة التي بلغ صداها معظم أمصار العالم وأتاها الراغبون في اكتشافها ونهل العلوم منها من مشارق الارض ومغاربها ، وكان من اشد حواضرها صيتا أنذاك مدينة قرطبة التي كانت قبلة للجميع ، ومن بين هؤلاء الأوروبيون الذين حلوا بها ونهلوا من علومها ونقلوه الى بلدانهم ، ومن بين هاته العلوم نجد على رأسها العلوم التجريبية والمنهج التجريبي الذي كانت تتميز به الحضارة الاسلامية عن باقي الحضارات السابقة ، كالحضارة الاغريقية والرومانية مثلا ، وبالفعل استطاعت الحضارة الجديدة أو الحضارة الغربية أو الاوروبية أن تشق طريقها في سلم الحضارة بداية من عصر التنوير في القرن 17 م وصولا الى عصر الثورات الصناعية التي كانت بدايتها بالثورة الصناعية الأولى في منتصف القرن 18 م ؛ هذه الثورة التي تميزت باكتشاف الفحم والطاقة البخارية وصناعة بعض الماكنات البخارية ، ثم بعدها الثورة الصناعية الثانية في القرن الثامن عشر الميلادي تحديدا في عام 1840 م ، وتميزت هده الاخيرة في بناء العديد من السكك الحديدية وصناعة الحديد والصلب مع اكتشاف طاقات جديدة كالغاز والبترول مثلا ، أما الثورة الصناعية الثالثة فكانت بدايتها في منتصف القرن 20 م وبالتحديد سنة 1969م ، بحيث تميزت هاته الثورة باكتشافات هامة نذكر منها على سبيل المثال لا للحصر : الطاقات المتجددة كالطاقة النووية وحصول ثورة حقيقية في ميدان وسائل الاتصالات ومجال الالكترونيات كاختراع الانترنات واجهزة الحاسوب ....الخ ، وأما عن الثورة الصناعية الرابعة أو المنظومة السيبرانية التي صارت المحرك الاساس لحياتنا وما تعلق بها ، هذه الثورة التي عرف فيها العالم قفزة نوعية في مجال المنظومة الرقمية والالكترونية والصناعات التكنولوجية المتطورة التي بقدر ما سهلت حياة الناس بقدر ما عقدتها وجعلتهم اسرى لها ، هذه الثورة التي برأي الكثيرين نحن لازلنا في بداياتها الاولى ولم نصل بعد الى أوج قوتها وعطاءاتها العلمية والتقنية ، هذه الثورة التي يهدف من وراءها الى أتمتة العالم (احلال الالة بدل الانسان ) ، هذه الثورة التي ستكون موضوع مقالنا الذي من خلاله سنحاول طرح سؤالين والإجابة عنهما ، وهما : ما محل اعراب الثورة الصناعية الرابعة في بلدان بني يعرب ؟ ، كيف يمكن لبلدان بني يعرب ان تكون رقما فاعلا في معادلة الثورة الصناعية الرابعة والمساهمة فيها من خلال انتاج منتجاتها لا استهلاكها فقط ؟
ان المتأمل في حال بلدان بني يعرب في ميزان الثورة الصناعية الرابعة ، يجد أن بلداننا بعيدة كل البعد عن ركب هاته الثورة من حيث الفاعلية الانتاجية لا من حيث الفاعلية الاستهلاكية ، فالبلدان العربية بقيت محافظة على نمطها الحضاري الاستهلاكي الذي أساسه حضارة تكديس الاشياء كما سماها مفكرنا مالك بن نبي رحمه الله ، هذه الحضارة التي فتحت شهية الشعوب العربية ودولها على مصراعيها في استهلاك فاحش لكل ما تنتجه الحضارة الغربية وغيرها من الحضارات الاخرى من منتجات ، والذي به صارت بلداننا أكبر سوق مستهلك في العالم الى درجة وصلنا نستهلك كل شيء دون نقد أو تمحيص ، نعم قد يأتي بعض دعاة الفهم والتبصر في هذا الزمن ليرددوا علينا اسطوانة مللنا من سماعها بسبب كثرة استهلاكها ، ليقولوا لنا أن السبب في ذلك راجع الى ان معظم بلداننا العربية قد تعرضت لسيطرة وهيمنة منظومات استدمارية عملت على تكريس الجهل وارساء أسس التخلف والتبعية لها ، وان الكثير منها لازال حديث الاستقلال والتحرر السياسي المنقوص فما بالك بالحديث عن التحرر في الجوانب الاخرى كالتحرر في الجانب التعليمي والاقتصادي والثقافي مثلا ، وهذا ما جعل برأي هؤلاء بلداننا تعاني ما تعانيه الى اليوم من تبعية استهلاكية وتخلف ظاهرين للعيان ، فبرأيهم مستدمر الأمس لم يخرج نهائيا ، بل عمل قبل خروجه على ضمان السلطة لاذنابه من بني جلدتنا الذين يضمنون له مصالحه الحيوية القديمة هنا والعمل على حرمان بلدانهم وشعوبهم من ركوب قطار التطور والانتاج وتكريس مبدأ التخلف والتبعية له مقابل ضمانه لهم بقائهم على رأس الحكم ، والحقيقة وان كنا نسلم بالصحة النسبية لهذا الكلام الا اننا يقينا لا نعتبره أنه هو السبب الرئيس والوحيد فيما نعانيه من تبعية وتخلف أودى بنا الى تبني نمط حضاري شاذ يتوقف على الاستهلاك دون الانتاج مع التسليم بحتمية ذلك علينا وكأننا نؤمن بالنظرية الفلسفية اليونانية التي تتحدث عن الحتمية المأساوية وانعدام الأمل في التغيير ، فالعالم كما ذكرنا في مقدمتنا عرف ثلاث ثورات صناعية قبل أن يحط به الرحال الان في الثورة الصناعية الرابعة ، وعوالم كثيرة تشبهنا استطاعت ان تتحرر من عقدها النفسية والدينية والتاريخية والثقافية وتلج عالم الثورة الصناعية الرابعة بقوة الافكار الابداعية المنتجة للثروة والمحققة للذات والمعززة لها ، ومن بين هاته العوالم نجد : ماليزيا ، سنغافورة ، الهند ، البرزايل ، تركيا ، ....الخ ، الا ان العالم العربي لازال لم يتحرر بعد من عقده النفسية والدينية والتاريخية والثقافية التي كرسها المستدمر وأذنابه كما يدعون أصحاب اللاوعي من ذوي النفوس الضعيفة والهمم الدنية وأصحاب المصالح المنتفعين من هكذا وضع ، فالملاحظ لحقيقة الثورة الصناعية الرابعة في بلداننا يجد أن الكثير منها تحاول مسايرة الركب من خلال صرف الملايير من مداخيلها بالعملة الصعبة المحصلة من الريع النفطي مقابل الحصول على منتجاتها وتحصيل التطور الحضاري المزيف ، أو من خلال اقامة مصانع لصناعات تركيبية لا تختلف كثيرا عن الاستيراد في شكلها النهائي دون التفكير في استغلال تلك الثروات المهدروة في بناء منظومة حضارية حقيقية تجعل منها فاعلا حقيقيا في معادلة الثورة الصناعية الرابعة من حيث القدرة على التحكم في أدواتها وألياتها المنهجية والعلمية والتقنية المساعدة على الولوج الى عالمها والمساهمة في انتاج منتجاتها ابتكارا لا تركيبا أو استهلاكا كما تفعل الامم المتقدمة ، والذي به نحقق التوازن في معادلة القوة والاستهلاك ونكسب قوة الذات واحترام الغير ، لذا بدل أن نبقى حبيسي نظرية المؤامرة والبكاء على الاطلال وترديد هاته الاسطوانة المخروقة التي ذكرناها آنفا ، ارتأينا أن نقدم من وجهة نظرنا حلولا عملية في كيف يمكن لبلدان بني يعرب أن تكون رقما فاعلا في معادلة الثورة الصناعية الرابعة وان تساهم بجهدها الفكري والعقلي والبدني في انتاج منتجاتها بنفسها بدل ان تبقى عالة على غيرها تستهلك ما ينتجونه ومصيرها بأيديهم كما يحصل الآن مع ازمة جائحة الكورونا ، ان صار مصير بني يعرب كله معلق بلقاح تنتجه لنا هاته الدول المتقدمة ، ومن بين أولى هاته الحلول التي نراها مفصلية في معادلة التغيير هو ضرورة ارساء منظومة سياسية حقيقية تستمد شرعيتها من الصندوق ، تملك برنامجا أو مشروعا مجتمعيا رائدا ، منظومة سياسية خدومة لمصالح الشعب والوطن ، منظومة مصلحة الشعب والوطن عندها فوق كل مصلحة أخرى ، لكن هذا لن يتأتى الا بتوافر مجتمع واع تقوده نخبة حقيقية قادرة على ارساء قواعد التغيير المؤسس على شروطه وقواعده الصحيحة التي ذكرها مفكرنا مالك بن نبي رحمه الله في العديد من مؤلفاته ككتاب " شروط النهضة " ، وكتاب " ميلاد مجتمع " ، كما ذكرها ايضا المفكر الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه " السنن النفسية لتطور الأمم " ، وغيرها من المؤلفات الاخرى لمفكرين آخرين لا يسع المقام لذكرهم جميعا ، وهذا ما يقودنا الى الحل الثاني الذي نراه كامنا في العلوم الاجتماعية التي وجب أن نعيد النظر في سياساتنا تجاهها ، اذ يجب فعلا ان نعطيها الاهمية التي تستحقها ان اردنا الاقلاع مرة أخرى واللحاق بركب الحضارة وركوب قطار الثورة الصناعية الرابعة كفاعلين منتجين لا كفاعلين استهلاكيين ، فعلم الاجتماع تظهر أهميته فيما يقدمه لنا من آليات ووسائل منهجية في كيفية بناء الأمم وأسباب تخلفها ، أما الحل الثالث فيكمن بحسب رؤيتنا في ضرورة اعادة الاعتبار للمنظومة التربوية والتعليمية وضرورة اعادة النظر في مناهجنا التعليمية والتربوية وتكييفها مع واقعنا المحلي والعالمي دون المساس بثوابتنا القيمية الثابتة حتى لا نقع في فخ الافكار الميتة والمميتة كما اشار الى ذلك مفكرنا مالك بن نبي رحمه الله وحذر منه ، مناهج تشجع التعلم الذاتي وتغلبه على التعلم التلقيني ، مناهج تصنع لنا عقلا ناقدا لا عقلا ناقلا ، مناهج توفر لنا فردا مبتكرا لا فردا جامدا ، مناهج تواكب ضرورات ومتطلبات الثورة الصناعية الرابعة من حيث التحكم والانتاج لا من حيث النقل والاستهلاك ، مناهج تساعد على التحكم في ادوات المعرفة والقدرة على ابتكارها ، مناهج قادرة على انتاج الفرد المبتكر المبدع للفكرة المنتجة للتقنية والثروة ، وهذا ما يقودنا الى الحل الرابع المتمثل في ضرورة استغلال العائدات الريعية في خدمة النهضة الحضارية الحقيقية المبنية على الاستثمار في الفرد صاحب القدرات الذكائية المتميزة بغية الارتقاء في سلم الحضارة ، فالأمم كما ذكر المفكر الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه الذي ذكرناه آنفا صفاتها الذهنية عبارة عن هرم راسه أصحاب القدرات الذكائية المتميزة التي تحاول كل أمة الاستثمار فيها من اجل بلوغ مراتب الرقي والتطور الحضاري ، لذا يجب على بلداننا العربية ان تستثمر في قدراتها الذكائية المتميزة المتواجدة في الخارج أو الداخل من خلال ضمان تكوين نوعي للطاقات الذكائية المتميزة بالداخل أو بالخارج ، مع العمل على توفير امتيازات نوعية للأدمغة المهاجرة بغية ضمان تقديم مساعدة في نقل التكنولوجيا والمساهمة بخبراتهم العلمية والتقنية في تطوير بلدانهم الاصلية ، اما عن الحل الخامس فنراه يكمن في ضرورة اعادة النظر في علاقاتنا وشراكاتنا مع الغرب ، لأننا نرى هاته العلاقة ضيرها أكثر من نفعها علينا ، لأنها علاقة مبنية على عدم توازن المصالح بحيث نجد أن هاته الشراكة أساسها طرف يزداد تطورا وانتاجا ، وطرفا يزداد تخلفا وتبعية واستهلاكا ، لذا نرى أن بإمكاننا اقامة شراكات بناءة مع شركاء اخرين بعيدا عن الشريك الغربي الأناني والجشع ، من خلال التوجه الى القارة الآسيوية التي نراها أكثر واقعية وعقلانية من الشريك التقليدي وتوفر لنا ما نبحث عنه منذ زمن بعيد ؛ من حيث نقل المعرفة العلمية والتقنية المساعدة لنا على وضع قطارنا على سكة النهضة من جديد وولوج عالم الثورة الصناعية الرابعة تطورا وانتاجا .
في الاخير يقول عز من قائل في محكم تنزيله : " إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِم " الرعد:11، نريد أن نختم مقالنا بهده الآية الكريمة التي تبين لنا قاعدة ربانية كونية ثابتة ، هذه القاعدة تخص الجميع بلا استثناء تتحدث عن أحد الاساسات المفصلية في التغيير الا وهو أن حال الفرد أو الامة لا يتغير الا بتغير حال الفرد أو حال الأمة قبل كل شيء ، لذا ان ارادت بلدان بني يعرب ان تلج عالم الثورة الصناعية الرابعة بقوة التطور والانتاج عليها أن تغير أولا من حالها ....... تولانا الله برحمته