العلم المغشوش.للعلامة محمد الغزالي
21-03-2014, 10:02 PM
العلم المغشوش
الجزء الثالث
للشيخ العلامة:محمد الغزالي
الطريق لحل الخلاف في قضية التأويل:
وهنا أجدني مسوقاً إلى الكلام عن التأويل، وتبيان الموقف الصحيح منه ...
إن العقل الإنساني في عصرنا هذا عرف قدره، وعرف أين يمتدّ وأين ينكمش؟
ففي بحوث المادة انطلق لا يلوي على شيء! أما فيما وراء المادة، فقد تراجع وأعلن أن هذا ليس ميدانه ...
والعقل الإسلامي عرف هذه الحقيقة لكن بعد ما داخ وكاد يهلك ! والذين اشتغلوا بالتأويل عندنا سبحوا طويلا في البحر ثم لما أحسُّوا الغرق عرّجوا على أقرب شاطئ فنجوا بأنفسهم .. !
وقد تأملت مليّاً في مواقف رجالنا قديما فما شعرت في قلب أحدهم بسوء، ولا رأيت أن أحدهم يخطر بباله النيل من أمجاد الألوهية، أو الحط من عظمتها ! إن جمهرتهم – في خشوع وأدب- تشترك مع الكون المسبِّح بحمد ربه، وتشترك مع الركَّع السجود في التوبة والخضوع.
ربما أسفَّ المعتزلة في بعض عباراتهم، وربما خدعهم الإعجاب بفكر اليونان حيناً، وأياًّ ما كان أمرهم فإن العقلاء أدانوهم في تأليبهم السلطة على أحمد بن حنبل، وكان ذلك طاويا لرايتهم إلى لأبد، فانتهوا بخيرهم وشرهم ...
أما الأشاعرة فتنــــزيههم لله واضح، وثناؤهم عليه جميل، وقد اقتصدوا في التأويل، وسلكوا مسلكا وسطا جعل جماهير المسلمين تنضمُّ إليهم من ألف سنة إلى اليوم.
ولك أن تقول: ما قيمة هذا الاقتصاد، ونحن منهيُّون عن التأويل جملة وتفصيلا ؟
ونجيب: إن المتكلمين من سلف وخلف اضطروا إلى التأويل في بعض جمل من الكتاب الكريم – والسنة كذلك - توفيقا بينها وبين الآيات الأخرى، وتمشيّاً مع حكم العقل في إثبات الكمال كله لله تبارك اسمه، ونفي أي إيهام بما لا يليق !
تدبر قوله تعالى: ﴿وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير﴾ سورة الحديد: 04. قد قال المفسرون: المعية هنا معية صفات، لا معية ذات، فهو معنا بعلمه وسمعه وبصره وقدرته وحكمته ورحمته..إلخ، أما معية الذات فتقتضي الحلول وهو باطل ...
وعلى ضوء هذا فسَّروا قوله سبحانه وتعالى: ﴿ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد﴾ سورة ق: 16. وقوله أيضا: ﴿فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون﴾ سورة الواقعة: 83-85. قالوا: نحن أي ملائكتنا ...
فإذا استحق الأشعري لَوْماً لأنه أوّل آيات ومرويات ابتغاء تنــزيه الله تبارك وتعالى فغيره كذلك ملوم ولا معنى لنهش الرجل وحده بالأسلوب المسعور الذي نراه الآن !!
هل يعني ذلك أننا مع الأشعريِّ في منهجه؟
الحق أنني مع السلف الأول من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومع دولة الخلافة الراشدة، التي لم تفتح باباً لهذه البحوث!
وأنظر إلى ابن تيمية والأشعري على أنهما سواء في الإيمان الصحيح، والغيرة على الإسلام.
وما يأخذ الكاشحون على أبي الحسن الأشعري، يؤخذ مثله على ابن تيمية عندما يتوقف في نفي الجسمية عن الله فلا يُثبت ولا ينفي، وهذا خطأ، وكان ينبغي أن يلتزم بقوله تعالى: ﴿ليس كمثله شيء﴾ سورة الشورى: 11. فيجزم بالنفي ! كما يؤخذ عليه أيضا نفيه للمجاز في القرآن وفي اللغة العربية كلها، إن علماء اللغة وأدباءها وشعراءها يبتسمون من هذا النفي الغريب..
ولكن هذه الهِنات لا تنال من قدر إمام شامخ كبير العقل راسخ اليقين شديد البلاء في نصرة الإسلام، وردِّ أعدائه...
وواجبنا في هذا العصر ألَّا نجدِّد العراك بين الموتى، وألَّا نجترَّ الخلافات القديمة، لنقطع بها أرحام المؤمنين في هذه الأيام النحسات التي أحدق فيها أعداء الإسلام حول داره يريدون هدمها...
إذا كان المثل يقول: «لا تجعل سُحب الغد تغطي شمس اليوم» فأولى بنا أن نقول: «لا تجعل غيوم الماضي تغطي شمس الحاضر» !!
ماذا يكسبه السلفيون من شتم الأشعري والرازي والغزالي والقرطبي وبقية علماء المسلمين طوال عشرة قرون ؟ أليس الأولى بهم أن يدركوا شؤم الخلاف ويُجنِّبوا الأمة بلاءه الآن..؟
كنا في الجامع الأزهر ونحن طلاب صغار نعرض رأيي السلف والخلف، وندرس مواقف الجانبين دون حساسيات، وقد ألفت كتابي "عقيدة المسلم" مؤثراً مذهب السلف لاقتناعي بعجز العقل البشري عن اكتناه الغيبيات...
بيد أني ما فكرت في تأليف فرقة لشتم الأشعري وسائر الخلف، وشغل المسلمين بمحاربة الموتى، وإلقاء محاضرة في تكفير الغزالي باسم السلف !!
إن أبا حامد الغزالي غفر الله له مُوَلَّهُ القلب بحب الله، حارُّ الكلمات في مدحه وحمده، واقتياد الناس إليه وتحبيب ذكره إلى نفوسهم !
وما يحكم بكفره مسلم ! فكيف يفعل ذلك منتسب إلى السلف؟