سعيد باشا.. رغبة إصلاح وبداية دين (في ذكرى ولايته: 20 من شوال 1270هـ
05-08-2015, 05:39 PM
سعيد باشا.. رغبة إصلاح وبداية دين
(في ذكرى ولايته: 20 من شوال 1270هـ)


ارتبط اسم سعيد باشا ابن محمد علي في التاريخ بإنشاء قناة السويس التي شغلت حيزًا كبيرًا في تاريخ العلاقات الدولية، وفي تاريخ مصر القومي، وكانت ذات أثر في نشأة الأوضاع السياسية التي فرضها الاستعمار على المنطقة العربية في الشرق الآسيوي.

واستأثر هذا العمل الكبير بالشهرة، فتوارت أعمال جيدة قام بها هذا الوالي الكبير، ويأتي ذكرها عابرًا في معرض الحديث عنه، وسنحاول إبرازها؛ إنصافًا للرجل الذي كيلت له التهم، ووسم بالسفه والخفة، والتفريط في حقوق البلاد.

المولد والنشأة

ولد سعيد باشا في سنة (1237هـ=1822م) في مدينة الإسكندرية في عهد أبيه محمد علي باشا، فعني بتربيته وتعليمه، وعهد به إلى من يقوم بذلك من فضلاء المعلمين، واختار له سلاح البحرية والتدرب على فنون الحرب والقتال، فنشأ بين أقران له ممن يعدون لفنون البحر، يعيش عيشتهم، ويسير على نهجهم، ويحيا حياتهم، فلما أتم دراسته انتظم في خدمة الأسطول المصري قائدًا لإحدى البوارج البحرية، واعتاد النظام الذي هو أساس الحياة العسكرية، فكان يحترم رؤساءه ويتساوى مع زملائه وأقرانه، ولما نضجت خبرته عينه أبوه مساعدًا لناظر البحرية (مطوش باشا)، وأمره بالامتثال له وأداء التحية العسكرية، دون نظر إلى صلته وانتسابه إليه، وارتقى سعيد باشا في الرتب البحرية حتى بلغ منصب القائد العام للأسطول، وكان لهذه النشأة أثرها في سياسته، فمال إلى المصريين وعمل على المساواة ورفعة شأنهم.

عهد جديد

تولى سعيد بن محمد علي حكم مصر والسودان خلفًا لابن أخيه عباس الأول بن طوسون في (20 من شوال 1270هـ=16 من يوليو 1854م)، وكان حين تولى الحكم في الثانية والثلاثين من عمره شابًا معقودة عليه الآمال، متأثرًا ببعض الآراء الحرة والأفكار الجديدة التي كانت شائعة في أوروبا، وذلك في أثناء تلقيه دراسته في فرنسا، ولذلك لم تمض شهور قليلة على توليه الحكم، حتى أصدر عددًا من القوانين التي تساعد على حرية التجارة، فأبطل المكوس التي كانت تعرقل سير التجارة بين مدن القطر المصري وأقاليمه، وسمح ببيع الغلال وتصديرها للخارج، ثم ألغى نظام الاحتكار الذي كان قائمًا منذ عهد محمد علي، وأباح للتجار الأجانب أن يتعاملوا مباشرة مع المزارعين، دون تدخل من الدولة.

ثم أتبع ذلك بعدد من الإجراءات الإصلاحية، فقد تنازلت الحكومة عن الضرائب المتأخرة على المزارعين وكانت تثقل كاهلهم، وألغت مبدأ تضامن القرى في تحمل الضرائب، وأعفت القرى من سدادها، فاستراح الفلاحون من أعباء المتأخرات القديمة التي كان عمال الجباية يرهقونهم للحصول عليها، ويستولون على حاصلاتهم الزراعية ليستوفوا ما تأخر عليهم منها.

وتوج أعماله الإصلاحية في هذا الميدان بصدور اللائحة السعيدية في (24 من ذي الحجة 1274هـ=5 من أغسطس 1858م)، وبموجبها وزعت الأراضي على الفلاحين الذين يقومون بزراعتها، ليتصرفوا في ملكيتها وزراعتها حسب ما يرغبون، وتعد هذه اللائحة أساس التشريع الخاص بملكية الأرض في مصر، وكان ذلك ثورة إصلاحية في حياة الفلاح المصري لم يشهدها من قرون طويلة.
وكما أقدم على هذه الخطوة قام بخطوة إصلاحية ذات تأثير في حياة المجتمع، فأصدر لائحة المعاشات للموظفين المتقاعدين، وكانت هي الأساس الذي بُني عليه نظام المعاشات الذي أخذت به مصر.

أعمال العمران

قام سعيد بعدد من الأعمال العمرانية أدت إلى ازدهار التجارة وانتعاشها، وتحسين حياة الناس، فقد طهر الترعة المحمودية التي تربط النيل بميناء الإسكندرية، واستكمل خط السكك الحديدية الذي يربط بين القاهرة والإسكندرية، وكان قد بدئ في إنشائه في عصر عباس الأول، وأنشأ خطًا حديديًا جديدًا بين القاهرة والسويس، وأصلح ميناء السويس وقام بتوسيعه، فلم تعد حركة السفن فيه مقصورة على موسم الحج، بل نشطت طوال العام، وامتدت يده إلى الإسكندرية ومينائها فنشطت فيها حركة العمران، وأنشأ بها أول شركة لتوزيع المياه بواسطة الأنابيب بعد تكريرها وتنظيفها بالنظام الآلي الحديث، وكان ازدهار العمران بها بسبب نشاط التجارة، وإنشاء شركات الملاحة البحرية والنهرية.

وعني سعيد باشا بجمع الآثار المصرية، وإعداد مخازن لحفظها وصيانتها، وعهد بهذه المهمة إلى (مادييت باشا) عالم الآثار المعروف، وطلب من العلامة الفلكي (محمود باشا) وضع خريطة مفصلة للقطر المصري، فقام بهذا العمل على خير قيام، وشاركه في إنجازه عدد من نبغاء المهندسين.

مؤسسات الدولة

كان سعيد باشا حاكمًا مطلقًا يجمع في يده السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وكان هناك "المجلس الخصوصي" الذي يعاون حاكم البلاد، ومهمته النظر في شؤون الحكومة، وسن اللوائح والقوانين، وإصدار التعليمات لجميع مصالح الدولة، وتعيين رؤساء المصالح الكبرى. وأعاد سعيد باشا تنظيم الدواوين، وأنشأ أربع وزارات جديدة هي: الداخلية والمالية والحربية والخارجية.

وكان سعيد صاحب السلطة العليا القضائية على الرغم من وجود (مجلس الأحكام) الذي كان يفصل في القضايا المستأنفة إليه، و(مجالس الأقاليم) وهي محاكم مهمتها الفصل في المسائل المدنية والتجارية، وكانت هذه المجالس تضم علماء من المذهبين الحنفي والشافعي، ولم تكن هذه المحاكم مستقلة تمامًا، لأنها تعرضت أكثر من مرة للإلغاء أو إعادة تشكيلها وفق مشيئة الحاكم ورغباته، وسعى سعيد باشا لنيل موافقة من الباب العالي تخول له حق تعيين القضاة، بعد أن كان قاضي القضاء الذي يولّيه السلطان العثماني هو الذي يعين بقية القضاة، فاستقام بهذه الخطوة سير العدالة بعض الشيء، وحقق استقلالاً قضائيًا للبلاد.

غير أن جمع السلطة على هذا النحو في يد سعيد كان يستلزم طاقة هائلة للقيام بأعباء هذه المسؤوليات، وخبرة عميقة بها؛ وجلد وصبر في المتابعة والإشراف، ولم تكن هذه المؤهلات من صفات سعيد باشا، وإن كان عظيم الرغبة في إتمام الأعمال التي بدأها والده.

الجيش والأسطول

عني سعيد باشا بالجيش ورعاه فكان شغله الشاغل، يقضي بين الجند معظم وقته وينتقل معهم من جهة إلى أخرى، ويشرف بنفسه على تدريبهم في الصحراء وفي الدلتا، واتخذ من القناطر الخيرية معسكرًا لجيشه، وبنى بها القلعة السعيدية لصد هجمات المغيرين على القاهرة، ويذكر لسعيد أن في عهده ترقى كثير من الضباط المصريين إلى الرتب العالية التي كانت وقفًا على الأتراك والجراكسة، وجعل الخدمة العسكرية إجبارية لمدة عام يعود بعدها المجند إلى عمله، ولم يستثن أحدًا منها، فأقبل المصريون على الانتظام في سلك الجندية عن رضى، وأظهروا البسالة والإقدام في الحروب التي خاضوها في البلقان والقرم والمكسيك. وحين حاول سعيد العناية بالأسطول المصري وتجديده بعد أن خاض مع الدولة العثمانية حرب القرم المشهورة، تدخل الإنجليز لدى الباب العالي العثماني لمنع سعيد من بناء سفن جديدة أو ترميم القديم منها، فنجحت مساعيهم، وامتثل سعيد لرغبة السلطان. غير أن هذا الاهتمام بالجيش تحول في نهاية عهد سعيد إلى إهمال، حيث سرح أعدادًا هائلة من أفراده.

التعليم في عهد سعيد باشا

على الرغم من ضروب الإصلاح المختلفة التي قام بها سعيد باشا في كثير من مؤسسات الدولة، فإنه لم يعن بالتعليم، ولا يجد الباحث تفسيرًا لهذا الموقف، ولعل خوفه من وجود طبقة متعلمة ومتسلحة بالثقافة تعوق إطلاق يده في إدارة البلاد، وتطالبه بإصلاح نظم الحكم ووسائله – هو الذي جعله يعرض عن إصلاح التعليم، وإحياء ما اندثر من المدارس التي كانت في عهد أبيه، وقد بدأ حكمه بإلغاء ديوان المدارس، وكثير من المدارس القائمة، وقلل من إرسال البعثات العلمية إلى أوروبا، وأغلق مدرستي المهندسخانة والطب فترة من الزمن، ثم أعاد افتتاحهما مرة أخرى.

ويلاحظ أنه في هذه الفترة التي ضعفت فيها حركة التعليم الحكومي، نشطت الجاليات الأجنبية والإرساليات التبشيرية في إنشاء مدارس تابعة لها، وكانت تلقى تشجيعًا وعونًا من سعيد باشا وربما أمد بعضها بالإعانات المالية ومنحها الأرض التي تبني عليها مدارسها، وقد أحجم المسلمون في أول الأمر عن إدخال أبنائهم تلك المدارس.

حفر قناة السويس

نجح (فرديناند ديليسبس) الفرنسي المشهور في إقناع سعيد باشا بشق قناة السويس لتربط بين البحرين: المتوسط والأحمر، وكان لصداقته للوالي منذ الصغر أثر في هذا الاقتناع، وكان سعيد باشا -كما يصفه مؤرخوه- لين العريكة، سهل الانقياد، يضع ثقته في الأجانب، فأصدر مرسومًا لصديقه الفرنسي في سنة ( 1270هـ=1854م) بحق امتياز فتح القناة، ثم جدد له امتيازًا ثانيًا بعد ذلك بعامين، ووافق على قانون الشركة التي ستقوم بحفر القناة والإشراف عليها، وأهم ما جاء في هذا القانون أن القناة ستكون حرة لجميع سفن العالم التجارية دون تمييز أو تحفظ بشرط دفع الرسوم المطلوبة والالتزام بالقوانين، وأن للشركة حق التمتع بالامتياز مدة 99 سنة ابتداءً من افتتاحها، وبعد انتهاء المدة تصير القناة ملكًا للحكومة المصرية.
ويتفق كثير من المؤرخين أن عقد الامتياز الذي منحه سعيد للشركة كان مجحفًا بمصر، حيث تعهد بأن يكون أربعة أخماس العمال الذين يقومون بالحفر من الفلاحين المصريين، وأنه أُرغم على شراء ما تبقى من أسهم الشركة زيادة على ما اشتراه من قبل مساعدة للشركة في أول نشأتها، وتضمن الامتياز حق الشركة في حفر ترعة عذبة من النيل إلى القناة، وحق امتلاك الأراضي اللازمة على ضفتي القناة.

وقد ابتدئ في حفر القناة في (22 من رمضان 1275هـ=25 من إبريل 1859م) وسيق آلاف الرجال من شباب مصر لهذا العمل، وكم كانت خسارة مصر آنذاك حين ترك هؤلاء حقولهم ليلقوا حتفهم على شواطئ القناة حيث كانت تفتك بهم الحمى وسوء الأحوال الجوية في العراء، وضعف التغذية والإشراف الصحي.

وسار العمل في المشروع حتى حُفر من القناة ما يصل مياه البحر المتوسط ببحيرة التمساح وذلك في الفترة التي قضاها سعيد في الحكم، ثم استكمل الخديوي إسماعيل إتمام ما بدأه، ووصل بالمشروع إلى نهايته.

وعلى أية حال فقد آلت القناة إلى الحكومة المصرية، وأصبحت مصدرًا كبيرًا من مصادر الدخل القومي، وعادت بالنفع على البلاد وهو ما يمسح تجاوزات سعيد باشا وتفريطه في بعض حقوق الوطن، وأصبحت أثرًا كريمًا من آثار أياديه لن يمحوها الزمان.

بدء القروض الأجنبية

لم يكن سعيد باشا مثل أبيه محمد علي أو ابن أخيه طوسون في الاعتدال في الإنفاق؛ وأن يكون الإصلاح من موارد البلاد لا اعتمادًا على القروض، بل كان يميل إلى حياة الترف وإنشاء القصور، وفطن المرابون إلى سخائه وإفراطه في الإنفاق، فزينوا له الاقتراض فاندفع إلى هذا الطريق دون وعي وبصيرة، فزلت قدماه وزلت معه البلاد، ولما ورطه ديليسبس في شراء ما تبقى من أسهم شركة القناة واحتاج إلى المال، ولم يكن معه ما يقدمه – اضطر إلى عقد قرض نحو ثلاثة ملايين جنيه وربع من بنك إنجليزي، فكان هذا أول قرض عام أجنبي تقدم على عقده حكومة مصرية، وكان ذلك بداية الطريق الذي سار عليه بعد ذلك الخديوي إسماعيل، وجلب على البلاد الويلات والخراب.

وفاته

وبينما كان سعيد باشا يسابق الزمن في إنجاز حفر القناة أصيب بداء أعيا الأطباء علاجه، وسافر إلى أوروبا للعلاج لكنه لم يبرأ، وعاد إلى الإسكندرية في أواخر سنة (1279هـ=1862م)، وقضى أيامه الأخيرة يعاني آلام المرض حتى توفي في (27 من رجب 1279هـ=18 من يناير 1863م)، ودفن بمسجد (النبي دانيال)، تاركًا لابن أخيه إسماعيل بن إبراهيم تجديد عهد النهضة والإصلاح

ـــــــــــــــــ
عن موقع بغداد الرشيد بتصرف