الغزو التتري لأوربا
01-09-2016, 07:36 AM




عناصر النجاح ثلاثة: الرغبة والقدرة والفرصة، و إن ضياع الفرصة غُصة، خاصة إن كانت على أرض المعركة، قال ابن المعتز:

وإن فرصةٌ أمكنت في العدى..فـلا تبـد فعلك إلا بهــا
وإن لــم تلـج بابهــا مسرعًـا..أتاك عــدوّك من بابها
وإيّـــاك مـــن نــــدمٍ بعـــدها..وتأمل أخرى وأنّى بها

أتت سنة 628 هجرية تحمل هجمة تترية بشعة جديدة على الأُمَّة الإسلامية[1]، وقد تضافرت عوامل شتى جعلت هذا الاجتياح الجديد على مستوى الاجتياح الأول نفسه؛ الذي حدث سنة 617 هجرية إلى سنة620 هجرية، أو لعلَّه أبشع وأسرع.

من هذه العوامل:
1- استقرار ملك التتار في منغوليا بعد وفاة جنكيزخان؛ وتولِّي الزعيم الجديد «أوكيتاي» قيادة التتار، فبدأ في اجتياح العالم الإسلامي، واستكمال الحروب بعد ذلك في منطقة روسيا -التي هُزمت فيها قبل ذلك الجيوش التترية- ومحاولة استكمال الفتوح في داخل أوربا، ويبدو أن اجتياح الخلافة العباسية ذاتها وإسقاط بغداد لم يكن من أهداف هذه الحملة؛ لأنها تجاوزتها إلى أوربا دون الوقوف أمامها كثيرًا؛ وذلك إمَّا لشدَّة حصانتها وكثافة سكانها، وإمَّا لتجنُّب إثارة كل المسلمين في العراق والشام ومصر إذا أسقطت الخلافة العباسية، والتي كانت تمثِّل رمزًا مهمًّا للمسلمين على ضعفها، فأراد التتار أن يجعلوها الخطوة الأخيرة في فتوحاتهم؛ وهذا هو عين الذكاء.

كلف الخاقان الكبير «أوكيتاي» أحدَ أبرز قادته بالقيام بمهمَّة الاجتياح التتري الثاني، وهو القائد «شورماجان»، الذي جمع جيشًا هائلاً من التتر، واجتاحت جيوش التتار البلاد الإسلامية اجتياحًا بشعًا.

2- حملت هذه السنة -أيضًا- النهاية المأساوية الفاضحة لجلال الدين بن خُوارِزم شاه! كما تقدم.

3- شهد هذا العام -أيضًا- استمرار حالة الفرقة البشعة التي كانت في الأُمَّة الإسلامية، واهتمام كل زعيم بحدود مملكته؛ وإن صغرت، حتى إن بعض الممالك الإسلامية لم تكن إلا مدينة واحدة وما حولها من القرى، ولم يكتفِ الزعماء المسلمون بالفُرقة؛ بل كانوا يتصارعون فيما بينهم، ويكيد بعضهم لبعض، ولم يكن أحدهم يأمن أخاه مطلقًا، ولم تكن فكرة الوحدة مطروحة أصلاً.

4- نتيجة العوامل السابقة، ونتيجة سوء التربية، وغياب الفهم الصحيح للإسلام، والتمسُّك بالدنيا إلى أقصى درجة، وعدم وضوح الرؤية عند الناس؛ فلا يعلمون العدوَّ من الصديق، ونتيجة الحروب التترية السابقة، والتاريخ الأسود في كل مدينة وقرية مرَّ عليها التتار.. نتيجة كل هذه العوامل فقد دبتَّ الهزيمة النفسية الرهيبة في داخل قلوب المسلمين؛ فما استطاعوا أن يحملوا سيفًا، ولا أن يركبوا خيلاً؛ بل ذهب عن أذهانهم أصلاً التفكير في المقاومة، وهذا -ولا شكَّ- سهَّل جدًّا من مهمَّة التتار؛ الذين وجدوا أبوابًا مفتوحة، ورقابًا جاهزة للقطع!

يروي ابن الأثير في الكامل في أحداث سنة (628هـ) بعض الصور التي استمع إليها بأذنه من بعض الذين كُتبت لهم نجاة أثناء حملات التتار على المدن الإسلامية؛ فيقول:

* كان التتري يدخل القرية بمفرده، وبها الجمع الكثير من الناس، فيبدأ بقتلهم واحدًا تلو الآخر، ولا يتجاسر أحد المسلمين أن يرفع يده نحو الفارس بهجوم أو بدفاع!

* أخذ تتري رجلاً من المسلمين، ولم يكن مع التتري ما يقتله به، فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح. فوضع رأسه على الأرض، ومضى التتري فأحضر سيفًا ثم قتله!

* ويحكي رجل من المسلمين لابن الأثير فيقول: كنتُ أنا ومعي سبعة عشر رجلاً في طريق، فجاءنا فارس واحد من التتر، وأمرنا أن يُقَيِّد بعضنا بعضًا، فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم، فقلتُ لهم: هذا واحد فلم لا نقتله ونهرب؟! فقالوا: نخاف. فقلتُ: هذا يُريد قتلكم الساعة فنحن نقتله؛ فلعلَّ الله يخلصنا، فوالله! ما جسر أحد أن يفعل ذلك، فأخذتُ سكينًا وقتلتُه، وهربنا فنجونا. وأمثال هذا كثير!

* دخل التتر بلدة اسمها «بدليس» (في جنوب تركيا الآن)، وهي بلدة حصينة جدًّا، ليس لها إلا طريق ضيق جدًّا بين الجبال، يقول أحد سكانها: لو كان عندنا خمسمائة فارس ما سلم من جيش التتار واحد؛ لأن الطريق ضيق، والقليل يستطيع أن يهزم الكثير؛ ولكن -سبحان الله- هرب أهلها إلى الجبال، وتركوا المدينة للتتار؛ فقاموا بحرقها!

* كان كل مسلم قبل أن يُقتل يستحلف التتري بالله ألا يقتله؛ يقول له: «لا بالله لا تقتلني!». فمن كثرة ما سمعها التتار، أخذوا يتغنَّوْنَ بكلمة «لا بالله»؛ يقول رجل من المسلمين اختبأ في دار مهجورة ولم يظفر به التتار: إني كنت أرى التتر من نافذة البيت بعد أن يقتلوا الرجال ويسبوا النساء، يركبون على خيولهم وهم يلعبون ويضحكون يغنون قائلين: «لا بالله.. لا بالله»[2]. وهذا -كما يقول ابن كثير

-: «طامة عظمى وداهية كبرى؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون!»[3].

كان هذا هو وضع المسلمين في ذلك الوقت؛ هزيمة نفسية مُرَّة، واجتياح تتري رهيب.

ماذا فعل شورماجان بعد موت جلال الدين؟

لقد ضمَّ «شورماجان» شمال إقليم فارس (شمال إيران حاليًّا) إلى الإمبراطورية التترية، وذلك في سنة 629 هجرية، ثم زحف بعد ذلك على إقليم أَذْرَبِيجَان فضمَّه إلى أملاكه





وبتلك الانتصارات التترية -إلى جانب موت جلال الدين على النحو الذي مرَّ بنا- اكتمل سقوط إقليم فارس كله في يد التتار؛ باستثناء الشريط الغربي الضيق، الذي تُسيطر عليه طائفة الإسماعيلية الشيعية.





ثم بدا لشورماجان أن يستقرَّ في هذه المناطق، ولا يُكمل زحفه إلا بعد ترسيخ قدمه، وتثبيت جيشه، ودراسة المناطق المحيطة.. وما إلى ذلك من أمور تدعم السلطان التتري في هذه المنطقة.

ظلَّ «شورماجان» يُرَسِّخ حكم التتر في هذه المناطق لمدَّة خمس سنوات كاملة؛ من سنة 629 هجرية إلى سنة 634 هجرية، وأثناء هذه السنوات الخمس لم تخرج عليه ثورة مسلمة! ولم يتحرَّك لقتاله جيش مسلم! مع أن جيوش المسلمين تملأ المناطق المجاورة لفارس وأَذْرَبِيجَان، وذلك في العراق والموصل ومصر والحجاز وغيرها؛ لكن الكل كان يشعر أن هذا أمر يهمُّ أهل فارس وأهل أَذْرَبِيجَان، وليس مصيبة عامَّة على عموم المسلمين! لم يشعر المسلمون في الأقطار التي لم تُصَب بعد بِوَيْلات التتار أن عليهم واجبًا تجاه هذه البلاد المنكوبة[4]؛ وفي الوقت ذاته لم يشعروا أن الدائرة حتمًا ستدور عليهم في يوم من الأيام، أضف إلى ذلك أن المسلمين في مناطق العراق والشام ومصر والحجاز كان غالبيتهم من العرب، بينما كان غالب المسلمين في إقليم فارس وأذربيجان وشرق الدولة الخُوارِزمية من غير العرب، ومع غياب الفهم الإسلامي الصحيح، وغياب الاستيعاب الكامل للأسس الحقيقية التي يُبنى عليها هذا الدين، ما عاد العربي يشعر بأخيه غير العربي، ولا العكس؛ كأنهم غرباء بعضهم عن بعض، بينما هم في الحقيقة إخوة! {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات: 10].

أمر شنيع حقًّا ألا يشعر المسلم العربي بأخيه المسلم التركي أو الأفغاني أو الشيشاني أو الهندي أو الفارسي! هذا أمر شنيع! وقاصمة لظهر الأُمَّة الإسلامية؛ لأن الإسلام دين لا يرتبط بعرق ولا عنصر ولا لون ولا جنس؛ إنما الرابط الوحيد هو الإيمان بالله ورسوله وبهذا الدين، رباط العقيدة، ولا شيء غير العقيدة.

روى الإمام أحمد بسند مرسل عن أبي نضرة : قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلاَ أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلاَّ بِالتَّقْوَى»[5].

هكذا جاءت القاعدة واضحة؛ لا مكان لعرق أو لون في الإسلام، إنما المكانة والاعتبار للتقوى.

بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم قسَّم المسلمين إلى طائفتين رئيسيتين لا ثالث لهما، واعتمد في تقسيمه هذا على مسألة التقوى؛ جاء ذلك في الحديث الذي رواه الترمذي وأبو داود وأحمد، وكذلك ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، وكذلك رواه ابن مردويه في تفسيره بسندٍ رجاله ثقات، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَمَا بَعْدَ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا النَّاسُ رَجُلاَنِ بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى رَبِّهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى رَبِّهِ، ثم تلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى}[الحجرات: 13][6]. والعُبية هي الكبر والفخر.

فالمسلم الصادق هو الذي يتحمَّس لمن اشترك معه في عقيدة واحدة، ولو اختلف أصله، أو لونه، أو نسبه.. وهكذا فالاعتبار الوحيد المقبول في الإسلام هو اعتبار العقيدة والتقوى.

بعد هذه السنوات الخمس في إقليمي فارس وأَذْرَبِيجَان بدأ «شورماجان» في سنة 634 هجرية في الالتفاف حول بحر قزوين من ناحية الغرب لينطلق شمالاً لاستكمال فتوحاته؛ وبسرعة استطاع أن يُسيطر على أقاليم أرمينيا وجورجيا (مملكة الكُرْج النصرانية) والشيشان وداغستان[7].

ثم بدأ جيش آخر من جيوش التتار بزعامة «باتو بن جاجي» في قيادة الحملات التترية شمال بحر قزوين، وذلك في السنة نفسها (634 هجرية)، وأخذ في قمع القبائل التركية النازلة في حوض نهر الفولجا، ثم زحف بعد ذلك على البلاد الروسية الواسعة، وذلك في سنة 635 هجرية.

وبدأ هذا الجيش التتري الرهيب يقوم بالمذابح الشنيعة في روسيا النصرانية؛ فاستولى على العديد من المدن الروسية، وذلك في سنتي 635 و636 الهجريتين، سقطت تحت أقدام هذا الجيش مدن: «ريدان»، ثم «كولومونا» بعدها بأيام، ثم سقطت مدينة «فلاديمير» الكبيرة بعد صمود ستة أيام فقط، واقترن سقوطها بمذبحة بشعة، ثم سقطت «سوذال»، ثم توجَّهت الجيوش التترية إلى أعظم مدن روسيا «موسكو»؛ فتمَّ اجتياحها وتدميرها، ثم سقطت بعد ذلك مدن: «يورييف»، و«جاليش»، و«بريسلاف»، و«روستوف»، و«ياروسلاف»، ثم سقطت مدينة «تورزوك» وبذلك احتلَّ التتار دولة روسيا بكاملها! (ومع أن مساحة روسيا سبعة عشر مليون كيلومتر مربع.. إلى جانب أعداد سكانها الهائلة، وأحوالها المناخية القاسية؛ فإن التتار احتلُّوها بالكامل في عامين فقط!).

وفي سنة 638 هجرية:
تحرَّكت جيوش التتار غربًا بقيادة «باتو بن جاجي»؛ فاحتلوا دولة أوكرانيا بكاملها، (ومساحتها ستمائة ألف كيلومتر مربع)، واجتاحوا العاصمة «كييف»، ودمَّرُوا كنوزها العظيمة، ولقي أكثر سكانها مصرعهم[8].

وفي سنة 639 هجرية:
زحفت فرقة من قوَّات التتار بقيادة «بايدر» إلى الشمال الغربي من دولة أوكرانيا فدخلت مملكة بولندا، ودمَّرَت الكثير من المدن البولندية، فلم يجد الملك البولندي إلا أن يستعين بالفرسان الألمان القريبين منه (ألمانيا تقع في غرب بولندا مباشرة)؛ فجاء الأمير هنري دوق «سيليزيا الألمانية» واشترك مع ملك بولندا في تكوين جيش واحد لملاقاة التتار، غير أن هذا الجيش لقي هزيمة ساحقة على أيدي الجيوش التترية بقيادة «بايدر»؛ وبذلك سقطت بولندا -أيضًا- تحت حكم التتار[9]!

وفي هذه الأثناء في السنة نفسها -639 هجرية- ترك «باتو» قائد التتار المتمركز في أوكرانيا فرقة تترية في هذه المنطقة، واتجه بجيشه الرئيسي غربًا إلى مملكة المجر؛ حيث التقى مع ملك المجر في موقعة رهيبة دمَّر على أثرها الجيش المجري بكامله؛ وبذلك احتُلَّت المجر أيضًا!

ثم نزل «بايدر» من بولندا في اتجاه الجنوب لمقابلة جيوش التتار بقيادة باتو في المجر، وفي طريقه للنزول اجتاح دولة «سلوفاكيا» وضمَّها بكاملها إلى دولة التتار!

ثم تدفَّقت الجيوش التترية إلى دولة «كرواتيا» فاجتاحتها!

وبذلك وصلت الجيوش التترية إلى سواحل البحر الأدرياتي (وهو البحر الفاصل بين كرواتيا وإيطاليا)؛ وبذلك يكون التتار قد ضمُّوا إلى أملاكهم نصف أوربا تقريبًا!





وكان من الممكن أن تستمرَّ الفتوحات التترية في أوربا -وقد وصلت حدود دولة التتار إلى دول ألمانيا والنمسا وإيطاليا- لولا أن الخاقان الكبير ملك التتار «أوكيتاي» مات في هذا العام (639 هجرية)؛ فاضطرَّ الأمير «باتو بن جاجي» إلى أن يوقف الحملات، ويستخلف أحد قواده على المناطق المفتوحة، ويعود إلى «قراقورم» عاصمة التتار في منغوليا للمشاركة في اختيار الخاقان التتري
الجديد[10].

وقفة للتحليل (سنة 639هـ وما بعدها):

أولاً:
وصلت حدود دولة التتار في هذه السنة من كوريا شرقًا إلى بولندا غربًا، ومن سيبيريا شمالاً إلى بحر الصين جنوبًا؛ وهو اتساع رهيب في وقت محدود، وأصبحت قوَّة التتار في ذلك الوقت هي القوَّة الأولى في العالم بلا منازع.



ثانيًا:
تولَّى قيادة التتار بعد «أوكيتاي» ابنه «كيوك بن أوكيتاي»[11]، وقد كان لهذا الخاقان الجديد رأي في حركة الجيوش وهي تثبيت الأقدام في البلاد المفتوحة بدلاً من إضافة بلاد جديدة؛ قد لا يقوى التتار على حفظ النظام فيها، والسيطرة على شعوبها وجيوشها؛ ومن ثَمَّ فقد توقَّفت الفتوحات التترية في عهد هذا الخاقان، وإن ظلَّ التتار يُحافظون على أملاكهم الواسعة.

ثالثًا:
ابتلع التتار في فتوحاتهم السابقة النصف الشرقي للأُمَّة الإسلامية، وضمُّوا معظم الأقاليم الإسلامية في آسيا إلى دولتهم، وقضوا على كل مظاهر الحضارة في هذه المناطق، كما قضوا تمامًا على أي نوع من المقاومة في هذه المناطق الواسعة، وظلَّ الوضع كذلك لسنوات كثيرة لاحقة.

رابعًا:
ظلَّ القسم الأوسط من العالم الإسلامي -والذي يبدأ من العراق إلى مصر- مُفَرَّقًا مشتَّتًا، لا يكتفي فقط بمشاهدة الجيوش التترية وهي تُسقط معظم ممالك العالم في وقتهم، وإنما انشغل أهله بالصراعات الداخلية فيما بينهم، وازداد تفكُّكهم بصورة كبيرة.

كذلك كان القسم الغربي من العالم الإسلامي؛ الذي يضمُّ ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وغرب إفريقيا، كان هذا القسم مفكَّكًا تمامًا بعد سقوط دولة الموحدين.

خامسًا:
ذاق الأوربيون النصارى من ويلات التتار كما ذاق المسلمون من قبلُ، وذُبح منهم مئات الآلاف أو الملايين، ودُمِّرت كنائسهم، وأُحرقت مدنهم، بل هُدِّدوا تهديدًا حقيقيًّا أن يصل التتار إلى عقر دار الكاثولكية النصرانية في روما.

سادسًا:
ومع أن النصارى رأوا أفعال التتار؛ فإن ملوك النصارى في أوربا الغربية (فرنسا وإنجلترا وإيطاليا وألمانيا)، كانوا يَرَوْنَ أن هذه مرحلة مؤقَّتة سوف تقف عند فترة من الفترات، أمَّا حروب النصارى الصليبيين ضدَّ المسلمين فهي حروب دائمة لا تنتهي؛ ومن ثَمَّ فَقَدْ كان ملوك الصليبيين على استعداد كامل للتعاون مع التتار؛ على الرغم من كل الأعداد الهائلة التي قُتلت منهم، بدلاً من التعاون مع المسلمين!

أمَّا لماذا يعتقد الصليبيون أن حرب المسلمين دائمة وحرب التتار مؤقتة؟ فإن ذلك يرجع إلى أن حروب الصليبيين مع المسلمين هي حروب عقيدة، والعداء بين المسلمين والصليبيين يقوم على أساس ديني، والصراع بينهما أبدي.. والنصارى لن يُنهوا القتال إلاَّ بدخول إحدى الطائفتين في دين الأخرى، كما يقول الله عز وجل في كتابه: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}[البقرة: 120].

أمَّا حروب التتار مع الصليبيين فلم تكن حروب عقيدة؛ فعقيدة التتار كانت عقيدة مشوهة باهتة؛ مجموعة من أديان شتى، لم يَسْعَ قائد تتري واحد لنشر هذه العقيدة في البلاد المغنومة؛ إنما كان هدف التتار فقط هو الإبادة والتشريد، وجمع المال وسبي النساء والأطفال، ومَنْ كانت هذه صفته فلا يُتَوَقَّع له الاستمرار.

لذلك فإنه على الرغم من الصدمات التي تلقَّتها أوربا على يد التتار؛ فإن أوربا استمرَّت في تجهيز حملاتها لغزو بلاد المسلمين من ناحية مصر والشام؛ بدلاً من تكثيف الجهود لصدِّ التتار، وفي الوقت ذاته فإن حكَّام أوربا الغربية الصليبيين ما يئسوا من إمكانية التعاون مع خاقان التتار لسحق الأُمَّة الإسلامية.

سابعًا:
أخذت عقائد الجيش التتري في التغيُّر بعد الحملات التي وجَّهُوها إلى أوربا؛ فقد تزوَّج عدد كبير من قادة المغول من فتيات نصرانيات؛ وبذلك بدأت الديانة النصرانية تتغلغل نسبيًّا في البلاط المغولي، وهذا ساعد أكثر على إمكانية التعاون بين التتار والصليبيين.

ثامنًا:
استمرَّت الحروب الصليبية الأوربية على المسلمين في مصر والشام، وكانت مصر والشام في ذلك الوقت تحت حكم الأيوبيين، ولكن كانت هذه هي آخر أيام الأيوبيين، وقد دار الصراع بينهم وبين بعضهم، وأصبح المسلمون بين شقَّيِ الرحى: بين التتار من ناحية، والصليبيين من ناحية أخرى.

وخلاصة القول بعد هذا التحليل:

فإن «كيوك بن أوكيتاي» خاقان التتار الجديد تسلَّم مملكة واسعة تُعَدُّ هي القوَّة الأولى في العالم، وإن الصليبيين على الرغم مما ذاقوه من التتار؛ فإنهم ما زالوا يطمعون في التعاون معهم ضدَّ المسلمين؛ أما المسلمون فكانوا في خلافات مستمرَّة، وتحت ضغوط تترية من ناحية، وصليبية من ناحية أخرى، وليس لأي قائد مسلم في ذلك الوقت أي طموح -كبير أو صغير- في تحرير البلاد واستنقاذ العباد؛ إنما كانت رغبتهم فقط في تثبيت السلطان على البقعة التي يعيشون عليها، مهما صغرت أو ضعفت، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله!

[1] ابن كثير: البداية والنهاية 13/149.
[2] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 10/ 449، 450.
[3] ابن كثير: البداية والنهاية 13/150.
[4] للمزيد عن واجبات الأمة في مثل هذه الأزمات انظر: للمؤلف: فلسطين واجبات الأمة.
[5] أحمد في مسنده 38/ 474.
[6] الترمذي: أبواب تفسير القرآن الكريم، باب ومن تفسير سورة الحجرات [3270]، وأبو داود [5116]، وقال الألباني: حديث صحيح.
[7] محمد سهيل طقوش: تاريخ المغول العظام والإيلخانيين ص87.
[8] الدكتور الصياد: المغول في التاريخ ص185-187.
[9] بسام العسلي: المظفر قطز ومعركة عين جالوت ص97، 98.
[10] انظر محمد سهيل طقوش: تاريخ المغول العظام والإيلخانيين ص101-105.
[11] البنكاتي: روضة أولي الألباب في معرفة التواريخ والأنساب ص428.



د.راغب السرجاني