تهديد التتار لقطز ومصر
25-09-2016, 05:31 AM




قضية التتار كانت نُصب عيني قطز من أول يوم حكم فيه مصر، بل منذ كان طفلًا أغار التتار على بلده، وقتلوا أهله، ومرورًا بكل مراحل حياته الصعبة، وحياة الرق والعبودية، وانتهاءً بصعوده إلى أعلى منصب في مصر.

ورأينا كيف خطط لتقوية جيشه، ولتدعيم الصف الداخلي في مصر، ولتحسين العلاقات الخارجية مع الأشقاء المسلمين، ولا شك أنه كان يحتاج إلى وقت طويل، ولكن كثيرًا ما تُفرَض المعارك على المسلمين فرضًا، فلا يجدون الوقت الكافي للإعداد والتمهيد، ولذلك: على الأمم التي تريد أن تعيش أن تكون جاهزة ومستعدة بصورة دائمة.

رسالة من التتار:
كان قطز في حاجة إلى بضعة شهور للإعداد، فإذا بالأيام تتسرب من بين يديه، والحرب مفروضة عليه، وما بين عشية وضحاها ستهجم الجحافل الهمجية على مصر، شاء قطز أم أبى، وشاء الجيش أم أبى، وشاء الشعب أم أبى، فالصراع سيكون قريبًا، وقريبًا جدًّا بين أي فئة مؤمنة، وبين أكبر قوَّة في الأرض إن كانت هذه القوَّة ظالمة، فالظالمون المتكبرون لا يقبلون أبدًا بصديق ولا حليف ولا محايد، إنما فقط يريدون التابع، ولا بُدَّ أن يكون التابع ذليلًا!

وبينما كان قطز في إعداده المتحمس، وفي خطواته السريعة، إذ برُسل هولاكو بين يديه يُخبرونه أن اللقاء سيكون أسرع مما يتخيل، وأن الحرب على وشك الحدوث!

جاءت رسل هولاكو لعنه الله، وهي تحمل رسالة تقطر سمًا، وتفيض تهديدًا ووعيدًا وإرهابًا.. لا يقوى على قراءتها إلا من ثبته الله عز وجل.

{ولَوْلاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً}[الإسراء 74].

وبفضل الله ثبّت الله عز وجل قطز، فقرأ الرسالة برباطة جأش عجيبة، وكذلك المؤمن الصادق، إذا خوّفه أحد الظالمين، استحضر هيبة الله تعالى، فهان عليه كل ظالم أو متكبر.

نص الرسالة التترية:
جاءت رسالة هولاكو مع أربعة من الرسل التتر.. وقرأ قطز فإذا فيها ما يلي:

«بسم إله السماء الواجب حقه، الذي ملكنا أرضه، وسلطنا على خلقه.

الذي يعلم به الملك المظفر الذي هو من جنس المماليك.

صاحب مصر وأعمالها، وسائر أمرائها وجندها وكتابها وعمالها، وباديها وحاضرها، وأكابرها وأصاغرها.

أنّا جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حل به غيظه.

فلكم بجميع الأمصار معتبر، وعن عزمنا مزدجر.

فاتعظوا بغيركم، وسلّموا إلينا أمركم.

قبل أن ينكشف الغطاء، ويعود عليكم الخطأ.

فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرق لمن اشتكى.

فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد.

فعليكم بالهرب، وعلينا بالطلب.

فأي أرض تأويكم؟ وأي بلاد تحميكم؟

وأي ذلك ترى؟ ولنا الماء والثرى؟

فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من أيدينا مناص

فخُيُولُنَا سوابق، وسيوفنا صواعق، ورماحنا خوارق، وسهامنا لواحق.

وقلوبنا كالجبال، وعديدنا كالرمال!

فالحصون لدينا لا تمنع، والجيوش لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يسمع!

لأنكم أكلتم الحرام، وتعاظمتم عن رد السلام، وخنتم الأيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان.

فأبشروا بالمذلة والهوان:

{فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف 20]، {سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء 227].

وقد ثبت أن نحن الكفرة وأنتم الفجرة.

وقد سلطنا عليكم من بيده الأمور المدبرة، والأحكام المقدرة.

فكثيركم عندنا قليل، وعزيزكم لدينا ذليل، وبغير المذلة ما لملوككم عينا من سبيل.

فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا رد الجواب.

قبل أن تضطرم الحرب نارها، وتوري شرارها.

فلا تجدون منا جاهًا ولا عزًا، ولا كتابًا ولا حرزًا، إذ أزتكم رماحنا أزًا.

وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية، وعلى عروشها خاوية.

فقد أنصفناكم، إذ أرسلنا إليكم، ومننا برسلنا عليكم»[1].

وانتهت الرسالة العجيبة التي خلت من أي نوع من أنواع الدبلوماسية، إنما كانت إعلانًا صريحًا بالحرب، أو البديل الآخر وهو التسليم المذل، ولا بُدَّ أن يكون التسليم مذلًا، بمعنى أنه دون فرض أي شروط، أو طلب أي حقوق.

مجلس استشاري عاجل:
عقد قطز مجلسًا استشاريًا أعلى، وجمع كبار القادة والأمراء والوزراء، وبدءوا فورًا في مناقشة القضية الخطِرَة التي طُرحت أمامهم، والخيارات محدودة جدًّا، إما الحرب بكل تبعاتها، وإما التسليم غير المشروط.

أما قطز فكانت القضية في ذهنه واضحة تمام الوضوح، إنه لم يطرح الخيارين على نفسه للتفكير، فخيار السلام -أو «الاستسلام»- في هذا الموقف غير وارد عنده أبدًا، وهو يعلم تمام العلم أن الحقوق لا «توهب» بل «تؤخذ»، وأن الجيوش المعتدية لا «تُقنع» بالعودة إلى بلادها، بل «تُرغم» على العودة إلى بلادها.

هكذا كانت الرؤية في منتهى الوضوح عند قطز

لكن الأمراء الذين اجتمعوا معه لم يكونوا على نفس الدرجة العالية جدًّا من الفقه والفهم.. نعم لديهم حمية دينية عالية، ونعم يحبون الإسلام حبًا جمًا، ونعم على درجة راقية من الفروسية والمهارة القتالية، لكن الاختبار صعب جدًّا.

لقد كانت الفجوة هائلة فعلًا بين إمكانيات التتار كدولة من كوريا شرقًا إلى بولندا غربًا، وإمكانيات مصر التي مهما زادت فهي محدودة.. لقد كانت الفجوة هائلة فعلاً بين أعداد التتار وأسلحة التتار، وأعداد المصريين وأسلحة المصريين، هذا فوق السمعة الرهيبة لجيوش التتار، وفوق الملايين المسلمة التي ذُبحت على أيدي التتار، بالإضافة إلى الجيوش الخُوارِزمية والأرمينية والكُرْجية والعباسية والأوروبية والشامية التي هُزِمت أمام جيوش التتار.

لقد شاعت في تلك الأزمان كلمة تناقلها العوام والخواص.. كانوا يقولون:

«إذا أخبرك أحد أن التتار يُهزمون فلا تصدقه!».

كل هذه التراكمات جعلت الأمراء يترددون في قبول ما رآه قطز أمرًا واضحًا جدًّا لا تردد فيه.. وظهر عليهم الهلع والضعف والتثاقل إلى الأرض!

كيف يتصرف القائد الحكيم مع مثل هذا الموقف؟

كيف ينزع الخوف والرهبة من القلوب؟

كيف يقنع قادة جيشه بأمر يعتقدونه مستحيلًا؟!

لقد سلك قطز طريقين من أعظم طرق التربية، ومن أبلغ وسائل التحميس والتحفيز على عمل قد يستصعبه كثير من الناس.

القيادة قدوة:
أما الطريق الأول: فهو طريق «التربية بالقدوة».

لقد قال لهم قطز في شجاعة وعزم: «أنا ألقى التتار بنفسي[2]»!

لن يرسل جيشًا لمقابلة التتار ويبقى هو في قصره الآمن في القاهرة، بل سيتحمل مع شعبه ما يتحمل، وسيعاني مع جيشه ما يعاني.. ولو أرسل قطز جيشًا وبقي هو في القاهرة ما لامه أحد، فهو قائد المسلمين، والآمال معقودة عليه، ولو مات فقد ينفرط عقد الأمة، ولكن قطز لم يجد وسيلة أفضل من هذه الوسيلة لتحميس القلوب الخائفة، ولتثبيت الأفئدة المضطربة.. كما أنه يشتاق إلى الجهاد، ويشتاق إلى الشهادة، ويشتاق إلى الجنة.

وفي كل الأحوال هو لن يموت قبل الموعد الذي حدده الله له.

لقد فقه قطز عمليًا ما أدركه كل المسلمين نظريًا.. وهو أنه «لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها».. لكن مَن مِن المسلمين يعيش واقع حياته فعلًا بهذا المفهوم الذي عرفه نظريًا؟!

إن الناس تتصارع دائمًا لأجل زيادة الرزق، وتتصارع دائمًا لأجل زيادة العمر، لكن الذي لا يعرفه كثير من الناس أن الشجاعة لا تقلل أبدًا من الأرزاق، ولا تقصر مطلقًا من الأعمار، وأن الجبن لا يكثر من المال المقسوم للإنسان، ولا يخلده في الحياة.

كما فقه قطز الحقيقة الغالية: أن الحياة بعزة ولو ساعة، خير من البقاء أبد الدهر في ذل وهوان.

لا شك أن الأمراء والوزراء لما شاهدوا قطز بهذه الحمية تحمست قلوبهم.

هذه هي القدوة كما تقول الحكمة المشهورة: «فعل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل في رجل».

إن القائد مهما قام بجولات بين جنوده وقواده وشعبه يحمسهم ويشجعهم، لكنهم يعلمون أنه عند الضوائق والشدائد لن يجدوه معهم، بل سيؤمن نفسه وأحبابه فقط، ويترك جنوده وشعبه لمصيرهم، فإن هذه الجولات وهذه الخطب لا تؤثر شيئًا في الناس.

وقدوتنا العظمى في القادة الذين يعيشون هموم شعبهم، ويشاركونهم في كل صغيرة وكبيرة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

روى الإمام البخاري عن أنس رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قِبل الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سبق الناس إلى الصوت وهو يقول: «لَنْ تُرَاعُوا لَنْ تُرَاعُوا»، أي لن تُفزعوا ، وهو على فَرسٍ لأبي طلحة، عُري ما عليه سرج، في عنقه السيف، فقال «لَقَدْ وَجَدْتُهُ بَحْرًا»[3]. أي: الفرس سريع الجري.

تعظيم أمر الله:
أما الطريق الثاني الذي سلكه قطز فهو التذكير بعظم الهدف الذي من أجله خلق الإنسان، وبنبل الغاية التي من أجلها نعيش على الأرض.

إنه يرتفع بنفوس الناس من مطامع الناس المادية البحتة إلى آفاق عالية جدًّا جدًّا.. إنه يربط كل عمل يعملونه بإرضاء الله عز وجل، وبنصرة الدين.

إذا عظم كل واحد منا أمر الإسلام في قلبه فإنه سيستصغر أي تضحية في سبيل نصرة هذا الدين.

هذه من أبلغ وسائل التحميس والتحفيز.. أن تعظم الغاية والهدف إلى أقصى درجة.. فيصبح جهادُك واستعدادُك وحركتك نوعًا من العبادة لله رب العالمين.

لم يحفزهم قطز بدنيا، ولم يحفزهم لاتباع شخص معين، ولم يحفزهم بوطنية مصرية، أو قومية عربية، أو حتى بحب البقاء في هذه الحياة، والدفاع عن النفس ضد الموت.. بل إنه حفزهم بالحرص على الموت!

وشتان بين من يجاهد وهو حريص على أن يموت، ومن يجاهد وهو حريص على أن لا يموت! شتان فعلاً.

لقد قال لهم قطز في صراحة:

«يا أمراء المسلمين، لكم زمان تأكلون من بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، وإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين [أي: عن القتال]»[4].

قضية إيمان:
القضية بوضوح قضية إيمان، إذا علمت أن الله مراقب لك وخالفت، فإن وبال ذلك عليك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُكره منافقًا على الخروج معه للقتال.. بل كان يترك الأمر على السعة، بل إنه إذا تخلف المسلمون المؤمنون (كما حدث في غزوة تبوك من بعض المؤمنين) فإنه لا يُكرههم، بل كان إذا ذُكر له رجل تخلف، قال: «دَعُوهُ، إِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللَّهُ بِكُمْ، وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمُ اللَّهُ مِنْهُ» [5].

ولا يخفى علينا الإشارة المهمة التي ذكرها قطز من أن هؤلاء الأمراء والوزراء قد عاشوا سنوات يأكلون من بيت مال المسلمين، بل ويكثرون من الأكل والجمع حتى فقدت وظائفهم كل معنى، ولم يبق لها إلا معنى واحد هو استغلال المنصب لأقصى درجة لزيادة الثروة، من الحلال وغير الحلال على السواء، وما عاد الوزير يعتقد أنه موظف عند الشعب وليس سيدًا عليهم، وأنه كما أن له حقوقًا فإن عليه واجبات، وأنه مسئول ومحاسب من الله ومن شعبه على كل خطوة، وعلى كل درهم أو دينار.. لقد كانت هذه الكلمات من قطز تهدف إلى إيقاظ الضمير، وإلى إحياء الأمانة، وكشفت هذه الكلمات الوزراء أمام أنفسهم.. لقد كان قطز يرى بوضوح ما بداخل كل وزير!

من للإسلام إن لم نكن نحن؟
ثم تحركت المشاعر بصورة أكبر وأكبر في صدر قطز، حتى وقف يخاطب الأمراء وهو يبكي، ويقول: «يا أمراء المسلمين، من للإسلام إن لم نكن نحن».

كلمة تصلح أن تكون منهجًا للحياة.

إذا قالها كل مسلم فلن تسقط أبدًا أمة الإسلام.

أحيانًا ينتظر المسلم أن يأتي النصر من مسلمين آخرين.. ينتظر أن يتحرك للإسلام فلان أو غيره، ولكنه قليلًا ما يفكر هو في التحرك.. بل كثيرًا ما يقوم بعملية نقد وتحليل وتعليق على أفعال وأقوال العاملين للإسلام، أما هو فلا يتحرك!

أحيانًا ينتظر المسلم أن يخرج صلاح الدين أو خالد بن الوليد أو قطز أو القعقاع من بيت جاره، أو من بلد آخر، ولا يفترض أن يخرج هؤلاء من بيته هو شخصيًا.

لماذا لا تكون أنت صلاح الدين الأيوبي؟

لماذا لا تكون أنت يوسف بن تاشفين؟

لماذا لا تكون أنت نور الدين محمود؟

من للإسلام إن لم نكن نحن؟

ونجح قطز

وقعت الكلمة في قلوب الأمراء.. فضجوا جميعًا بالبكاء!

لقد خشعت القلوب.. ومن خشع قلبه فيرجى منه الخير كله.

وقام بعض الأمراء وتكلموا بخير، فقام البقية يعلنون موافقتهم على الجهاد، وعلى مواجهة التتار مهما كان الثمن، وهكذا نجح قطز في خطوة هي من أصعب خطوات حياته، وهي في ذات الوقت من أعظم خطوات حياته.

فما الذي حدث، وكيف كان رد قطز على رُسل التتار؟ هذا ما سنتعرف عليه في المقال القادم بإذن الله.


[1] المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك 1/514، 515.
[2] المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك 1/515.
[3] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب إذا فزعوا بالليل (3040)، والترمذي (1687).
[4] المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك 1/515.
[5] أخرجه الحاكم في مستدركه 2/52، والبيهقي في سننه الكبرى 4/199، والحديث في إسناده ضعف، انظر السلسلة الضعيفة للألباني (5531).


د.راغب السرجاني