الإلحاد: رؤية كونية غير عقلانية
05-09-2015, 08:41 PM
يدعي المُلحدين أنهم عقلانيين بما لا يُقاس بالمقارنة مع أصحاب الأديان الذين يؤمنون بأساطير وخرافات، وأنهم يريدون أن يحرروا البشر من هذه الأوهام. المُلحد يؤمن بالمادية (أي لا يوجد شيء سوى المادة) وأن الطبيعة هي كل شيء. لا يعتقد بوجود إله وخالق ويعتقد بأن نظرته للكون والحياة هي نظرة عقلانية منطقية.
لكن، النظرة المادية الإلحادية من السهل تفنيدها، لأنها تدمر إمكانية العلم والمعرفة والعقلانية. إذا كان الإلحاد صحيح، فإن من المستحيل إثبات أي شيء. وهذه هي بعض الأسباب:
العقلانية تشمل استخدام قوانين المنطق، ومنها قانون عدم التناقض. أي إنسان منطقي عقلاني لا يمكنه إنكار ذلك. لكن لماذا هذا القانون صحيح؟ لماذا يجب أن يكون هناك قانون عدم التناقض أو أي قانون منطقي للعقلانية؟
المُلحد المادي لا يمكنه أن يحصل على قوانين المنطق. لأنه يعتقد بأن كل شيء في الوجود هو مادة فقط. لكن قوانين المنطق ليست مادية، ولهذا قوانين المنطق لا يمكن أن تتواجد في العالم الإلحادي، وبالرغم من هذا ستجد أن المُلحد يستخدمها من أجل التفكير العقلاني. هذه هي قمة التناقض

فتأمل عندما يستخدم المُلحد المنطق ليجادل أن الدين أو الإله هو شيء وهمي!!! إن مثل شخص يحاول إنكار وجود الهواء لكن يقدم حجج على عدم وجود الهواء بينما يتنفس الهواء ويصلنا صوته من خلال الهواء. فاللحظة التي نسمع بها صوته ونفهم كلامه تعرف أنه على خطأ. بنفس الطريقة، المُلحد الذي يجادل أن الله غير موجود يجب أن يستخدم قوانين المنطق والعقلانية التي لا معنى لها بدون وجود الله. فمن أجل أن يكون جدل المُلحد صحيحًا، يجب أن يكون على خطأ.

كيف يمكن أن يرى المُلحد المادي؟ إحدى الإجابات: أنا أستطيع أن أفكر بطريقة عقلانية، ومع هذا لا أؤمن بوجود الله. لكن أليس هذا مشابه للشخص أن يستطيع تنفس الهواء ولكن لا يؤمن بوجود الهواء. هذه ليست إجابة عقلانية. التنفس يتطلب الهواء، وليس أن تعترف أو تعتقد بالهواء. قوانين المنطق أيضًا تتطلب الله وليس اعتراف أو اعتقاد فيه. أكيد المُلحد يستطيع التفكير بعقلانية، لكن نظرته الكونية لا تستطيع أن تعطي مبرر لعقلانيته.

قد يعترض المُلحد ويقول أن قوانين المنطق هي نتاج ترابط كهربائي كيمياوي في العقل. عندها إذن قوانين المنطق ليست عالمية بل لا تتعدى أكثر من حدود العقل. في هذه الحالة لا نستطيع أن نقول ان هناك تناقض على ظهر كوكب المريخ لأنه لا يوجد عقل هناك!!!
أحياناً قد يقول المُلحد المادي أن قوانين المنطق هي اتفاقيات بين البشر!!! لكن إذا كانت قوانين المنطق اتفاقيات، عندها كل حضارة سيكون لها قوانين منطق مختلفة وهنا القوانين المنطقية لن تكون عالمية لأن التفكير المنطقي سيصبح مستحيل كون كل حضارة سيكون لها معيار مختلف عن الآخر.
أيضًا، قد يلجأ المُلحد إلى محاولة ذرائعية للدفاع عن موقفه بالقول أننا نستخدم قوانين المنطق لأنها تعمل (نافعة)!!! طبعًا هي نافعة لأنه صحيحة، ولكن هذا ليس السؤال، بل لماذا توجد قوانين المنطق من الأصل؟ كيف يمكن للمُلحد أن يبرر وجود قوانين تفكير منطقية مطلقة (صحيحة في كل زمان ومكان) مثل قوانين المنطق؟ كيف أمور غير مادية مثل القوانين المنطقية لها وجود إذا كان الكون والحياة مادة فقط؟ لماذا الكون المادي يتبع قوانين غير مادية؟ الحل الوحيد والعقلاني والمنطقي أن يترك المُلحد الفلسفة المادية ويعترف بأن هناك قوانين غير مادية كونية. إذا لم يفعل ذلك، فرؤيته الكونية غير عقلانية وعشوائية ولا يوجد ما يبررها!

¤¤¤¤¤ كملحد، لماذا تثق بالعقلانية؟ ¤¤¤¤¤
كلاً من المؤمنين والملحدين يتهمون بعضهم البعض بالمغالطات المنطقية. الافتراض الذي يستخدمه الطرفين هو أن هناك معيار عقلاني معين موجود، وهذا المعيار يخبرنا الحقيقة ويتعين علينا استخدام العقلانية بشكل صحيح إذا أردنا أن نعرف الحقيقة. هذه الافتراضات جيدة جدًا، ولكن نسأل الملحد، كيف تبرر هذه الافتراضات بدون وجود الله؟ للتوضيح...
إذا كانت المادية الالحادية صحيحة (أي أن الحياة مادة فقط) فهذا يعني أن العقلانية أمر مستحيل. لأن إذا كانت آليات العقل والتفكير ليست سوى ردود فعل كيمياوية في الدماغ، فلا يوجد أي سبب يدعو إلى الاعتقاد بأن أي شيء هو صحيح بما في ذلك نظرية المادية نفسها. العمليات الكيمياوية لا تستطيع تقييم إذا كانت نظرية ما صحيحة أو لا، لأن العمليات الكيمياوية ليس لديها عقلانية، بل تفاعل وردود فعل فقط.
هذه مفارقة كبيرة عند الملحدين، بينما يدعون أنهم هم أبطال الحقيقة والعقلانية لكنهم جعلوا الحقيقة والعقلانية مستحيلة بواسطة نظرية المادية. فبالرغم من أنهم قد يكونوا على صواب في شيء ما أو بعض الأشياء، لكن وجهة نظرهم لتفسير الكون لا تعطي أي سبب لتصدقيهم، لأن العقلانية مستحيلة بعالم محكوم فقط بواسطة عمليات كيمياوية وفيزيائية.
ليس فقط العقلانية مستحيلة في عالم الإلحاد، ولكن افتراض الملحد أننا المفروض أن نعتمد على العقلانية لوحدها، لا يوجد ما يبرره. وكما يشير الكاتب J. Budziszewski في كتابه ''What we can’t know'' إن شعار العقل وحده هراء. العقل يفترض الإيمان. لماذا؟ لأن الدفاع عن العقل بواسطة العقل هو جدال دائري، ولهذا السبب لا قيمة له. ضماننا الوحيد أن العقل البشري فعال، هو الله الذي صنعه.
نعم، هناك اختيارين فقط عن مقدرة البشر على استخدام العقلانية، إما أن العقلانية نشأت عن ذكاء موجود سابق (الله) أو ظهرت بواسطة مادة بدون عقل. الملحدين جميعهم لديهم إيمان كبير أن عقلنا ظهر من مادة غير عقلانية بدون تدخل أي نوع من الذكاء. ونقول "إيمان" لأن فرضية الملحد تتناقض مع جميع الملاحظات العلمية التي تثبت أن الأثر لا يمكن أن يكون أعظم من سببه (قانون السببية). الملحدين يعتقدون أن المادة الميتة (بدون أي نوع حياة) انتجت نفسها إلى حياة ذكية. هذا يشبه الاعتقاد أن مكتبة للكتب نتجت عن انفجار وقع في متجر للطباعة!!
إنه من العقلاني والمنطقي أكثر أن نعتقد بأن العقل قد صنع بواسطة عقل عظيم – الله. عقلنا يستطيع أن يفهم الحقيقة والعقلانية ويجادل بها وبواسطتها لأن هناك مصمم عظيم للعقل والحقيقة.
لذلك نسأل الملحدين: 1) ما هو مصدر هذه الحقيقة غير المادية المسمية العقل، و 2) إذا الله غير موجود ونحن لا شيء سوى كيمياويات، لماذا يجب أن نثق في أي شيء نفكر فيه بما في ذلك فكرة أنه لا يوجد إله؟

¤¤¤¤¤بعض عيوب المُلحدين في التفكير ¤¤¤¤¤
أولا: المُلحدين يشوهون طبيعة الإيمان. باستمرار وتكرار المُلحدين يسيئون فهم طبيعة الإيمان
يقولون أن الإيمان هو الاعتقاد بدون دليل، أو الاعتقاد عكس ما تبرهن الأدلة، فلذلك الإيمان غير منطقي. إنهم مخطئون إذا فهموا أن الإيمان هو إيمان أعمى

ثانيًا: نظرة المُلحد عن العقلانية نظرة ظيقة ومتضاربة. عند فحص تفسير العقلانية التي يقدمها المُلحدون، نجد مشاكل فلسفية كبيرة. فالمُلحدون يركزون على جانب ضيق من فهم العقلانية مثل أن يدعوا أنه من العقلانية التصديق بأمور لها فقط أدلتها وبراهينها العلمية أو المبنية على الملاحظة والاختبار!!! إذا أخذنا هذه القاعدة عن العقلانية: "أنه فقط عقلاني أن نصدق الأمور التي لها أدلتها العلمية أو المبنية على الملاحظة والاختبار" وطبقناها على نفسها؟ ما هي الأدلة والبراهين العلمية أو المبنية على الملاحظة والاختبار التي تدعم هذا الادعاء عن حقيقة ما هو عقلاني أن نصدقه؟ لا يوجد، لأن هذا الادعاء هو ليس علمي أو مبني على الملاحظة والاختبار، بل هو ادعاء فلسفي، وهذا متناقض مع ادعاء المُلحد عن العلم. إنه مثل نشر غصن الشجرة التي يحاول أن يجلس عليها المُلحد. يحتاج المُلحدون إلى تعريف أوسع لفهم طبيعة العقلانية، لأن المعلومات العلمية والأدلة التجريبية رغم كونها مهمة ولكنها ليست الطريقة الوحيدة للتصديق العقلاني للأمور.

ثالثاً: المُلحدون لديهم فكر متناقض عن الاخلاق: باستمرار المُلحدون يستخدمون النقد الاخلاقي ضد المؤمنين والدينين وخصوصًا عن عدم عقلانية الإيمان، ويطلبون منهم أن يلتزموا بالعقلانية، وأن يرتقوا إلى هذه الحتمية الاخلاقية ولكن هذه النظرة والدعوة العقلانية عن الاخلاق لا تتفق مع نظرة المُلحدين عن طبيعة الاخلاق. مثلا، ريتشرد دوكنز قال بوضوح أنه لا يوجد خير أو شر بالمعنى الموضوعي. إذن، كيف تطلب من الناس أن يرتقوا إلى مستوى معين من الالتزام الاخلاقي الموضوعي إذا كنت لا تؤمن بوجود أخلاق إلزامية موضوعية من الأصل؟ كيف تؤمن بأن الاخلاق نسبية وتقدم نقد أخلاقي عن الغير؟ إنها محاولة تربيع الدائرة.
رابعًا: حرية الإرادة: المُلحدون يطالبون المؤمن باستخدام حرية الإرادة رغم أنهم ينفوا وجودها. الفيلسوف كانط جادل أن هناك رابط لا ينفصل بين حرية الإرادة والمسؤولية الأخلاقية!!! يطالبون المُلحدون من البشر أن يمارسوا حرية اختبارهم ومسؤوليتهم بما يعتقدون في الحياة، وأن يبذلوا جهد أكبر ويفكروا ويكونوا معقولين أكثر في اختياراتهم. فرغم كون هذا نقد أخلاقي ولكن هذا أيضًا افتراض أن لدى البشر الحرية للاختيار والممارسة. هذه رؤية متضاربة مع اعتقاد وتفسير المُلحدين عن طبيعة البشر. مثلا ريتشرد دوكنز قال أنه لا يوجد هناك حرية إرادة عند البشر، نحن فقط عبارة عن آلات وجدت وتشكلت من الذرات ونرقص على انغام الجينات والبيئة التي صنعتها!! هذا خلط وتشويش عند المُلحدين بما يعتقدون: فمن جهة يقولون أن البشر لا يوجد لديهم حرية اختيار – تلك الحرية التي تعطينا المسؤولية، وفمن جهة أخرى، يطالب المُلحدون من البشر أن يمارسوا حريتهم ومسؤوليتهم في اختيار الاعتقاد بأي شيء منطقي ومقبول، ولكنهم يريدون أن ينتقدوا البشر الذين لا يستخدمون مسؤوليتهم بطريقة مسؤولة!

¤¤ هل العلم هو المصدر الوحيد للمعرفة؟ أو هل العلم أكثر عقلانية من الإيمان؟ ¤¤
أحد الحجج الرئيسية عند المُلحدين، ومنهم ريتشرد دوكنز في كتابه "وهم الإله"، أن الإيمان الديني غير عقلاني. يقول دونكنز أن الإيمان هو عملية عدم التفكير، وهذه العملية تعتبر تمامًا شر لأنها لا تتطلب تبرير، ولا حجج.
هذه طريقة مألوفة من المُلحد عند يخلط بين الكلام الطنّان ويهمل الإعتبار للأدلة والدقة.
كلنا نتفق أن العلم هو أحد أكثر أساليب الحصول على المعرفة بشكل دقيق، فمثلا كيف نعرف أن الماء مكون من H2O؟ الإجابة بسيطة، وهي أن الأدلة العلمية تقول لنا ذلك. فلا يوجد من يختلف على هذا الأمر. ونحن نتفق مع دوكنز والملحدين أن العلم يعطي أدلة واضحة، موثوقة ودقيقة على أسئلة مهمة كثيرة مثل الجينات التي في داخل الكائن، الخ. ولكن، ماذا بخصوص هذا السؤال: "ما هو معنى الحياة؟" هذا سؤال مهم وجوهري. هل يستطيع العلم على أن يجيب عليه؟ حسب دوكنز والملحدين، العلم لا يكشف عن معنى الحياة، ولهذا؟ لا يوجد معنى للحياة؟ فهل هذا صحيح؟
أحد علماء جامعة اكسفورد العباقرة والحائز على جائزة نوبل في الطب Peter Medawar قال واقتبس كلامه بخصوص العلم من كتابه Medawar: بأن العلم هو أكثر طريقة ناجحة للحصول على المعرفة، ولكن يجب التفريق بين الأسئلة الميتافيزيقية، التي يجب أن يُجاب عليها بواسطة الدين والميتافيزيقيا، وبين الأسئلة التي طبيعتها تختص بالكون المادي والتي لا يوجد حدود للعلم لمعرفتها.
العلم له حدود: مذا تعني بالأسئلة الميتافيزيقية؟
الأسئلة عن الله، هل هناك هدف من الكون، ما معنى الحياة، كيف بدأ كل شيء، لماذا نحن هنا، هي أسئلة العلم لا يستطيع الإجابة عليها، ولن يستطيع العلم أن يجيب عليها في المستقبل، حتى لو تقدم بشكل مذهل. قد يستطيع العلم أن يضع تصور معين عن كيف بدأ الكون ولكن لا يستطيع أن يقول لنا لماذا بدأ الكون. العلم إذن، لا يستطيع أن يقول لنا إذا كان الله موجود، أو لماذا نحن هنا، الخ، لأن الأسئلة التي لها معنى وقيمة وهدف وجوهر، هي أسئلة العلم فاقد البصر بخصوصها. هذا طبعًا ليس نقدًا للعلم، بل إعتراف واحترام لحدوده.
كثير من العلماء يقرّون بأن هناك أسئلة لا يستطيع العلم الإجابة عليها، وينظرون إلى الإجابة من أماكن أخرى للأسئلة الكبيرة التي لها علاقة بالحياة