خاطرة عن الاستشراق
01-06-2016, 09:42 AM
خاطرة عن الاستشراق



الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:


بدأ الاستشراق في وقت مُبكِّر من تاريخنا، بدأ يوم أن كانت لنا العزَّة في الأرض، والسيادة على الدنيا، نقول الكلمةَ فيُصغي الكونُ لها، ونُعلِن الحُكمَ في أمر من أمور الفِكْر، فيدين العالم له، ويوم أن كانت الثقافة في الأرض مقصورة علينا.
يوم أن كان مَن يريد أن يَنهَل من يَنبُوعها: أتانا طوعًا أو كَرْهًا، بدأ فيما عُرِف بعد بالاستشراق، يوم أن كان طلاب العلم من كل فَجٍّ، ومن كل صَقْع يجثون على رُكَبهم في مساجدنا: يتعلَّمون على علمائنا وأئمتنا.
ومرَّ الاستشراق بأدوار مختلفة فيما بعد، ولستُ الآن بصدد التأريخ لهذه الظاهرة التي لا بد من التأريخ لها، ودراسة أطوارها، وتقويمها من وِجْهة النظر الإسلامية، غير أني أُشير في هذه الخاطرة إلى أهمية دراسة ظاهرة الاستشراق، وعُمْق تأثيره في حياتنا الفكرية، وصِلته بالاستعمار والتنصير.
وقد ظهرتْ دراسات عن الاستشراق، وفيها فوائد عدَّة، ولكنها تحتاج إلى مزيد من الدراسة والجرأة في كشْف دوافع هذه الظاهرة.
وقد ازدهر الاستشراقُ في القرن التاسعَ عشرَ الميلادي، وكانت تتفاوت حدة هجومه علينا، كما كان يتفاوت عمقًا وسطحيَّة.
كان يرتدي حينًا ثوبَ الخصومة الصريحة المُعلَنة، فيتعرَّض إلى عقائد المسلمين بالتشكيك الواضح، ويتعرَّض إلى أبطالهم العظماء، فيُشوِّه معالمَ صورهم، بالافتراء وإشاعة الأخبار المكذوبة عنهم، والتهم الباطلة، والسب والشتم.. وهكذا.
وكان يرتدي حينًا ثوب الملاينة والحيلة، فيثبت جانبًا حسنًا من ثقافتنا وأخبار أبطالنا، ويضع إلى جانبه الافتراءات المسيئة، ويكون بذلك قد وضع الفخَّ، ورمى فيه بالحَبِّ؛ ليصيد بعض السُّذج من الطلاب والمثقفين.
وكان يرتدي حينًا ثوبَ المناصرة والانحياز - في الظاهر - للمسلمين، فيُقرِّر الفكرة التي تروق للمسلمين، ولكنه يضعها في إطار خبيث يُعطِّل معنى إسلاميًّا مهمًّا، ولنضرب على ذلك مثلاً، يسود لدى عدد من المستشرقين فكرة خاطئة، وهي: أن الإسلام عدوانيٌّ مُتعطِّش للدماء، ويَلَذّ لأبنائه سفْك الدماء وذبْح الناس!!؟:[ كَبُرت كلمةً تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا]، فيأتي مُستشرِق ليدفع هذه الفِرية، فيقول: إن الإسلام لا يُقِر الحربَ، وما الحروب التي خاضها المسلمون إلا دفعٌ لعدوان المعتدين.
فيُعطِّل بذلك ركنًا عظيمًا هو: الجهاد في سبيل الله، ويتناسى هذا القائل أن الإسلام دعوة ورسالة، وأن حملته مطالبون بأداء هذه الرسالة؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" بلِّغوا عني ولو آية"؛ ، ويقول صلى الله عليه وسلم:" أُمِرت أن أقاتل الناسَ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصَموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى".
إنني أدعو المفكِّرين وأصحابَ القدرات من المسلمين: أن يَعمِدوا إلى ظاهرة الاستشراق، فيَدرسوها دراسةً هادئة موضوعيَّة موثَّقة؛ ذلك لأن الأحكام عندما تُدرَس عن حماسة مُلتَهِبة، وتُعرَض بلهجة خطابيَّة تَفقِد الكثيرَ من قيمتها الحقيقية، ولو كانت هذه الأحكام صحيحة.
إنني أتطلَّع إلى دراسة تقويميَّة لإنتاج المستشرقين ولأهدافهم ومقاصدهم تنتهي إلى أحكام مَدعومة بالدليل، مؤيَّدة بالبرهان، حتى يكون قَبُولها لازمًا لا مَحيص عنه، وهذه الدراسة من أهم ما يُطالَب به الفِكْر الإسلامي المعاصر.
هناك جوانب إيجابيَّة نافعة في الاستشراق: أَفدنا منها في ثقافتنا، لا نُنكِرها ولا نُغفِلها، ولكن ينبغي أن ننظر إلى ظاهرة الاستشراق من الجوانب كلها؛ لأن أي ظاهرة مهما كانت سيئة: لا تخلو من منفعة، فالخمر التي هي: أم الخبائث قال الله في حقِّها: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ﴾.
وليس في الدنيا شرٌّ مُطلَق، ولا ضرر مَحْض، ولكن تَنطِق الحكمة التي يُنادي بها الشرع، وتقضي بها المصلحة: أن نُوازِن بين منافع الشيء ومضارِّه، فنأخذ ما رجَحت منافعه: ما لم يَرِد تحريمه في الكتاب والسنة.
وليكون كلامنا واضحًا نقول ما يأتي:
إن الاستعمار شيء سيئ، وهو فاسد ومُفسِد، ومع ذلك، فلم يَخْلُ من بعض المنافع التي حقَّقتها البلاد التي وقعت في شِباكه من: إنشاء الطرق، وتنظيم البيوت والعقارات.. ونحو ذلك، ولكن ضرره أكبر من نَفْعه، وكذلك الاستشراق لا يخلو من عدد من المكاسب حصل عليها المسلمون، ولكن يجب أن ننظر إلى الموضوع بكثير من الحَذَر واليقظة، ألم تكن الخِدْمات الطبية في كثير من بلاد المسلمين مُسخَّرة لخدمة التنصير!!؟.
ألم تكن الطرق الحديثة في معالجة القضايا العلمية: فِخاخًا لتَصرِف بعضَ المسلمين عن دينهم!!؟.
ألم تهتم الدراسات الاستشراقيَّة بالأفكار المنحرِفة: كالتصوف حتى كتب مستشرق فرنسي كتابًا عن الحلاج بعنوان:(عصر الحلاج)، وكذلك شأن الاعتزال والأفكار المنحرِفة التي تقول بها بعض الفِرَق، بل تقول بها بعض النحل والمِلَل، وهذا خطر كبير!!؟.
إن الضعف الذي يُعاني منه المسلمون اليوم، والغزو الفِكري العنيف الذي تَعرَّضوا له من قِبَل الحضارة الأوروبيَّة المعاصرة - جعل عددًا من المفاهيم تتبدَّل؛ حتى أصبحنا نرى بعض المثقفين يُعلِن أنه لا يَثِق بعلم عالم من أمتنا إلا إن جاء به من عند هؤلاء الأعداء الكفرة!!؟.
تخيَّل معي - يا أخي - رجلاً في العصور الزاهرة أيام الأئمة الكبار: كالشافعي، وأحمد، والبخاري، ومسلم، ويُذكَر أنه تلقَّى العِلْمَ على أحبار اليهود وقساوسة النصارى، ماذا تكون ثِقَة الناس في ذاك الزمان بعلمه!!؟، وماذا يكون قَبُولهم لما يقول!!؟، وقد انقلب الأمر الآن: كيف يتلقَّى طالب العلم العربيَّة عن الأعاجم الذين لا يُقيمون ألسنتهم بقراءة نصٍّ منها!!؟.
ولماذا نَقبَل أن يدرس أبناؤنا أحكامَ الشريعة وعلوم الحديث والقرآن على علماء اليهود والنصارى!!؟.
إن هذا الوضع الشاذ أصبح هو: الوضع المقبول، وما ذلك إلا بسبب ضَعْفنا السياسي والاجتماعي.
إن مناهج البحث التي أخذناها عن الغرب ينبغي أن نستفيد منها إلى أبعد مدى، ولكن هذا لا يعني أن نقع في عبوديَّة مَقيتة لأعدائنا.
والله سبحانه ولي التوفيق.
••••
وأُحِبُّ أن أذكر بعض الكتب التي بحثت موضوع الاستشراق، ليتوسَّع في الموضوع مَن يريد ذلك، فمنها:

1- المستشرقون؛ نجيب عفيفي، وهو كتاب فيه ذِكْر أسماء عدد من المستشرقين وكله تمجيد لهم، وفيه تَراجِم مُوجَزة لهم، وفيه معلومات ممكن أن يفيد منها الباحث، ويقع في ثلاثة مجلدات.
2- موسوعة المستشرقين؛ عبدالرحمن بدوي، وهو كتاب ذكر فيه عدد من المستشرقين مُرتَّب على حروف المعجم، وفيه دراسة لا بأس بها عنهم، ولكنه يدور في فَلَك التمجيد لهم.
3- مناهج المستشرقين في الدراسات العربيَّة والإسلامية، لعدد من الباحثين، أصدره مكتب التربية العربي لدول الخليج، والمنظَّمة العربيَّة للتربية والثقافة والعلوم، ويَقَع في مجلدين.
4- إنتاج المستشرقين وأثره في الفِكْر الإسلامي الحديث - مالك بن نبي، وهي رسالة صغيرة في بضع وأربعين صفحة من القطع الصغير.
5- الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم؛ مصطفى السباعي، وهي رسالة صغيرة في 67 صفحة من القطع الصغيرة.
6- المستشرقون والإسلام؛ محمد قطب، وهو كتاب كبير يقع في 318 صفحة وهو أجود هذه البحوث.
7- المستشرقون والإسلام؛ عرفان عبدالمجيد، محاولة أوليَّة لتفهُّم الأسس التاريخية لطبيعة العلاقات الفكرية بين الإسلام والغرب.
8- المبشِّرون والمستشرقون في موقفهم من الإسلام - محمد البهي، وهي محاضرة ألقاها في الأزهر ثم طُبِعت في مطبعة الأزهر - منشورات الجامع الأزهر.
9- الاستشراق؛ إدوارد سعيد.


وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

منقول بتصرف يسير.