الكحلوشة(مُجَسَّم كأس أمم إفريقيا)..هل هو لفظ عنصري؟
24-07-2019, 08:36 PM
شاع خلال الأيام الماضية تَسميةُ المُجسَّم الذّهبي لكأس إفريقيا للأمم بالكَحلوشة، ولفظ "الكَحلوشة" في الكلام الجزائري يعني السوداء، ويقابلها في المُذكَّر "الكَحْلوش"، وقد عَدَّ بعضُ الإعلاميّين هذا اللفظَ عُنصُريًّا، ودَعَوا إلى عدم تبنّيه وعدم تسويقه إعلاميًّا، فهل تُعدُّ هذه التَّسمية عُنصريّةً؟
بدايةً أقول إنَّ لفظ "كَحلوش" على وَزنٍ معروفٍ في العربيةِ، ومنه : زَيتون، وفي المفرد زيتونة، وَلَيمون، والواحدةُ لَيمونة، فهذا البناء ليس غريبًا على مجاري العربية، ومن الأسماء المشهورة عند العرب نهرُ جَيحون، ونهر سَيحون، وبهما سُمِّيَت بلادُ ما وراء النَّهر بهذا الاسم.
ولفظ "كحلوش" مأخوذ من مادة "كحل"، وعند استنطاقنا مُعجَم لسان العرب فإنّه يقول لنا أشياء كثيرة عن هذه المادة، ومنها:" الكَحَلُ مَصدر الأَكْحل والكَحلاءِ من الرجال والنِّساء، قال ابن سِيدهْ: والكَحَلُ في العَيْن أن يَعلُوَ منابتَ الأشفارِ سَوادٌ مثلُ الكُحل مِن غيرِ كَحْلٍ، رَجلٌ أَكحَل بَيِّنُ الكَحَل وكَحيلٌ وقد كَحِلَ، وقيل الكَحَلُ في العَين أن تَسْوَدَّ مَواضِعُ الكُحْل، وقيل الكَحْلاء الشَّديدة السَّواد، وقيل هي التي تراها كأنَّها مَكحولةٌ وإن لم تُكْحَل...الكَحلُ بِفتحتَيْن: سَوادٌ في أَجفانِ العَيْن خِلقةً...والكَحْلاءُ مِن النِّعاج: البيضاءُ السَّوداءُ العَيْنَين...والكَحْلةُ خَرزةٌ سَوداءُ تُجعَلُ على الصِّبْيان، وهيَ خرزةُ العَيْن والنَّفْس تُجعَلُ مِن الجِنِّ والإِنس...واكْتَحلتْ الأرضُ بالخُضرةِ وكَحَّلتْ وتَكَحَّلتْ وأَكْحَلتْ واكْحالَّتْ: وذلكَ حينَ تُري أوَّلَ خُضرةِ النَّبات...وكَحْلةُ مِن أسماء السَّماءِ".
تلكَ بعضُ المعاني التي تُحيلُ إليها مادة "كحل"، والملاحظُ فيما أوردتُه أنّ الألفاظَ المشتقَّةَ من المادةِ المذكورةِ كثيرًا ما تُعبِّر عن معنى الجَمال، فَكَحلُ العَين جمال، ومنه الأَكحلُ والكَحلاء، و"اكْتَحَلت الأرضُ" يُعبِّر عن منظرٍ جميل، ووردَ في اللسان أيضًا :"الكَحلاءُ عُشبةٌ رَوضيَّةٌ سَوداء اللونِ ذاتُ وَرَقٍ وقُضُبٍ...لا يَرعاها شيءٌ ولكنَّها حَسنةُ المَنظَرِ". وفي كلامنا الدَّارج نقول للمرأة السَّوداء "كَحْلة"، وللرجلِ أسود البشرةِ "كْحَلْ"، إمّا وَصْفًا له بلونِ بَشرته، أو تعبيرًا عن جمال المرأة الموصوفةِ، ونادرًا ما يكونُ مِن باب الازدراء والتَّحقير، ونستَعملُ في كلامِنا أحيانًا لَفظ "أسْمر وسَمراء" للدلالة على المعنى نفسِه.
وجاءَ في المصباح المنير:"والعربُ تُسمِّي الأَخْضَر أسوَدَ لأنه يُرى كذلكَ على بُعد، ومنهُ سوادُ العراق لِخُضرةِ أشجاره وَزُروعِه، وكُلُّ شَخصٍ من إِنسانٍ وغَيرِه يُسمَّى سَوادًا، وجمعُهُ: أَسوِدةٌ...والأَسْوَدان: الماءُ والتَّمرُ"، فالعرب سمَّت الأخضر على جماله بالأَسود، والإنسان يسمى سوادًا، لأنه إذا قدم من بعيد يبدو أسوَد، فاستعمال هذا اللفظ، قد يكون للدلالة على معنى الجمال، وقد يكون للدلالة على القُبح، وقد يكون لغير ذلك، ويتوقف ذلك على السياق، مع العلم أنّ لكل لفظ معانٍ مُعجميَّة، كالتي أوردْتُها.
وبعيدا عن المعنى المعجمي لمادة "كحل"، فقد انتقلت الكثير من أسماء الألوان إلى أسماء أعلام، وهي شهيرةٌ عندنا في الجزائر، ومنها : لَكْحَل، لَخْضَر، لَزْرَق، لَحْمَر، لَزْعَر، لَشْهَبْ... وليس في هذه الأسماء التي يتسمَّى بها الجزائريُّون أيُّ حُمولة عُنصُريَّة، فقد انتقلت من دلالةٍ إلى أخرى، وألِفَها النَّاسُ، وقَلَّما يتذكَّرون معانيها الأولى عند استعمالها، ومثلُ هذا أيضا انتقالُ الكثير من الصِّفات الخِلقيَّةِ في العربيةِ إلى أسماء أعلام، مثل: الأعْرَج، ومِن أسماء الجزائريّين "لَعْرَج" ولا شكَّ أنَّه برق في أذهانكم الآن اسم الروائي المعروف واسيني لَعْرَج، ومن الصفات التي انتقلت إلى أعلام "الأعوَج"، ومن أسماء الجزائريّين "لَعْوَج" وهو جزء من اسم الأديبة المعروفة زينب الأَعْوج، ومن الصفات أيضًا الأَقْرَع، ومنّا مَن يتسمَّى بـــ"لَقْرَع"، ومن ذلك "الأبرص" ومن أسمائنا في الجزائر "لَبْرَص"...وفي كل هذه الأسماء لا توجدُ حُمولة تحقيرٍ ، أو استهزاء بالشخص المسمى بها.
والعرب مِن قديم يَتسمَّون بمثل هذه الأسماء، فقد ورد في المصباح المنير:"...ويُصغَّرُ الأسودُ على أُسَيد على القياس، وعلى سُوَيْد أيضًا على غيرِ قياس...ومنه سُوَيْدُ بنُ غَفَلة"، وِمن أسماء الصحابة المقداد بن الأسوَد، ومن العلماء المشهورين في تاريخ العربية أبو الأَسود الدُّؤلي، وخَلف الأَحمر، وإنك إذا تصفَّحتَ أي كتاب من كُتُب التراجم، ستَجد الكثير من العلماء لُقّبوا بصفاتٍ عُرفوا بها، أو بِعيوبٍ خلقيَّةٍ، أو بِمِهَن مارسوها، وصارت هذه الألقاب أشهر من أسمائهم، وقَبِلوها مثلما قبلها الناس عنهم، ولم يُتَّهم فيها أَحد، إذ الظاهر أنَّها كانت مفيدةً جدًّا على صعيد التفرقة بين أسماء العلماء المتشابهة وهي كثيرة جدًّا، ومن ذلكَ الجاحظ (الجاحظ هو بارز العينين)، الأعلَم الشنتمري (الأعْلَم هو مشقوق الشفة العُليا)، ومِن أصحاب المعلَّقات الأَعشى (ضعيف البصر ليلًا)، وكانت العربُ أيضًا تُسمي الروم بني الأصفر.
فليس في تسمية إنسانٍ باسم لونٍ ما أيُّ عنصريَّة أو إساءة، فهي أسماء تداولَها الناسُ مِن قديم، وماذا نقول عن بَلدٍ برُمَّته قد سُمِّي نسبةً إلى لَون بشرةِ أهله، وهو السُّودان، وَورد في معجم المعاني الجامع:" السودان: جمع أسوَد...جيلُ الناسِ سودُ البَشرة واحدُه والنسبةُ إليه سودانيٌّ".
وجاء في مروج الذهب للمسعودي باب:"ذكرُ السودان وأنسابهم واختلاف أجناسهم وأنواعهم، وتباينهم في ديارهم، وأخبار ملوكهم" وقال:"ولما تفرق ولد نوح في الأرض سار ولد كوش بن كنعان نحو المغرب حتى قطعوا نيل مصر، ثم افترقوا فسارت منهم طائفةٌ مُيمِّنة بين المشرق والمغرب وهم النوبة والبجة والزنج، وسار فريق منهم نحو المغرب وهم أنواعٌ كثيرة نحو الزغاوة والكاتم ومركه وكوكو وغانة وغير ذلك من أنواع السودان"، وهو يقصد بالسودان السُّود، وقال في موضع آخر:" وقد أتينا على ذِكرِ جميع أجناس السُّودان وأنواعهم ومساكِنهم ومواضعها من الملك، ولأية علَّة تَفلفلت شُعورهم واسودَّت ألوانُهم...".
فهل سمعنا يومًا أنَّ أهل السُّودان استاؤوا من تسمية بلدهم بهذا الاسم، أو عَدُّوا هذا الاسم سفيرًا للعُنصرية؟ وهل الأُمم التي تدعو السودان باسمه المعروف من قديم، تفعلُ هذا عُنصُريَّةً وعصبيَّةً للونٍ على لَون؟
فالاسم وإن دلَّ دلالةً ظاهرة صريحة وقويَّةً على جنس من الناس سودِ البشرة، فإنه لا يدلُّ بالضرورة على سلوكٍ عُنصُريٍّ ألبَتَة، ولا يعني هذا أنَّ استخدام هذا اللفظ أو غيره يكون دائمًا خاليًا من شُحناتٍ عُنصريَّةٍ، لأنَّ اللفظَ لَفظٌ، ومُستَعمِلُه هو الذي يُعطيه دلالتَه، والتمييزُ العُنصري على أساس اللون أو العرق سلوكٌ فعليٌّ كما قد يكون سلوكا قوليًّا، وقد رأينا هذا كثيرا في الملاعب الأوربية وغيرها، حيث أسيء للاعبين أفارقة بعبارات وهتافات، لأنهم سودٌ فقط.
وفي الوقت الذي لا يُعَدُّ اسم السودان الدالُّ على البلَد المعروف به تحقيرًا لأهله، أو إنقاصًا لشأنهم لأنهم سود، اِحتَجَّت منغوليَا على نسبةِ مرضٍ إلى اسمها، وهو مرض متلازمة داون، حيث كان يسمى المصاب به بـالمنغولي mongolien (باللغة الفرنسية)، وعندما نعود إلى موسوعة ويكيبيديا بالفرنسية نقرأ التالي: "L'adjectif mongolien peut indiquer un rapport avec : la Mongolie, un pays d'Asie; le mongolisme, une maladie génétique" ،
أي أنَّ صفة : "منغولي" قد تدلُّ على المنتسِب إلى بلد منغوليا، وقد تدلُّ على المنغوليَّة ( le mongolisme) وهو مرض جينيٌّ ، ونجد في الموسوعةِ نفسها:
"La trisomie 21 est également appelée mongolisme mais ce terme, bien qu'encore utilisé familièrement, est considéré aujourd'hui comme désuet et pejorative"
أي أنَّ هذا اللفظ عندما يُطلقُ على هذا المرض صارَ غير مرغوبٍ فيه ويدلُّ على احتقار شعبٍ بأكمله، وقد ورَد في موقع جريدة الرياض السعوديَّة (الأربعاء 24 جمادي الأخر 1430هـ - 17 يونيو 2009م - العدد 14968) ما يلي: كانت التسمية التي تطلق على هؤلاء الأطفال المنغولي لميَلان في العين يشبه ذلك الموجود لدى أهالي الشرق عموماً، ولقد قامت دولة منغوليا الموجودة في وسط آسيا بالشكوى لدى الأمم المتحدة ضد هذه التسمية، ولقد وافقت الأمم المتحدة والجمعيات التي تعنى بهؤلاء الأطفال على تغيير الاسم، ومنذ السبعينيات الميلادية أصبح يطلق عليهم «أطفال متلازمة داون» في جميع أنحاء العالم، ونحن نناشد الجميع على عدم أطلاق هذه التسمية عليهم، واستخدام مسمى أطفال متلازمة داون، مع وجود الصعوبة في هذا الاسم، ولكن تعويد الناس على ذلك قد يستغرق بعض الوقت. وهو وصف لمجموعة من الأطفال يشتركون أو يتشابهون في صفات جسمية متعددة، هذه الصفات تتواجد بكاملها في بعض الأطفال، إلا أن هناك أطفالا لا يملكون إلا بعضاً منها وتحدث في كل مكان في العالم وتؤثر في كل الأعراق فهي بلا جنسية، وبإجراء الإحصائيات وجد أن متلازمة داون تحدث لطفل واحد من بين ٨٠٠ مولود حي (مهما كان عمر الوالدين) وقد لوحظ أنه كلما زاد عمر الأم زادت احتمالية حدوثها".
وما يُؤْسَف عليه أنّ الكثير من الجزائريّين لازالوا يستعمِلون هذه التسمية القديمة المؤذية لشعبٍ بِأسرِه، للدلالة على هذا المرض.
يحدُثُ هذا بينما لا يُشكِّل اسم السّودان أيَّ حرجٍ أو مشكلة لأهل السُّودان، لأنَّه خالٍ من أي شُحنةٍ عُنصرية أو تحقيريَّةٍ، ومثلُ هذا يُقال في تسمية الدول الواقعة جنوب القارة الإفريقية بــ"إفريقيا السَّوْداء"، دلالةً على أنَّ أغلبَ سُكانها سودٌ، وليس احتقارًا لهم، أو استعلاءً عليهم.
وبناءً على كلِّ ما سَلفَ فإنّي أرى أنَّ تسمية الجمهور الجزائري مُجسَّم كأس إفريقيا بالكَحلوشة، لا يحمل أيّ دلالةٍ عنصريَّة، ذلكَ أنَّ التسمية التي يُراد من توظيفها تمييزٌ عُنصُريّ، أو احتقارٌ للآخرين، لا تَخلو من مشاعر الكُره، والنفور، والاستعلاء، وليس الأمرُ كذلكَ هنا، فالجمهور الجزائري يعشقُ الفوزَ بكأس الأمم الإفريقية، ويُحبُّ مُجسَّم الكأس، وقد رسموه في أماكنَ كثيرة في شوارعهم، واتخذوا مجسّمات مقلِّدة له، فكيف يُسمُّون شيئا يُحبُّونه بهذا الشَّكل باسمٍ مكروه لديهم، أو باسم يحمل مشاعر النفور، فهل يكرهون الكأس حتى يُسمُّوها بالكحلوشة؟ ما رأينا قطُّ أحدًا يُسمي شيئًا يُحبُّه باسمٍ يَكرهُه؟ بل حتّى الكلاب والحيوانات يحرص أصحابُها على تسميتها بأسماء مقبولة لا تنفر منها نفوسُهم، والذي أراه أنَّ الجُمهور الجزائريَّ تبنَّى هذه التَّسميةَ على التغليب، لأنَّ أغلب سكان الدُّول الإفريقية سود، وقد ظهرت في المقابل تسمية أخرى لمُجسَّم كأس العالم وتُدُووِلَتْ في مواقع التواصل الاجتماعي، وهي: البَيضاء (اَلْبلُونْدا) على التغليب أيضًا.
ولا نُغفِلُ أنَّ عددًا كبيرا من الجزائريين سودُ البشرة، يقطُن أغلبهم في جنوب البلاد، وما رأيْنا قطُّ تمييزًا على أساس اللون عند الجزائريين لا في شمال البلاد ولا في جنوبها، والكلُّ في وئامٍ، بل تعوّدنا على أن ينسبَ بعضُنا بعضًا إلى ولايتِه، أو إلى المنطقة التي ينتمي إليها، فنقول هذا دْزيري، أو شَلْفاوي، أو صحراوي، أو قبائلي،أو وهراني، وهكذا...لكنَّنا لا ننسبُ أحدًا إلى لَونه، فالجزائريُّون إلَّا ما ندُرَ بعيدون عن السُّلوكِ العُنصُريّ.
وختامًا فإنّي أُحيّي الصُّحفي فريد معطاوي الغيور على اللغة العربية، الذي رأى أنّ للتسمية دلالة عُنصريَّة، وطالب أن لا يتبنّى الإعلامُ هذه التسمية، وهذا يدلُّ على وعيه التام بأهمية الإعلام في تسويق الألفاظ، وعليه فإنه لا مندوحةً لكلِّ صُحفيٍّ يكتُب أو ينطق بالعربية عن تكوينٍ لُغويٍّ مقبول في اللغة العربية، فقد صارت الكثير من وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة حربًا على العربيَّةِ وهي وسيلتُها في التبليغ، ولا أدري كيف تزعمُ بعضُ تلك الوسائل الاحترافيةَ، بينما لُغتُها العربية رديئةٌ مُثقلة بالأخطاء!
حامدي عبد العزيز