الفصام النّكد بين التّربية والتّعليم
17-09-2018, 09:46 AM
الفصام النّكد بين التّربية والتّعليم
سلطان بركاني


توالت الأيام وتتابعت الشّهور، وها هو فصل الصّيف قد ارتحل، انقضت أيامه، وانقضت معها إجازةٌ هي أطول الإجازات، وها نحن هذه الأيام على موعد هام يشغل الصغير والكبير والذكر والأنثى، إنّه موعد الدخول المدرسيّ، موعد نريد أن نبعث معه برسائل إلى أبنائنا التلاميذ والطّلبة وإخواننا المعلمين والأساتذة والأولياء.
من حقّنا أن نفرح ونسرّ، ونحن نرى جموع التلاميذ والطّلبة يخرجون كلّ صباح متوجّهين إلى المدارس والثّانويات والجامعات، ولكنّه يحقّ لنا أيضا أن نحزن عندما نتذكّر واقع التّعليم في هذا البلد، ويحقّ لنا أن نأسى عندما نتساءل عن النّتائج التي ترجى من تلك الجموع، ماذا سنقول، وقد صار التعلّم لهدف واحد ووحيد هو:" الحصول على الشهادة والوظيفة!!؟".
لم يعد مهمّا لدى كثير من أبنائنا: أن يكون الواحد منهم وعاءً للعلم في آدابه وأخلاقه، ولا أن يحصّل ما هو مقرّر عليه تحصيله، المهمّ: أن ينتقل من سنة إلى أخرى، وإن اقتضى ذلك منه: أن يستخدم كلّ الأساليب المباحة وغير المباحة!!؟، حتى صرنا نسمع ونقرأ على صفحات الجرائد بطلبة يهدّدون أساتذتهم ويتوعّدونهم، بل ربّما يمدّون أيديهم بأذيتهم!!؟.
مظاهر وأحوال كثيرة نرى عليها أبناءنا التلاميذ والطّلبة، تزداد سوءًا عاما بعد عام، في:" ظلّ انحراف الإصلاحات المزعومة إلى وجهة أخرى غير وجهة الإصلاح الحقيقيّ والشّامل"؛ تتحمّل القسط الأكبر من مسؤوليتها الوزارة الوصية، لكنّ الأولياء والمعلمين والأساتذة والمراقبين، يتحمّلون بدورهم مسؤولية خطيرة إزاء هذا الانحدار المطّرد.
فيا أيها الآباء والأمهات: إنّكم مسؤولون بين يدي الله عن هذه المظاهر المزرية التي نراها كلّ عام.. مسؤولون بين يدي الله عن أبنائكم وبناتكم.. ليس الكراس والقلم هو: نهاية المطاف، وإنّما لا بدّ من متابعة ومراقبة ونصح متواصل، وزجر وتأنيب كلّما بدر خطأ مهما كان بسيطا.. كثير من الآباء هدانا الله وإياهم: لا يعلم الواحد منهم عن حال بناته وأبنائه المتمدرسين شيئا، لا يعلم إن كان أبناؤه يقضون ساعات اليوم في المدارس أم في الخلوات!!؟، لا يهمّه ولا يضرّه أن تتعرّض بناته في طريق المدرسة للمضايقات والتحرّشات، لا يسأل أبناءه عن دراستهم، ولا يسأل بناته عن مشاكلهنّ في المدرسة وفي طريقها، المهمّ عنده أن يشتري الكرّاس والقلم، وألا يثقل أبناؤه كاهله بكثرة الطّلبات.
وأنتم أحبّتنا المعلمين والأساتذة: إنكم أيضا مسؤولون بين يدي الله عن هذه المظاهر التي شوّهت صورة التّعليم ورسالته: نقل الدّروس من الكتاب إلى السبورة ومنه إلى الكراسات ليس هو الهدف، أنتم أصحاب رسالة، وأنتم مربون قبل أن تكونوا أساتذة ومعلمين.
أخي المعلم.. أخي الأستاذ: إذا كنت تدخّن، فتلاميذك سيتعاطون المخدرات، وإذا كنت لا تحترم الوقت ولا تتقي الله فيما تتقاضاه من راتب، فلا تنتظرْ من تلاميذك إلا العقوق والكلام الفاحش والبذيء..
إذا كنت لا تكلف نفسك عناء البحث والاجتهاد لتطوير قدراتك في الإلقاء وإدارة الدروس لتحبب الحصص إلى تلاميذك وتجعلها متعة لا سجنا موحشا، وإذا كان لا يهمك أن تثمّن معلوماتك وتبحث عن الجديد كلّ عام، فإنّك ستكون حملا ثقيلا على طلبتك وتلاميذك.. ينبغي ألا تنسى أبدا: أنّك صاحب رسالة، ولست مجرّد موظف.
إنّ الشهادة ليست هي الهدف الأوحد عند من يحمل عقيدة بين جنبيه، إنّ الهدف ليس أن نُخرّج أطباء ومهندسين بغض النظر عن الهمّ الذي يحملونه، لقد أصبح أبناء المسلمين وللأسف: يتربون إلا من رحم الله منهم على أنّ الشهادة هي الهدف، أليس الأب يقول لولده:“ اجتهد يا بنيّ وراجع دروسك حتى تكبر وتصير مهندساً، ادرس حتى تكون الأول في قسمك!!؟". من الذي يقول لولده الآن:“اجتهد في دراستك يا بنيّ لتخدم دينك وأمتك!".
إنّ الهدف من التعليم هو: أن نربي جيلاً يفخر بدينه، وينافح ويدافع عنه، وينشره في العالمين: إن كان طبيباً في عيادته، أو مهندساً في مصنعه، أو معلما في مدرسته، لا أن نربي جيلاً مهزوز العقيدة، لا قيم لديه ولا هدف، دينه هو: ديناره!!؟.
إنّ الإسلام في أمسّ الحاجة إلى الطبيب المسلم العفيف الذي يكون أميناً على أرواح الناس وأعراضهم، وإلى الأستاذ الذي يحمل رسالة وهدفا بين جنبيه، وإلى الموظّف الأمين الذي يجتهد ويفرح بقضاء حوائج إخوانه المسلمين، وإلى التاجر الأمين الذي يثق به الناس وببضاعته، تماما كما هو في حاجة إلى العالم في الشرع البصير بدين الناس ودنياهم.
كم نفرح حين نقرأ على صفحات الجرائد عن ممرضة في دولة مسلمة أسلمت على يديها مائة امرأة، وكم نفرح حين نسمع: أنّ طبيباً مسلما أسلم على يديه عشرات من زملائه في المستشفى، وهذا الطبيب ليس عالماً، ولا طالب علم، بل هو إنسان عادي، ولكنّه مسلم يجري في عروقه ودمه حبّ هذا الدين، والفخر والاعتزاز بالانتساب إليه.
وكم نحزن حين نسمع عن أطباء في المستشفيات لا يسمع منهم المرضى إلا السّباب وساقط الكلمات، وكم نحزن حينما نقرأ عن أساتذة في الجامعات يبيعون النّقاط بدنانير معدودات، وكم نحزن حين نسمع: أنّ بعض القضاة والمحامين قد استباحوا الرّشوة وتفنّنوا في أشكالها.
إنّنا مدعوون جميعا: أولياء وأساتذة ومديرين، لأن نسعى إلى إحياء العلاقة بين التّربية والتّعليم وتوطيدها، ونسعى لإيجاد تعليم رساليّ، يزاوج بين التمسّك الحقيقيّ والفعليّ بالمبادئ وعناصر الهوية، وبين تطوير وترقية البرامج والمناهج تطويرا حقيقيا نلمس أثره في واقع مدارسنا وواقع التلاميذ والطّلبة الذين يتخرّجون من تلك المدارس وفي مراتبنا التي نحتلها في التّصنيفات العالمية التي تفجعنا كلّ عام بإدراج تعليمنا في ذيل القوائم التي ترصد جودة التّعليم في العالم.