موقعة ماريتزا الأولى
29-04-2021, 12:11 PM


بدأ مراد الأوَّل حكمه بالسيطرة على مدينة أدريانوبل Adrianople البيزنطيَّة، وكان ذلك على الأغلب في السنة نفسها التي بدأ فيها حكمه؛ أي في عام 1362م[1]، وقد غيَّر اسمها إلى إدرنة Edirne...

انتهج مراد الأول بعد ذلك سياسةً واضحةً تبغي السيطرة السريعة المنظَّمة على البلقان قبل أن يفيق البيزنطيون من سقوط إدرنة، وقبل أن يفيق الصرب من اضطراب مُلْكِهم بعد موت مَلِكِهم الأعظم دوشان؛ تطلَّبت هذه السياسة عبور نهر ماريتزا Maritsa river في عام 1363م[2]؛ أي بعد عامٍ واحدٍ من ولايته، وهذا النهر يُمثِّل الحدود الفاصلة بين تركيا واليونان الآن. اعتبر زعماء أوروبَّا أن هذا تصعيدٌ خطرٌ من مراد الأول؛ إذ كان هذا يعني أنَّ الجيوش العثمانية لن تكتفي بحرب الدولة البيزنطيَّة في منطقة الأناضول والقسطنطينية؛ بل ستسعى إلى أملاكها في البلقان، وستُتْبِع ذلك بالممالك التابعة للصرب. لم ينتظر مراد الأول ردود فعل الأوروبيين؛ إنَّما انطلقت جيوشه في عدَّة اتجاهاتٍ في آنٍ واحدٍ لتفتح عدَّة مدنٍ استراتيجيَّةٍ في شرق اليونان وبلغاريا.

في غضون شهور من عام 1363م تمكَّن العثمانيون من فتح مدينتي فيليبه[3] Filibe (الآن بلوڤديڤ Plovdiv)، وستارا زاجورا[4] Stara Zagora، وهما في بلغاريا الآن، و-أيضًا- مدينتي كوموتيني Komotini، وألكسندروبوليس[5] Alexandroupolis على بحر إيجة، وهما في اليونان الآن. كان النجاح كبيرًا، ومزعجًا جدًّا للإمبراطور البيزنطي چون الخامس، خاصَّةً أنَّ مدينة فيليبه كانت هي المصدر الرئيس للحبوب والغذاء الذي يمدُّ القسطنطينية باحتياجاتها[6]، كما أنَّ هذه الفتوحات عزلت القسطنطينية تمامًا عن الغرب، ولم يعد ممكنًا أن يصل إليها أحدٌ برًّا عبر أوروبَّا، إنَّما صار الوصول إليها بحريًّا فقط!

أدَّت هذه الفتوحات السريعة إلى فزعٍ بيزنطيٍّ كبير؛ وتجاوز الإمبراطور كلَّ التوقعات؛ حيث قرَّر أن يطلب المساعدة من البابا الكاثوليكي في روما في مقابل أن يُوَحِّد الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية، وهذا يعني تخليه عن مذهبه الأرثوذكسي[7]!
تحرَّك البابا أوروبان الخامس Urban V ببطء، فلم يستجب له بجدية من الدول الكاثوليكيَّة إلَّا المجر، فتكونت حملة صليبية شاركت فيها بقوة الدول الأرثوذوكسيَّة، مثل صربيا، وبلغاريا، ورومانيا، وانضمَّت إليهم البوسنة، وتوجَّهت الجيوش صوب إدرنة[8].

في عام 1364م ارتطم الجيش العثماني بالجيوش الصليبيَّة على ساحل نهر ماريتزا على بعد خمسة عشر كيلو مترًا فقط من إدرنة، وكانت المعركة في اتِّجاهٍ واحد؛ إذ استطاع العثمانيُّون حسم المعركة بسرعة، وانكسرت جيوش الصليبيِّين انكسارًا كبيرًا، وفقد الصرب معظم جيشهم إلى الدرجة التي عُرفت فيها الموقعة في التاريخ بمعركة «صرب صنديغي» Sırp Sındığı؛ أي هلاك الصرب[9]! وهذه المعركة هي التي أعطت العثمانيِّين الفرصة لدخول البلقان كلِّه، والقتال ضدَّ جيوش الصرب والرومان والبلغار والمجر؛ إذ إنَّهم بدءوا المسلمين بالحرب، فصارت هذه المعركة المسوِّغ الشرعي، والواقعي، لوجود العثمانيِّين في منطقة البلقان.

تُعرف هذه الموقعة بموقعة ماريتزا الأولى، نسبةً إلى نهر ماريتزا، وقد سُمِّيت الأولى لأنَّ هناك معركةً ثانيةً ستحدث في المكان نفسه بعد سبع سنوات؛ حيث سيسعى الصرب للانتقام لأنفسهم من الهزيمة الثقيلة.

وتُعَدُّ هذه المعركة الكبرى امتدادًا للحروب الصليبيَّة الأوروبيَّة ضدَّ الأمَّة الإسلاميَّة، والحروب الصليبيَّة هي الحروب التي يُعْلَن فيها الدافع الديني بشكلٍ صريح، كما أنَّها تأخذ الطابع الأممي؛ حيث تتجمَّع عدَّة دولٍ نصرانيَّةٍ لحرب المسلمين، وكانت آخر الحروب الصليبيَّة هي الحملة السابعة على مصر في سنة 1248م[10]؛ أي قبل هذه المعركة بـ 116 سنة، وإن كانت هناك حملة صليبيَّة ثامنة على تونس في سنة 1270م[11][12]، فإذا عددناها من الحملات الصليبيَّة فإنَّه قد مرَّ عليها 94 سنة، فهذه عودةٌ من جديدٍ إلى الحروب الصليبيَّة بعد قرابة المائة عام، وسوف نرى أنَّ هذا الطابع الصليبي الأممي سيتكرَّر كثيرًا مع الدولة العثمانيَّة؛ حيث ستتحمَّل وحدها عبء صدِّ الهجمات الصليبيَّة، سواءٌ القادمة من أوروبا الشرقيَّة أم الغربيَّة.
كانت هذه المعركة سببًا في تغيير موازين القوى في شرق أوروبَّا بشكلٍ كبير؛ حيث صارت الدولة العثمانيَّة هي القوَّة الأولى بلا منازعٍ حقيقي...

فتحت هذه المعركة الطريق لمراد الأوَّل لكي يطرق على الحديد وهو ساخن، فقرَّر الانسياح في البلاد البلقانيَّة غربًا، وعدم الاكتفاء بالتحرُّك في الأراضي التي كانت تابعةً للدولة البيزنطيَّة؛ بل غزو بلاد الصرب، وما يتبعها من أقطارٍ في غرب البلقان، والوصول إلى مسافاتٍ بعيدةٍ جدًّا عن مركز العثمانيِّين الرئيس في إدرنة. ومع ذلك فهو لم يبدأ في هذه الحملات البعيدة إلَّا بعد أن أجبر الإمبراطور البيزنطي على قبول التبعيَّة له، ودفع الجزية[13]، وبذلك اطمئنَّ إلى حماية ظهره أثناء حملاته الأوروبيَّة[14].



[1] Gökbilgin, M. Tayyib: Edirne, In: Gibb, Hamilton Alexander Rosskeen; Kramers, Johannes Hendrik; Lewis, Bernard; Pellat, Charles; Schacht, Joseph & et al.: The Encyclopaedia of Islam, E. J. Brill, Leiden, Netherlands, 1965., vol. 2, p. 683.
[2] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، صفحة 1/98.
[3] آق كوندز، أحمد؛ وأوزتورك، سعيد: الدولة العثمانية المجهولة، وقف البحوث العثمانية، إسطنبول، 2008م. صفحة 68.
[4] سرهنك، إسماعيل: حقائق الأخبار عن دول البحار، المطابع الأميرية، بولاق، مصر، الطبعة الأولى، 1312هـ=1895م.صفحة 1/491.
[5] أوزتونا، 1988 صفحة 1/98.
[6] Shaw, Stanford Jay: History of the Ottoman Empire and Modern Turkey: Empire of the Gazis: The Rise and Decline of the Ottoman Empire, 1280–1808, Volume I, Cambridge University Press, New York, USA, 1976., vol. 1, p. 18.
[7] رستم، أسد: الروم في سياستهم وحضارتهم ودينهم وثقافتهم وصلاتهم بالعرب، دار المكشوف، بيروت، الطبعة الأولى، 1955م. صفحة 2/247.
[8] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م. الصفحات 130، 131.
[9] Nicolle, David: Armies of the Ottoman Turks 1300-1774, Osprey Publishing, London, 1983., p. 28.
[10] بالار، مشيل: الحملات الصليبية والشرق اللاتيني، عين للدراسات والبحوث الإنسانيَّة والإجتماعيَّة، الهرم-مصر، الطبعة الأولى، 2003م. صفحة 232.
[11] 84. روسو، ألفونص: الحوليات التونسية منذ الفتح العربي حتى احتلال فرنسا للجزائر، نقلها عن الفرنسية ونقحها وحققها وضبطها بأمهات المصادر التونسية وقدم لها بدراسة نقدية: محمد عبد الكريم الوافي، منشورات جامعة قاريونس، بنغازي–ليبيا، 1989م. صفحة 79.
[12] المطوي، محمد العروسي: الحروب الصليبية في المشرق والمغرب، دار الغرب الإسلامي، تونس، الطبعة الثانية، 1982م.صفحة 136.
[13] Necipoğlu, Nevra: Byzantium Between the Ottomans and the Latins: Politics and Society in the Late Empire, Cambridge University Press, New York, USA, ‏2009., p. 128.
[14] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 1/ 102 - 109.