دروس استدراكية..للاخوة الجامية..
14-04-2009, 08:47 AM
ذكر تفصيل القول في التقليد وانقسامه إلى ما يحرم القول فيه والإفتاء به , وإلى ما يجب المصير إليه , وإلى ما يسوغ من غير إيجاب .

[ أنواع ما يحرم القول به ]

فأما النوع الأول فهو ثلاثة أنواع : أحدها : الإعراض عما أنزل الله وعدم الالتفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء . الثاني : تقليد من لا يعلم المقلد أنه أهل لأن يؤخذ بقوله . الثالث : التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل على خلاف قول المقلد , والفرق بين هذا وبين النوع الأول أن الأول قلد قبل تمكنه من العلم والحجة , وهذا قلد بعد ظهور الحجة له ; فهو أولى بالذم ومعصية الله ورسوله .

وقد ذم الله سبحانه هذه الأنواع الثلاثة من التقليد في غير موضع من كتابه كما في قوله تعالى { وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون } وقال تعالى : { وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم } وقال تعالى : { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا } وهذا في القرآن كثير يذم فيه من أعرض عما أنزله وقنع بتقليد الآباء .

فإن قيل : إنما ذم من قلد الكفار وآباءه الذين لا يعقلون شيئا ولا يهتدون , ولم يذم من [ ص: 130 ] قلد العلماء المهتدين , بل قد أمر بسؤال أهل الذكر , وهم أهل العلم , وذلك تقليدهم , فقال تعالى : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } وهذا أمر لمن لا يعلم بتقليد من يعلم .

فالجواب أنه سبحانه ذم من أعرض عما أنزله إلى تقليد الآباء , وهذا القدر من التقليد هو مما اتفق السلف والأئمة الأربعة على ذمه وتحريمه , وأما تقليد من بذل جهده في اتباع ما أنزل الله وخفي عليه بعضه فقلد فيه من هو أعلم منه فهذا محمود غير مذموم , ومأجور غير مأزور , كما سيأتي بيانه عند ذكر التقليد الواجب والسائغ إن شاء الله .

وقال تعالى : { ولا تقف ما ليس لك به علم } والتقليد ليس بعلم باتفاق أهل العلم كما سيأتي , وقال تعالى : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } وقال تعالى : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء } فأمر باتباع المنزل خاصة , والمقلد ليس له علم أن هذا هو المنزل وإن كان قد تبينت له الدلالة في خلاف قول من قلده فقد علم أن تقليده في خلافه اتباع لغير المنزل , وقال تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فمنعنا سبحانه من الرد إلى غيره وغير رسوله , وهذا يبطل التقليد . وقال تعالى : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة } ولا وليجة أعظم ممن جعل رجلا بعينه مختارا على كلام الله وكلام رسوله وكلام سائر الأمة , يقدمه على ذلك كله , ويعرض كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة على قوله فما وافقه منها قبله لموافقته لقوله وما خالفه منها تلطف في رده وتطلب له وجوه الحيل , فإن لم تكن هذه وليجة فلا ندري ما الوليجة , وقال تعالى : { يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا } وهذا نص في بطلان التقليد .

فإن قيل : إنما فيه ذم من قلد من أضله السبيل , أما من هداه السبيل فأين ذم الله تقليده ؟ قيل : جواب هذا السؤال في نفس السؤال , فإن لا يكون العبد مهتديا حتى يتبع ما أنزل الله على رسوله ; فهذا المقلد إن كان يعرف ما أنزل الله على رسوله فهو مهتد , وليس [ ص: 131 ] بمقلد , وإن كان لم يعرف ما أنزل الله على رسوله فهو جاهل ضال بإقراره على نفسه , فمن أين يعرف أنه على هدى في تقليده ؟ وهذا جواب كل سؤال يوردونه في هذا الباب وأنهم [ إن كانوا ] إنما يقلدون أهل الهدى فهم في تقليدهم على هدى .

فإن قيل : فأنتم تقرون أن الأئمة المقلدين في الدين على هدى , فمقلدوهم على هدى قطعا ; لأنهم سالكون خلفهم .

قيل : سلوكهم خلفهم مبطل لتقليدهم لهم قطعا ; فإن طريقتهم كانت اتباع الحجة والنهي عن تقليدهم كما سنذكره عنهم إن شاء الله , فمن ترك الحجة وارتكب ما نهوا عنه ونهى الله ورسوله عنه قبلهم فليس على طريقتهم وهو من المخالفين لهم . وإنما يكون على طريقتهم من اتبع الحجة , وانقاد للدليل , ولم يتخذ رجلا بعينه سوى الرسول صلى الله عليه وسلم يجعله مختارا على الكتاب والسنة يعرضهما على قوله . وبهذا يظهر بطلان فهم من جعل التقليد اتباعا , وإيهامه وتلبيسه , بل هو مخالف للإتباع . وقد فرق الله ورسوله وأهل العلم بينهما كما فرقت الحقائق بينهما , فإن الاتباع سلوك طريق المتبع والإتيان بمثل ما أتى به . [ الفرق بين الاتباع والتقليد ] .

قال أبو عمر (http://www.islamweb.net/ver2/library....php?ids=13332) في الجامع : باب فساد التقليد ونفيه , والفرق بينه وبين الإتباع , قول أبو عمر (http://www.islamweb.net/ver2/library....php?ids=13332) : قد ذم الله تبارك وتعالى التقليد في غير موضع من كتابه فقال : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } } روي عن حذيفة (http://www.islamweb.net/ver2/library...lam.php?ids=21) وغيره قال : لم يعبدوهم من دون الله , ولكنهم أحلوا لهم وحرموا عليهم فاتبعوهم .

وقال عدي بن حاتم (http://www.islamweb.net/ver2/library...lam.php?ids=76) : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب , فقال : { يا عدي ألق هذا الوثن من عنقك , وانتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة حتى أتى على هذه الآية : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } قال : فقلت : يا رسول الله إنا لم نتخذهم أربابا , قال : بلى , أليس يحلون لكم ما حرم عليكم فتحلونه ويحرمون عليكم ما أحل لكم فتحرمونه ؟ فقلت : بلى , قال : فتلك عبادتهم } .

قلت : الحديث في المسند والترمذي مطولا .

وقال أبو البختري في قوله عز وجل : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } أما إنهم لو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم , ولكنهم أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه وحرامه حلاله فأطاعوهم فكانت تلك الربوية* .

وقال وكيع (http://www.islamweb.net/ver2/library....php?ids=17277) : ثنا سفيان والأعمش (http://www.islamweb.net/ver2/library....php?ids=13726) جميعا عن حبيب بن أبي ثابت (http://www.islamweb.net/ver2/library....php?ids=15683) عن أبي ثابت عن أبي البختري [ ص: 132 ] قال : قيل لحذيفة (http://www.islamweb.net/ver2/library...lam.php?ids=21) في قوله تعالى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } : أكانوا يعبدونهم ؟ فقال : لا , ولكن كانوا يحلون لهم الحرام فيحلونه ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه .

وقال تعالى : { وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم } فمنعهم الاقتداء بآبائهم من قبول الاهتداء , فقالوا : إنا بما أرسلتم به كافرون , وفي هؤلاء ومثلهم قال الله عز وجل : { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم } وقال تعالى معاتبا لأهل الكفر وذاما لهم : { ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين } وقال { وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا } ومثل هذا في القرآن كثير من ذم تقليد الآباء والرؤساء , وقد احتج العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها ; لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر , وإنما وقع التشبيه بين المقلدين بغير حجة للمقلد , كما لو قلد رجلا فكفر وقلد آخر فأذنب وقلد آخر في مسألة فأخطأ وجهها كان كل واحد ملوما على التقليد بغير حجة ; لأن كل ذلك تقليد يشبه بعضه بعضا وإن اختلفت الآثام فيه , وقال الله عز وجل : { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } .

قال : فإذا بطل التقليد بكل ما ذكرنا وجب التسليم للأصول التي يجب التسليم لها , وهي الكتاب والسنة وما كان في معناهما بدليل جامع , ثم ساق من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { إني لا أخاف على أمتي من بعدي إلا من أعمال ثلاثة , قالوا : وما هي يا رسول الله ؟ قال : أخاف عليهم زلة العالم , ومن حكم جائر , ومن هوى متبع } وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما : كتاب الله , وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم (http://www.islamweb.net/ver2/library..._no=34&ID=221#) } " .


الشبكة الاسلامية
منقووول للعلم والفائدة
ربي لا تجعلنا من الذين ضل سعيهم في الحياة الدُنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا."