تسجيل الدخول تسجيل جديد

تسجيل الدخول

إدارة الموقع
منتديات الشروق أونلاين
إعلانات
منتديات الشروق أونلاين
تغريدات تويتر
  • ملف العضو
  • معلومات
أمازيغي مسلم
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 02-02-2013
  • المشاركات : 6,081
  • معدل تقييم المستوى :

    19

  • أمازيغي مسلم has a spectacular aura aboutأمازيغي مسلم has a spectacular aura about
أمازيغي مسلم
شروقي
رد: دعوى وجود اللحن في القرآن الكريم
02-10-2018, 09:42 AM
معجزة القراءات
نعود إلى قضيةِ القراءات التي أقحمها د.موراني وغيره في الكلام على التحريف، وخلطوا بين وجوه القراءات الواردة للقرآن الكريم، وبين نفي التحريف عنه:( هنا).

أمامي الآن عشرات المراجع والأقوال، وقد كنتُ آمل أن يُتَاح لي الوقت لإفراغ ما في جُعْبَتِي بأكمله حول هذا الأمر الذي شَرَّفَنِي الله عز وجل به سماعًا ومشافهة على جَبَلٍ من جبال الرواية والقراءات في عصرنا، وهو:
( علامة مصر ووادي النيل شيخنا المقرئ المجوِّد الراوية: إبراهيم بن علي بن علي بن شحاتة السمنودي)، أَعْلَى الله درجَتَه، عن:( الإمام الضباع، شيخ عموم المقارئ المصرية في زمانه)، بإسناده المعروف في إجازاته.
وشيخنا السمنودي أَعْلَى الله درجَتَهُ مِن شيوخِ عصريِّنا:( الشيخ رزق خليل حبة شيخ عموم المقارئ المصرية سابقًا)، رحمة الله عليه.
ولذا كنتُ آمل أن يسمح لي الوقت والحال بالاستفاضة في هذا الأمر، فهو مما يروق للنفس الكلام حوله، حُبًّا في القرآن العظيم، وطربًا وسعادةً به، ولكنِّي سأختزل الحديث عنه الآن جدًا في نقاطٍ آمل أن تفي بالغرض، وتبقى في النَّفس غُصَّةٌ على عدم القدرة على الاستفاضة فيه الآن، ولعلي لو أطال الله العمر، وأَذِنَ سبحانه وتعالى بالعودة إليه أن أزيده شرحًا وبيانًا، ولله الأمر من قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ.
وبناءً عليه سأقتصر على العناصر الآتية:

أولاً: جوهر المسألة، وفرقٌ مهمٌّ.
بدايةً لابد من التفريق بين أمرين:
الأول: التحريف، والثاني: القراءات.
فالتحريف بإيجازٍ:" نقلٌ عن الأصلِ الواردِ، سواءٌ أكان هذا النَّقْل للمعنى، ويُسمَّى إلحادًا في المعاني، أو تحريفًا للمعاني..إلخ، أو كان نقلاً للألفاظ عن أصلِها، ويدخل في هذا إدراج لفظةٍ، أو قَلْبها، أو بعضها.
وبعبارةٍ أخرى: يمكننا أن نقول: إن التحريف يُطْلَقُ على جميع الصفات والأشكال المخالفة للوارد، لفظًا أو مَعْنًى".

وبهذا: يتضح الفرق الجوهري بين التحريف وبين القراءات القرآنية؛ لأنَّ التحريف مُحْدَثٌ، بخلاف القراءات القرآنية، فهي من القرآن، وليست مُحْدَثَةً مباينةً له، ولا منفصلةً عنه، بل هي من القرآن، وتجري عليها أحكامه، وبها وردتِ الأسانيد والروايات.
ويمكننا رصد أمرين من أوجُه الخلاف والتفريق بين القراءات والتحريف: الأول: أَنَّ القراءات ليست مُحْدَثَةً، والتحريف مُحْدَثٌ، والثاني: أَنَّ القراءات من القرآن، وليست مباينةً له، والتحريف ليس قرآنًا، بل هو مباينٌ للقرآن منفصلٌ عنه، شكلاً ومضمونًا؛ لأنه ليس منه، ولا يمت إليه بصلةٍ، ولا وردَتْ به روايةٌ، ولا اتَّصلَ به سندٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

فهذا فرقٌ جوهريٌّ بين التحريف الْمُحْدَثِ المبتوتِ الصِّلَةِ بالقرآن، وبين القراءات القرآنية التي تلقَّاها آخِرُ الناسِ عن أَوَّلِهِم، سماعًا ومشافهةً، شأن القرآن الكريم، حتى يتصل إسنادها إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فالفرق هنا قائمٌ، والخلط بين الأمرين خطأٌ جسيمٌ، لا مبرر له علميًّا ولا أخلاقيًّا.


ثانيًا: مُعْجِزَةُ القراءات.
وهذا يجرنا للكلام عن أصل القراءات القرآنية؛ لنرى أنَّها جزءٌ من الوحي الذي تلقَّاهُ النبي صلى الله عليه وسلم، وليستْ منفصلةً عنه، ولا هي بكلامِ بشرٍ، فهي وحي، وليست عملاً أو طريقةً بشريَّةً للقراءة.
والاستدلال على ذلك من جهاتٍ شتى؛ أقتصر منها هنا على طريقتين، الأولى: من جهةِ الأثر الوارد، والثانيةِ: من جهةِ العقل.

فأَمَّا التي من جهةِ العقلِ:
وأبدأ بالتي من جهةِ العقل؛ لأَنَّا بُلِينا بأصحابِ عقولٍ لا يقيمون للوحي منزلاً، ولا يعرفون للأثر الوارد قيمةً، وعلينا مخاطبتهم بمفهومهم ومن زاويتهم، لنثبت لهم ما يدل عليه الوحي، وأَتَى به الأثر.

(1)
ولابد لنا أن نقرِّرَ أولاً: أن القرآن الكريم معجزة النبي صلى الله عليه وسلم، التي أَيَّدَهُ الله عز وجل بها، باعتراف وإجماع كافة أمم وأجناس الأرض قاطبةً، لم يخالف في هذا أحدٌ من حيثُ العمل، وإن خالف في ذلك بعضهم نظريًّا.
ووجهُ ذلك: أنَّ كفار قريشٍ قد زعموا: أنه يُعَلِّم النبيَّ صلى الله عليه وسلم بشرٌ، فتحدَّاهم الله عز وجل، فذكر لهم أن لسان هذا الذي يقصدونه أعجميٌّ، بخلاف القرآن العربي المبين، وتحدَّاهم سبحانه: أن يثبتوا دعواهم هذه بالإتيان بمثله، أو ببعضِه، أو بسورةٍ أو بآيةٍ، فعجزوا عن ذلك في كل مرةٍ،
فدلَّ عجزهم على أنَّ القرآن الكريم ليس كتابًا بشريًّا؛ لأنه لو كان القرآن كتاب بشرٍ، أو يقدر عليه البشر؛ لقدَر عليه أرباب الفصاحة والبلاغة، وأصحاب اللغة وأهلها في قريشٍ ومَن حولها من الأعراب، وهؤلاء هم أصحاب التراث الأدبي العريق الذي تفتخر به البشرية الآن، وتتكالب على دراسته، مع اختلاف أغراض الدراسة!!؟، بل هذا التراث الأدبي هو الذي رجَّحَهُ:( شيخ المستشرقين: تيودور نولدكه) على القرآن الكريم كما سبقت حكايته في موضوعي الآخر:(جذور البلاء في فِكْر المستشرقين).)هنا).

وكذا كان طه حسين وغيره مِمَّن لفَّ لفّ المستشرقين يفعل مع القرآن.
فإذا كان أصحاب هذا التراث الْمُعَظَّم لدى المستشرقين ومن دار في فَلَكِهِم: قد عَجَزوا عن الإتيان بمثل القرآن أو بعضِه، كما عجزوا عن محاكاته في أيِّ وجهٍ من وجوه ترتيبه أو نظمه وغير ذلك، فإِذا عَجَزَ هؤلاء الأفذاذ في الفصاحة والبلاغة عن هذا كله، فعجْزُ غيرِهم مِمَّن لا يُحْسن لغتهم أَوْلَى وآكَد.
ولا يُتَصَوَّر في عقلٍ:( أن يُحْسِن ويل أو نولدكه أو موراني أو غيرهم من المستشرقين -أو أذيالهم- شيئًا لم يُحْسِنه أرباب اللغة نفسها!!؟)، وهذا العجز البشري المتتابع يعني: أنَّ القرآن الكريم مِمَّا يفوق قدرة البشر على الإتيان بمثله، ولو كان كتابًا بشريًّا، أو مَقْدورًا للبشر على مُحاكَاتِه: لاستطاع بعضُهم ولو في زمنٍ دون زمنٍ أن يأتي ولو ببعضِه!!؟، فلمَّا أطبقوا على العجز عن هذا كلِّه: عَلِمْنا أنَّه ليس كتابًا بشريًّا، وتحقَّقْنا مِن صِدْق كونه معجزة إلهية عظيمة وخالدة، أَيَّدَ الله عز وجل بها نبيَّه صلى الله عليه وسلم.
ويتأكَّد كونه ليس كتابًا بشريًّا مِنْ جهةٍ أخرى، وهي: أنَّ جميع البشر قد اعترفوا بِعُلُوِّ منزلته، وسُمُوِّ مكانتِه، إِمَّا تصريحًا، وإِمَّا عادةً وسلوكًا وعملاً.
فأَمَّا التصريح، فهو خاصٌّ بالمؤمنين به، وهم أهل الإسلام، أو بهؤلاء الذين درسوه وعرفوا منزلتَه، ثم أظهروا الحقيقة وأَعْلَنُوها.
وأما العادة والسلوك والعمل: فإِنَّا نرى الكفار قديمًا وحديثًا، وكذا أكثر المستشرقين، نراهم جميعًا وقد أطبقوا على العداء للقرآن الكريم، والطعن فيه بالشُّبَهِ والخيالات، ولا يفعلون هذا إلا لشعورهم الدفين بقيمتِه ومنزلتِه؛ لأنَّهم لو تيقَّنُوا من بشَرِيَّتِه أَوْ مقدرة البشر عليه، أو قامت الدلائل عندهم على خُلُوِّهِ من الإعجاز، أو سقوطه، لو تيقَّنوا من هذا كله حقيقةً: ما بارزوه العداء أصلاً؛ لأنَّهُم لا يُبَارَزُونه بالعداء وهم يعتقدون عدم جدواه، أو يَرَوْنَه شيئًا هامشيًّا لا قيمة له ولا أَثَرَ خَلْفَهُ!!؟.
وغالبًا ما يُظْهِرُ اللسان خبايا البواطنِ ودفينها، حتى وإِنِ ادَّعَى الشخص خلافها!!؟.

(2)
ويمكن تقرير ذلك بطريقةٍ أخرى، وهي: أنَّ النفس الإنسانية بحاجةٍ إلى معجزةٍ مؤكِّدةٍ لما تتلقَّاهُ عن الأنبياء، حتى يسهل عليها الإيمان والتسليم.
ولا بد في المعجزة أن لا ينقضها ناقضٌ بشريٌّ؛ لأنَّها لو انتقضت لانتفى التسليم والإذعان لها.
ومن شواهد ذلك: أن يعمد البشر أو بعضهم إلى الإتيان بمثلها، فيعجزوا عن ذلك.
وهذا عينه ما جرى بالنسبة للقرآن الكريم، كما سبقت الإشارة إليه من عجزِ البشر عن الإتيان بمثله رغم طول القرون وتوالي الليالي والأيام.
وقد تميَّزَتْ معجزةُ القرآن الكريم بصفاتٍ لا حصر لها، منها: كونها معجزات في صورة معجزة واحدة.
ووجهُ ذلك: أَنَّ الله عز وجل قد أنزل القرآن على سبعة أحرفٍ، ثم شاء الله عز وجل أن تتلقَّى الأمة هذه الأحرف عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومع هذه الأحرف السبعة لم يطرأ على المعجزة القرآنية: تنافرٌ أو تضاد، ولا حدَثَ فيها ضعفٌ في بعض الجوانب.
وقد أَكَّدَ سبحانه وتعالى ذلك بالحجة الباهرة حين قال:{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء: 82].
وها هي أربعة عشر قرنًا مضت حاملةً التحدِّي لجميع البشر، متناقلة للحج والبراهين على عُلوٍّ في القرآن، وسُمُوٍّ في كتاب الله عز وجل، فلا تضاد ولا اختلاف، وما يظهر فيه التضاد والاختلاف لغير العلماء: قد بَيَّـنَه العلماء وشرحوه، وأظهروا وجوه التوافق والمعجزة فيه، مفصَّلاً مطوَّلاً، سواءٌ في كتب(المتشابه) أو(التفسير) أو غيرها من كتب علوم القرآن ومباحثه، ويطيب لي هنا أن أذكر كلمة الزرقاني في كتابه(مناهل العرفان:1/105106) حيثُ قال:
" والخلاصة: أن تنوع القراءات يقوم مقام تعدد الآيات، وذلك ضربمن ضروب البلاغة، يبتدئ مِن جمال هذا الإيجاز، وينتهي إلى كمال الإعجاز.
أضف إلى ذلك: ما في تَنَوُّع القراءات مِن البراهين الساطعة والأدلة القاطعة على أنَّ القرآن كلام الله، وعلى صدق مَنْ جاء به، وهو رسول الله، فإِنَّ هذه الاختلافات في القراءة على كثرتها لا تُؤَدِّي إلى تناقضٍ في المقروءِ وتضادٍّ، ولا إلى تهافتٍ وتخاذلٍ؛ بل القرآن كله على تنوُّع قراءاته يُصَدِّقُ بعضُه بعضًا، ويُبَيِّـنُ بعضُه بعضًا، ويشهدُ بعضُه لبعضٍ على نمطٍ واحدٍ في عُلُوِّ الأسلوبِ والتعبير، وهَدَفٍ واحدٍ مِنْ سُمُوِّ الهدايةِ والتعليم.
وذلك من غير شكٍّ يفيد تَعَدُّد الإعجازِ بتعدُّدِ القراءات والحروف.
ومعنى هذا: أَنَّ القرآنَ يُعْجِز إذا قرئ بهذه القراءة، ويعجز أيضًا إذا قرئ بهذه القراءة الثانية، ويعجز أيضًا إذا قرئ بهذه القراءة الثالثة، وهلم جَرّا.
ومن هنا تتعدَّد المعجزات بتعدُّدِ تلك الوجوه والحروف.
ولا ريب أَنَّ ذلكَ أَدَلّ على صدقِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أعظم في اشتمالِ القرآن على مناحٍ جَمَّةٍ في الإعجازِ وفي البيانِ على كلِّ حرفٍ ووجهٍ، وبكلِّ لهجةٍ ولسانٍ.
{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42]".انتهى.

(3)
وهذا وغيره يستلزم أمرين:
الأول: وصول هذه الأحرف السبعة إلى الأمة وعملها بها، وسيأتي ذلك.
الثاني: أَنَّ هذه الأحرف السبعة وحيٌ أنزله الله عز وجل، كما سيأتي مفصلاً في الروايات الشاهدة بذلك.
ثم القراءات المشهورة المتداولة ترجع في أصلها إلى هذه الأحرف السبعة المذكورة، هذا ما لا خلاف فيه بين أحدٍ من علماء المسلمين؛ لكنهم اختلفوا: هل المصحف العثماني والقراءات الموجودة مشتملة على الأحرف السبعة، أم لا؟، فرأى البعض أن عثمان رضي الله عنه قد ألزم الناس بحرفٍ واحدٍ، فكتبه في المصاحف، وترك بقية الحروف، بينما ذهب أكثر العلماء وجماهير المحققين من أهل العلم إلى أَنَّ الأحرف السبعة كلها قد نُقِلَتْ إلى الأمة عبر المصحف العثماني ووجوه القراءات المشهورة المتداولة بين المسلمين الآن.
وهذا الذي رآه جمهور العلماء والمحققين هو: الصواب في المسألة، والقول الآخر المشار إليه في الاقتصار على حرفٍ من السبعة دون ما سواه: لا سَنَدَ له من الناحية العلميَّة؛ إِذ لا تزال الدواعي التي كانت في صدر الأمة موجودة في بقيتها عبر العصور المتوالية، سواءٌ من حيثُ الحاجة إلى التيسير والتسهيل على الأمة، أو من حيثُ الحاجة لوجوه القراءات في إقامة المعجزة من جوانبها المختلفة، أو الحاجة إليها في مباحث الاستدلالات والاستشهادات العلمية والاستنتاجيَّة.
ويلزم من ذلك كله: ضرورة وصول كافة وجوه الأحرف السبعة إلى الأمة؛ لأنه لو كانت وحيًا ـ وهي كذلك ـ: لم يجز للأمة ترك بعض الوحي، ولو كانت تيسيرًا على الأمة ـ وهي كذلك ـ: لم يكن لنا اعتقاد التيسير على صدر الأمة الأكثر إيمانًا، ثم التعسير على آخر الأمة الأقل إيمانًا وعقيدة!!؟: لمصادمة ذلك لتأليف النبي صلى الله عليه وسلم لأقوامٍ ضعاف الإيمان، وتركه غيرهم من أقوياء الإيمان، وَكَلَهم صلى الله عليه وسلم لإيمانهم.
فلزمَ مِن ذلك: وصول كافة الأحرف السَّبْعَة التي نزل بها الوحي إلينا عبر المصحف العثماني المتداول الآن.
ولا يصح اعتقاد: أَنَّ الله عز وجل قد أنزل الأحرف السبعة تيسيرًا على الأمة، ثم ترك الصحابة الكرام رضي الله عنهم بعضها، ولم يبلغوه مَن بعدهم؛ من جهتين: الأولى: علمية؛ حيثُ لم يثبت بهذا أثرٌ ولا خبرٌ عن الصحابة الكرام؛ بل الأدلة على خلافه، عقلاً ونقلاً كما رأيتَ وسترى، والجهة الأخرى: أن اعتقاد ترك الصحابة رضي الله عنهم لبعض هذه الأحرف لا يليق بمكانتهم في الإيمان والإسلام، ولا بحرصهم الشديد على إبلاغ القرآن ونقله كما أُنْزِل، دون زيادةٍ ولا نقصان، وقد سبق وسيأتي ما يدل على ذلك بوضوحٍ، ومن ذلك فيما سبق مثلاً: قول عثمان رضي الله عنه في كلامه عن القرآن:" لا أُغَيِّر شيئًا مِن مكانه"، وقد دلَّ واقعهم كما سبق ويأتي على غاية الحرص والعناية بنقل القرآن: سماعًا وكتابةً، بنظمه وترتيبه وكافة جوانبه.
وقد مضى ويأتي إن شاء الله ما ينبئك بغاية الحرص والعناية عند الصحابة الكرام في سبيل نقل القرآن الكريم كما هو دون تصرُّفٍ فيه.
والعقلُ يستدعي هذا ويستلزمه؛ لأنهم لو تصرَّفوا في القرآن، هم أو غيرهم، بأيِّ نوع تصرُّفٍ؛ لاستلزم ذلك دخول النقض والطعن عليه، والعقل ينفي هذا كله ويرفضه؛ لأنَّه قد اتفقَ عقلاء البشر جميعًا من أربعة عشر قرنًا وحتى الساعة على أن الإسلام هو: خاتم الرسالات السماوية، وأن النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم هو: خاتم النبيين، وها هي أربعة عشر قرنًا مضت تؤَكِّدُ هذا.
ويلزم على ذلك: أن يكون هذا الدين الخاتم محفوظًا من كل وجهٍ، قرآنًا وسنةً، إلى أن تنتهي الدنيا بأسرها؛ لأنَّه لو لم يكن كذلك لاحتاج الناس إلى نبيٍّ آخر، أو دينٍ سماويٍّ جديدٍ؛ بناءً على حاجاتهم الدائمة والْمُلِحَّةِ إلى قائدٍ يقودهم، وسائسٍ يسوس أمورهم، وهذا ما لم يكن، على مدار القرون المتعاقبة على موت النبي صلى الله عليه وسلم وحتى الساعة؛ مما يدلّ على صِدْقِ ما أخبر به الوحي أن الإسلام هو: خاتم الرسالات، وأنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم هو: خاتم الأنبياء.
وهذا يستلزم حِفْظ معجزته لتصل لمن شاء الله عز وجل من عباده اللاحقين على النبي صلى الله عليه وسلم، والقادمين إلى الدنيا بعده، على مدار الأزمنة.
وهذا كله لا خلاف فيه بين العقلاء، ولا عبرة بغيرهم مِن سفهاء الأحلام في هذا الموطن، وسيظل هذا الحكم جاريًا حتى نهاية الدنيا، وحتى عيسى عليه السلام حين يعود إلى الدنيا، فلن يحكم بغير الإسلام؛ وهذا أيضًا مما يُؤَكِّد صِدْق الوحي في إخباره بختم النبي صلى الله عليه وسلم للأنبياء، وختم الإسلام للرسالات السماوية.

(4)
وقراءات القرآن جزءٌ مِن القرآن:
أشرتُ مراراً إلى أَنَّ القراءات القرآنية جزءٌ من القرآن الكريم، وليست منفصلةً عنه، ولا مباينةً له، وهذا ما تدل عليه العقول السليمة؛ لأنها لو كانت منفصلةً عنه، أو مباينةً له، لكانت خارجة عن كونها معجزة، ولو كان بعض القرآن معجزٌ وبعضه غير معجزٍ: لانتقضت المعجزة، وانتفى الإعجاز أصلاً، وهذا ما لم يكن بحمد الله عز وجل؛ لأنَّ ما لا خلاف فيه: كتابًا وسنةً وإجماعًا متوارثًا عبر الأجيال المتعاقبة: أَنَّ الصلاة لا تصح إلا بقرآنٍ، وقد ثبت أيضًا جواز القراءة في الصلاة بأيٍّ من القراءات القرآنية؛ فدل هذا بوضوحٍ على إثبات قرآنية وإلهية القراءات القرآنية، وأنها جزءٌ من القرآن الكريم، وجزءٌ من المعجزة الخالدة، وليست منفصلةً عنه، ولا مباينة له.
كذلك قام الدليل: كتابًا وسنة وإجماعًا متوارثًا على ثواب قارئ القرآن، كما ثبت له الثواب بتلاوته بأيَّة قراءة يختارها هو من بين القراءات المشهورة المتداولة.
فثبت بما ذكرتُ وغيره إلهية وقرآنية القراءات القرآنية الواردة، وأنها جزءٌ من المعجزة القرآنية الخالدة التي أَيَّدَ الله عز وجل بها نبيَّه صلى الله عليه وسلم.
وهذا الذي نطق به الوحي هو ما يؤكده العقل؛ لأنَّ ما لا خلاف فيه بين العقلاء: أنَّ القرآن الكريم هو: المعجزة التي أَيَّدَ الله عز وجل بها رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، واختياره سبحانه القرآن لتأييد نبيَّه صلى الله عليه وسلم به يستلزم أن يكون معجزًا ساميًا يفوق كلام البشر؛ لأنَّه لو لم يكن معجزًا، أو كان مقدورًا عليه؛ لما كانت له فائدة في هداية البشر، أو في تأييد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه لا وجه عقلاً لتأييده بما هو مقدورٌ عليه لجميع البشر، أو بعضهم، إِذْ ما هو الدافع عند فلان من الناس أن يترك ما لديه لقولِ الآخر، إن كان عنده ما عند الآخر!!؟.
فاستلزم العقل هنا: أن يكون القرآن معجزًا؛ وهذا ما دلَّ عليه الوحي وأَوْضَحَهُ بحمد الله تعالى.
كما استلزم ذلك أيضًا: أن تكون القراءات القرآنية معجزة هي الأخرى، وجزءًا لا يتجزَّأ من المعجزة القرآنية؛ لأنها منه، وما دامت منه، فلابد من سريان أحكامه إليها، وهذا ما يستلزمه العقل السليم، والنَّظَر الصحيح، وهو عينه ما ذَكَرَهُ الوحيُ بحمد الله عز وجل مِنْ قبلُ.


وأما التي من جهةِالأثرالوارد:

وأما إثبات معجزة القراءات القرآنية الكريمة من جهةِ الأثر والشواهد الواردة، فقد جاءت الروايات من غير وجهٍ، تؤكِّدُ على تَلَقِّي الصحابة الكرام رضي الله عنهم لوجوهِ القراءات عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن جبريل عليه السلام، عن ربِّ العزةِ عز وجلّ.
وأقتصر هنا على ما رواه البخاري (4991)، ومسلم (819) من حديثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
" أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ فَرَاجَعْتُهُ فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ وَيَزِيدُنِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ".
وما رواه مسلم (821) من حديثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ:" أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَ أَضَاةِ بَنِي غِفَارٍ قَالَ: فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، فَقَالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لا تُطِيقُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفَيْنِ، فَقَالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لا تُطِيقُ ذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى ثَلاثَةِ أَحْرُفٍ، فَقَالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لا تُطِيقُ ذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَهُ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَأَيُّمَا حَرْفٍ قَرَؤُوا عَلَيْهِ، فَقَدْ أَصَابُوا".أهـ
يقول النوويُّ في:(شرح مسلمٍ):" قَوْله: (عِنْد أَضَاة بَنِي غِفَار) هِيَ بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَبِضَادٍ مُعْجَمَة مَقْصُورَة, وَهِيَ: الْمَاء الْمُسْتَنْقَع كَالْغَدِيرِ وَجَمْعهَا أَضًا كَحَصَاةٍ وَحَصًا وَإِضَاء بِكَسْرِ الْهَمْزَة وَالْمَدّ كَأَكَمَةٍ وَإِكَام.
قَوْله: (إِنَّ اللَّه يَأْمُرك أَنْ تَقْرَأ أُمَّتك عَلَى سَبْعَة أَحْرُف فَأَيُّمَا حَرْف قَرَؤُوا عَلَيْهِ فَقَدْ أَصَابُوا)، مَعْنَاهُ: لا يَتَجَاوَز أُمَّتك سَبْعَة أَحْرُف، وَلَهُمْ الْخِيَار فِي السَّبْعَة، وَيَجِب عَلَيْهِمْ نَقْل السَّبْعَة إِلَى مَنْ بَعْدهمْ بِالتَّخَيُّرِ فِيهَا وَإِنَّهَا لا تُتَجَاوَز. وَاللَّهُ أَعْلَمُ".أهـ
وأقتصر هنا على الحديثين المذكورين، للدلالةِ على كثيرٍ من روايات الباب التي في معناهما، ونقتصر مِمَّا أفاداهُ على الآتي:

يتبع إن شاء الله.

  • ملف العضو
  • معلومات
أمازيغي مسلم
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 02-02-2013
  • المشاركات : 6,081
  • معدل تقييم المستوى :

    19

  • أمازيغي مسلم has a spectacular aura aboutأمازيغي مسلم has a spectacular aura about
أمازيغي مسلم
شروقي
رد: دعوى وجود اللحن في القرآن الكريم
10-10-2018, 11:11 AM
(5)
ضرورة اختلاف القراءات في قيام الْمُعْجِزَةِ

ووجهُ ذلك: أَنَّ العرب وإِنِ اجتمعوا في لغةِ العرب إلا أنهم اختلفوا في النطق بها من حيثُ الإمالة والْمَدِّ وغيرهما، كما تفرَّدَتْ كل قبيلةٍ بما لا تعرفه الأخرى أو لا تنطق به، ولنضربمثلاً لذلك في قلبِ بعض العرب العين همزةً، والهمزةَ عينًا، عند النطق بهما.
فمن ذلك مثلاً قول بعضهم:(أبد الله) مكان(عبد الله) [وانظر كتاب:(الكفاية، للخطيب البغدادي184، باب: في اتباع الْمُحَدِّث على لفظه وإِنْ خالفَ اللغةَ الفصيحة]، فهذا مثالٌ لقَلْبِ العين همزةً.
وعكس ذلك أيضًا: ما ورد في حديث(قَيْلَة بنت مخرمة العنبريَّة) الطويل، وقد ذكره لها المزي في ترجمتها من(تهذيب الكمال)، وفيه قالت قَيْلَةُ:" تَحْسَبُ عَنِّي نائمةٌ"، قال المزي (35/293):" وقولها: تَحْسَبُ عَنِّي نائمةٌ: العين في عَنِّي مُبدلة مِن الهمزة، و هي لغة بني تميم، تُسَمَّى العنعنة، يَقْلِبونَ الهمزة عينًا، فَعَلَى هذا نائمةٌ تُرْفَعُ الهاء خَبَرٌ لِـ (أَن).
ورواه بعضُهم جاهلاً بهذه اللغةِ: تَحْسَبُ عيني –[كذا في المطبوع من تهذيب الكمال، ولعلها مِن الطبع وصوابها هنا أيضًا: عَنِّي؛ كما يدل عليه السياق والله أعلم]- نائمةً بنصبِ الهاء مفعولاً ثانيًا لـ تحسب، والأول أحفظ وأشهر".أهـ
وانظر أمثلةٌ أخرى في:(التمهيد، لابن عبد البر:8/277278).
لكنَّا نلاحظ أن هذا القلب لم يُؤثِّر على المعنى شيئًا مِن حيثُ تغييره أو تبديله لعكسه، فهو اختلافٌ في اللفظِ، بناءً على مسموعِ اللفظِ، أو صوتِه عند سماعِه.
وإنما جاء القرآن الكريم ليخاطب هؤلاء جميعًا، على اختلافِ ألسنتهم ولهجاتِهم النابعة من اللغة الأمِّ، وكان لزامًا في هذا الخطاب: أن يكون من جنس ما يفهمون، إِذِ المخاطبة بما لا يفهمه الْمُخَاطَب تُعَدُّ تكليفًا بما لا يُطاق، وضربًا من العبث، وهذا كله منتفٍ في حقِّ الله عز وجل.
ولذا جاء الخطاب القرآني الكريم، ليناسب هؤلاء المختلفين في لهجاتهم جميعًا، لتتم المعجزة بذلك وتستقرَّ في نفوسِهم.
ولنرجع إلى قوم(عيسى عليه السلام): أبرع الناس في طِبِّ زمانهم، ومن قبله قوم(موسى عليه السلام): أهل سِحْرٍ، فكان لابد لإثبات وتقرير المعجزة لموسى: أن تفوقَ سحر هؤلاء جميعًا، فجاءت عصاه تلْقَفُ ما يصنعون من إِفْكٍ وتخييلٍ في أعين الناظرين، فقلبَ الله له العصا حيةً كبيرةً التهمت كافة ما صنعوه وسحروه من حيَّات وهميَّة لا أساس لها.
كما جاء عيسى عليه السلام فائقًا كافة قومه في شفاء المرضى وإحياء الموتى بإذن الله عز وجل، معجزةً أَيَّدَهُ الله عز وجل بها.
وهكذا تكون المعجزات من جنس ما يفقهه ويتقنه ويبرع فيه أقوام الأنبياء، لأنها لو لم تكن كذلك لانتقض إعجازها‍‍!!؟.
ولذا، كان لا بد من مخاطبة القرآن لهؤلاء:( المختلفين لهجةً، المتَّفِقين لغةً): بما يوافقهم جميعًا، وحسبما يعرفونه ويفقهونه، من أشكال الألفاظ وأصواتها؛ لتتقرَّر في نفوسهم المعجزة، فيؤمنوا به، ولأَنَّ الإسلام لا يعرف الضرببالعصا لتقرير العقائد وإسلام الناس؛ وإنما يعرف تقرير العقائد ونشر الإيمان بالحجة والبرهان، وتقرير المعجزات في نفوس الخلق بالدليل الراسخ الرصين؛ ولأنَّهُ كذلك: كان لابد من تقرير معجزة القرآن لدى هؤلاء المختلفين بشموليَّةٍ تسع للجميع وتحتويهم جميعًا:( لهجةً وصوتًا، إمالةً ومَدًّا، سماعًا وكتابةً)، وغير ذلك مِنْ مباحث لغة العرب.
وهذا يستلزم عقلاً ووحيًا: أن ينزل القرآن الكريم على أكثرِ مِن حرفٍ، وهذا ما قرَّرَهُ الوحي، حيثُ جاء الوحي، ليقول لنا:" أُنْزل القرآن على سبعة أَحْرُفٍ": كما في أحاديث الباب هنا.
ومِنْ جهةٍ أخرى، فإِنَّ المعجزات لا تتقرَّر بما لا يُطاق كما أشرتُ سابقًا؛ ولا يسوغ أن ينزل القرآن العربي المبين بما لا يناسب كافة العرب، فكان لابد من القراءات القرآنية المناسبة للعربجميعًا، وقد سبقنا الزرقاني في:(مناهل العرفان) إلى تقرير هذه الحقيقة، حيثُ قال:
" الشاهد الأول: أن الحكمة في نزول القرآن على الأحرف السبعة هي: التيسير على الأمة الإسلامية كلها، خصوصًا الأمة العربية التي شُوفِهَتْ بالقرآن، فإنها كانت قبائل كثيرة، وكان بينها اختلاف في اللهجات ونبرات الأصوات وطريقة الأداء وشهرة بعض الألفاظ في بعض المدلولات، على رغم أنها كانت تجمعها العروبة، ويُوَحِّد بينها اللسانُ العربي العام.
فلو أخذت كلها بقراءة القرآن على حرفٍ واحد: لشق ذلك عليها كما يشق على القاهري مِنَّا أَنْ يتكلم بلهجة الأسيوطي مثلاً، وإن جمع بيننا اللسان المصري العام، وأَلَّفَتْ بيننا الوطنية المصرية في القطر الواحد.
وهذا الشاهد تجده ماثلاً بوضوح بين الأحاديث السالفة في قوله في كل مرة من مرات الاستزادة:" فرددت إليه أَنْ هَوِّن عَلى أُمَّتِي"، وقوله:" أسأل الله معافاته ومغفرته وإِنَّ أُمَّتِي لا تطيق ذلك"، ومن أنه لَقِيَ جبريل، فقال:" يا جبريل إِنِّي أُرْسِلْتُ إلى أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ فيهم الرجل والمرأة والغلام والجارية والشيخ الفاني الذي لم يقرأ كتابًا قط" الخ.
قال المحقق ابن الجزري:" وأما سبب وروده على سبعة أحرف، فللتخفيف على هذه الأمة، وإرادة اليسر بها، والتهوين عليها: شرفًا لها وتوسعة ورحمة وخصوصية لفضلها، وإجابة لقصد نبيها أفضل الخلق وحبيب الحق حيث أتاه جبريل فقال: (إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف) فقال: (أسأل الله معافاته ومعونته فإن أمتي لا تطيق ذلك)، ولم يزل يُرَدِّد المسألة حتى بلغَ سبعةَ أَحْرُفٍ".
ثم قال:" وكما ثبت أن القرآن نزل مِن سبعة أبواب على سبعة أحرف، وأن الكتاب قبله كان ينزل مِن بابٍ واحد على حرفٍ واحد، وذلك أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يُبْعَثُون إلى قومهم الخاصين، والنبي بُعِثَ إلى جميع الخلقِ أحمرهم وأسودهم عربيهم وعجميهم، وكان العرب الذي نزل القرآن بلغتهم: لغاتهم مختلفة، وألسنتهم شتى، ويعسر على أحدهم الانتقال من لغة إلى غيرها أو من حرف إلى آخر.
بل قد يكون بعضهم لا يقدر على ذلك، ولو بالتعليم والعلاج، لا سيما الشيخ والمرأة ومَن لم يقرأ كتابًا كما أشار إليه، فلو كُلِّفوا العدول عن لُغَتِهِم والانتقال عن ألسنتِهم: لكانَ مِن التكليف بما لا يُستطاع، وما عسى أَنْ يَتَكَلَّفَ الْمُتَكَلِّف وتَأْبَى الطِّباع".أهـ [مناهل العرفان:1/103].
وسبق ابن قتيبة إلى تقرير هذه الحقيقة، وسيأتي نقل كلامه أيضًا في الكلام على (معنى الأحرف السبعةِ).
ولا يعني هذا نزول القرآن على سبعة أحرُفٍ بمثابةِ سبعة ترجمات للقرآن كله؛ وإنما هي سبعة أَحْرُفٍ موجودة في القرآن كله، كما سيأتي، وليست سبعةً في كل كلمة بمفردها، وسبعةً في التي تليها، فلم يقل بهذا أحدٌ أبدًا، وأكثر مواضع القراءات لا تكاد تقف فيها على أكثر من وجهين، وقليلٌ مَنْ يتجاوز هذا، ولكنها سبعٌ مُفَرَّقةٌ في القرآن الكريم.
قال أبو عبيد في:(الغريب:3/159):" وليس معناه أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه؛ هذا لم يُسْمَعُ به قط، ولكن يقول: هذه اللغات-[كذا وصوابه: الوجوه، كما سيأتي]- السبع متفرقة في القرآن".أهـ
وسيأتي نحوه أيضًا عن(القاموس) وغيره.
وقد نَبَّه على هذا المعنى: ابنُ عبد البر في(التمهيد:8/274) وقال:" بل لا يوجد في القرآن كلمة تحتمل أن تقرأ على سبعة أحرفٍ إلا قليلاً "، ومَثَّلَ لذلك وقال:" وهذا يسيرٌ جدًّا".أهـ
ولعلَّهُ لندرته: أنكر وقوعه ابن قتيبة أصلاً، وردَّ عليه أبو بكرٍ بن الأنباري، وتعقَّبَه بنحو {أُفٍّ} وغيرها، وأجود ما في ذلك عبارة ابن عبد البر السابقة: " وهذا يسيرٌ جدًّا".


(6)
تَرْكُ كفارالعرب الاعتراضَ على القرآن باختلافِ القراءات ودلالة ذلك

وهذا يجرُّنا إلى الإشارة لموقف كفار العرب قديمًا من اختلاف القراءات ودلالة موقفهم هذا.
لقد فَهِمَ كفارُ العرب قديمًا هذا الأمر، فتركوا معارضة القرآن الكريم بحجةِ اختلاف وجوه القراءات في ألفاظه؛ لِعِلْمِهم بتفاهةِ هذا الاعتراض؛ لأنهم كانوا خبراء بلغتهم، فصاحةً وبلاغةً ونطقًا وعروبة، وغير ذلك، ولذا لم يعارضوا القرآن باختلاف قراءات القرآن، رغم ما لديهم من دوافع العداء والحراب المشتعلةِ بين الطرفين، لسانيًّا وميدانيًّا، بل لم يفعلوا هذا ولو على سبيل التشويش أو الانتقام، ولو بمجرَّدِ إثارةِ الشُّبْهَةِ؛ لأَنَّهم لم يَرَوْا في هذا ما يُرَقِّيهِ إلى الشُّبْهَةِ أصلاً، ولو فعلوا هذا: لافتضحوا لدى بقية العرب العارفين بلغة العرب وتصاريف وجوهها، ولم يكن هؤلاء الكفار القدماء بالغباء لدرجة أن يفضحوا أنفسهم بمثل هذا التهافت الذي لا يسمن ولا يغني من جوعٍ!!؟.
ولو رأوْه شُبْهَةً، فضلا أن يجدوا فيه سبيلاً للطعن في الإسلام؛ لو رأوه مستحقًّا لهذا: لصاحوا به، ولطاروا به كلَّ مطارٍ، خاصة مع دوافع العداء والحرب، ولوازم الحقد والثأر والتغَيُّظِ على المؤمنين.
ولاشكَّ أن هؤلاء الكفار كانوا أعلم بلغة العرب الفصيحة التي نزل القرآن متحديًّا لهم في مجالها، وكانوا أرقى حسًّا في تذَوِّقِها من هؤلاء المستشرقين ومَنْ سار في ركابهم، فدلَّ تَرْك كفار العرب قديمًا لمِثْل هذه الاعتراض على تفاهته وسخافتِه، وعدم جدواه لديهم.
ولو أرادوا الاعتراض به: لما منعهم من هذا مانعٌ، وهم يَرَوْنَ الهزائم تحلّ بكفرِهم في كلِّ مرةٍ، فلما تركوا الاعتراض بذلك، ولو على سبيل الثأر أو مجرَّد التشويش: عَلِمْنا أنَّهم لا يَرَوْنَ في ذلك عيبًا ولا شينًا ولا بأسًا، وأَنَّ الحجة بذلك قائمةٌ عندهم، من حيثُ طُرُق الحجة أو الاحتجاج على الخصم بِمِثْلِ هذا.
و بعبارةٍ أخرى: فإِنَّ اختلاف القراءات كان أمرًا مألوفًا ومقبولاً لدى كفار العرب العارفين بلغة العرب الفصيحة، ولم يكن أمرًا مستهجنًا ترفضُه لُغَتُهم أو يصلح للتشويش على المؤمنين به.
بل كان ولا زال اختلاف القراءات القرآنية وسائر ما في القرآن من لغويات مِن أكبر الشواهد على إلهية القرآن الكريم، ونبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لإحاطتِه التامة بلغة العرب وقوانينها وتصاريف وجوهها، حتى إِنَّه لم يكتف بوجهٍ واحدٍ فقط يذكره أو ينزل عليه القرآن، وإنما أَنْزَلَه الله عز وجل على سبعةِ أوجهٍ فصيحةٍ مليحةٍ لدى العرب، ولا يحيط بهذه الأوجه العربية إلا محيطٌ باللغة العربية تامّ الإحاطةِ بها، ولا يُحيط بلغةِ العرب إلا نبيٌّ، وهذا مُقَرَّرٌ في غير موضعٍ، وقد ذكره صاحب (تاج العروس) في المُقَدِّماتِ التي في صدر الكتاب، ونقل فيه عن الشافعي وابن فارس أيضًا التنبيه على أَنَّه لا يُحِيط باللغة إلا نبي، فدلَّتْ إحاطة القرآن الكريم بلغةِ العرب ووجوهها على إثبات المعجزة وتقريرها، ثم على نبوة نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه كان أُمِّيًّا لا يقرأُ ولا يكتب، ثم هو يحيط بلغة العرب كما ترى، وهذا وجهٌ آخر مِنْ وجوهِ المعجزةِ القرآنية الخالدة.
  • ملف العضو
  • معلومات
أمازيغي مسلم
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 02-02-2013
  • المشاركات : 6,081
  • معدل تقييم المستوى :

    19

  • أمازيغي مسلم has a spectacular aura aboutأمازيغي مسلم has a spectacular aura about
أمازيغي مسلم
شروقي
رد: دعوى وجود اللحن في القرآن الكريم
20-10-2018, 11:03 AM

(7)
نزول القرآن على سَبْعَةِ أَحْرُفٍ

وهذا يجرُّنا للكلام عن الأَحْرُفِ السَّبْعَةِ.
وقد صَرَّحَ البيان السابق، في الأحاديث المذكورة آنفًا: بأَنَّ القرآن الكريم قد نزل على سبعةِ أَحْرُفٍ، ولم ينزل على حرفٍ واحدٍ، وبأيِّ هذه الحروف قرأتِ الأمةُ أصابت.
وأفادتِ الروايات: أَنَّ هذه الأحرف مُتَلَقًّاة عن الوحي الإلهيِّ، وليس اختيارًا ولا مذهبًا بشريًّا في القرآن، وإنما هي امتنانٌ من الله عز وجل على هذه الأمة الضعيفة بالتيسير والتخفيف، كما مضى صريحًا في لفظِ الحديث المذكور آنفًا في هذه المسألة.
وقد سبقت الإشارة إلى أَنَّ هذه الأحرف السبعة هي بمثابة المترادفات السبعة للمعنى الواحد، وليست سبعة اختلافات متباينة أو متضادة، فالخلاف هنا من جنس(الخلاف اللفظي) أو سَمِّهِ إِنْ شئتَ(اختلاف التنوِّعِ)، فليس اختلافًا حقيقيًّا أو اختلاف تضادٍّ، وإنما اختلافًا لفظيًّا أو سمِّه اختلافَ تَنَوُّعٍ.
فهي سبعة أوجهٍ متوافقة متوائمة من حيثُ المعنى، مختلفةً من حيثُ اللفظِ، يُستفاد منها تقرير المعجزة بأكثرِ من لفظٍ عربيٍّ صحيحٍ، كما يستفاد منها التخفيف على هذه قبائل العرب جميعًا بمخاطبتِها بلسانها الذي تقدر على النطق به، مع زيادة الإعجاز في المعجزة الواحدة، فهي معجزاتٌ متعدِّدةٌ في صورةِ معجزةٍ واحدةٍ اسمها:(القرآن الكريم).


(8)
معنى الأَحْرُفِ السَّبْعَةِ
وهذا يجرُّنا للكلام عن مَعْنى الأَحْرُفِ السَّبْعَةِ، ولنبدأ بنصٍّ واضحٍ في المسألة، ثم نذهب إلى أقوال العلماء، لنرى الراجح منها في ذلك.
رَوَى البخاريُّ (4992)، ومسلمٌ (818) من روايةِ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ (الْفُرْقَانِ) فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلاةِ، فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ، فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟، قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: كَذَبْتَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ (الْفُرْقَانِ) عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَرْسِلْهُ، اقْرَأْ يَا هِشَامُ"، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ"، ثُمَّ قَالَ:" اقْرَأْ يَا عُمَرُ"، فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ".أهـ
ولنُلْقِ نظرةً الآن على اختلاف الناس في ذلك، مع المعنى الراجح بأدلَّتِه إن شاء الله عز وجل.
لقد اختلف الناسُ في بيان الأحرف السبعة اختلافًا عظيمًا، فأوصلها بعضهم إلى خمسةٍ وثلاثين قولاً، كما نُقِلَ هذا عن ابن حبان، نقله ابن الجوزي في: (فنون الأفنان:67)، والقرطبي في:(تفسيره:1/42)، والسيوطي في (الإتقان:1/138)، وغيرهم.
ولَمَّا أشارَ ابنُ حجرٍ في:(فتح الباري:4992) إلى كلام ابن حبان؛ قال ابن حجرٍ:" وقال الْمُنْذِرِيُّ: أكثرُها غيرُ مختارٍ".أهـ
ونقَّح ابنُ الجوزي الأقوال، فاختار منها أربعة عشر قولاً، بينما اختار غيره عشرة أو سبعة أو ستةً..إلخ.
وأحجمَ بعضهم عن الكلام في المسألة، وزعم أنها من المتشابه أو المشكل.
وسنقتصر هنا على أشهرِ الأقوال في المسألةِ، وبعد البحث والتمحيص، وردِّ النَّظير إلى نظيره: رأيتُ أن أشهر الأقوال في المسألة: قول أبي عبيد ومَنْ معه القائلين بأن المراد بالأحرفِ هنا: اللغات، والقول الثاني: قول مَنْ قال: إِنَّ المراد بالأحرفِ السبعة في الحديث: تأدية المعنى باللفظِ المرادف ولو كان مِنْ لغةٍ واحدةٍ.
وهذا هو المشهور في المسألةِ عند تحرير الأقوال وتمحيصها، وما سواه فعلى نوعين:

النوع الأول:( إما أنه لا عبرة به) كقولِ مَنْ قال: إن المقصود بها: الخلاف في الحلال والحرام!!؟؛ وهذا من أبطلِ الباطلِ، وسيأتي تزييف أبي عبيدٍ له، وقد زَيَّفَه أيضًا أحمد بن أبي عمران فيما رواه الطحاوي عنه، وقال: وهو كما قال، نقل ابن عبد البر في:(التمهيد:8/276) ذلك عن ابن أبي عمران والطحاوي وأَيَّدَهما.

والنوع الثاني:( يرجع إلى ما سبق عند التمحيص والتحريرِ)، كقول مَنْ يقول: المراد بالأحرفِ: التصريف، أو الجمع والتوحيد، أو التذكير والتأنيث، ونحو هذا مما حكاه ابن حبان وابن الجوزي والقرطبي والسيوطي وغيرهم.
ووقع ذلك أيضًا في كلام ابن قتيبة، الذي لَخَّصَ الرازي معناه، وزاد عليه، ثم انتصر له الزرقاني في آخر أمره في كتاب:(مناهل العرفان).
وعبارة الرازي في:(اللوائح) في الوجه الأول مثلاً:" اختلاف الأسماء من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث"، وهذا الذي ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ وجهًا واحدًا ذَكَرَهُ ابن الجوزي تبعًا لابن حبان مثلاً وجهين.
وهكذا أكثر الوجوه التي ذكرها البعض وجهين وثلاثة، جمعها غيرهم في وجهٍ، وهذه إحدى أسباب الاختلاف في وجوه الأحرف السَّبْعَةِ بين ظاهر كلام العلماء، والتي يمكن عند التمحيص والتحرير أن نجمع بين كثيرٍ منها، ونزيل عنها إشكال وجود الخلاف فيما بينها.
ومِنْ جهةٍ أخرى، فقد ذكر الرازي وغيره أشياءً بألفاظٍ ذكرها غيرهم بألفاظٍ أخرى، وبإمكاننا إرجاع كلامه المذكور، والذي هو تنقيحٌ لكلام ابن قتيبة كما ذكر ابن حجر، (بل وزاد عليه النصّ على اللهجات)، يمكننا إرجاع الكلام المذكور إلى القول الثاني السابق في أَنَّ المراد بالأحرف السبعة: تأدية المعنى باللفظ المرادف حتى وإن كان مِن لغةٍ واحدةٍ، (وسيأتي).
وبهذا يمكن الجمع بين الأقوال التي ظاهرها الاختلاف، وطرح ما يخالف الصواب، لتعود الأقوال بعد ذلك إلى ما قرَّرَهُ أهل اللغة العارفين بها، والتي بها نزل القرآن، وهي التي بها يُفْهَمُ نصوص الإسلام الواردة.
ولذا سأقتصر على القولين السابقين، وأنظر فيهما لاستخلاص الراجح منهما بأدلَّتِه إن شاء الله تعالى كالتالي:

القول الأول: قول أبي عبيدة ومَنْ معه في أَنَّ المقصود بالأحرفِ في الحديث: " اللغات".
ولو رجعنا إلى مادة(حرف) من كتب اللغة، فسنجد المراد بالأحرف السبعة: سبع لغاتٍ من لغات العرب، وإلى هذا ذهب أبو عبيد في كتاب(الغريب: 2/11، 3/159).
فقال أبو عبيدٍ بعد أَنْ ذَكَرَ اختلافَ الْقَرَاءة من الصحابة في بعض الحروف، وعرضهم ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نزول القرآن على سبعة أحرُفٍ، (وقد مضى حديث اختلاف عُمَر وهشام في هذا)؛ قال أبو عبيد عقب ذلك:" فهذا يُبَيِّنُ لك أَنَّ الاختلافَ: إِنَّما هو في اللَّفْظِ، والمعنى واحدٌ، ولو كان الاختلاف في الحلالِ والحرام: لما جازَ أَنْ يُقال في شيءٍ هو حرامٌ: هكذا نزلَ، ثم يقول آخر في ذلك بعينه: إِنَّه حلالٌ، فيقول: هكذا نزلَ، وكذلك الأمر والنهي; وكذلك الأخبار لا يجوز أَنْ يُقال في خَبَرٍ قد مضى: إِنَّه كان كذا وكذا، فيقول: هكذا نزل، ثم يقول الآخر بخلاف ذلك الخبر، فيقول: هكذا نزل; وكذلك الخبر المستأنف؛ كخبر القيامة والجنة والنار، ومَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ في هذا شيئًا مِن الاختلافِ، فَقَدَ زَعَمَ أَنَّ القرآنَ يُكَذِّبُ بعضُه بعضًا ويتناقض، وليس يكون المعنى في السبعة الأحرف إلا على اللغات لا غير، بِمَعْنًى واحدٍ لا يُخْتَلَفُ فيه في حلالٍ ولا حرامٍ ولا خَبَرٍ ولا غير ذلك".أهـ
وقد ذكر أبو عبيد وعنه ابن الأثير وغيرهما نحو هذا المعنى في مادة:(مرر) أيضًا، وتُراجع من(الغريب) لأبي عبيد، و:(النهاية) لابن الأثير، و:(اللسان) لابن منظور.
وإلى هذا ذهبَ أبو العباس النحوي، وقال الأزهري:" فأَبو العباس النحْويّ -وهو واحد عصْره- قد ارتضى ما ذهبَ إليه أَبو عبيد واستصوَبه، قال: وهذه السبعة أَحْرُفٍ -التي معناها: اللغات- غير خارجةٍ مِن الذي كُتِبَ في مصاحفِ المسلمين التي اجتمع عليها السلَف المرضيُّون والخَلَف المتبعون، فمن قرأَ بحرف ولا يُخالِفُ المصحف بزيادةٍ أَو نقصان أَو تقديم مؤخّرٍ أَو تأْخير مُقَدَّم، وقد قرأَ به إمامٌ من أَئمةِ القُرّاء المشتهرين في الأَمصار، فقد قرأَ بحرفٍ مِن الحروف السبعة التي نزل القرآن بها، ومِن قرأَ بحرفٍ شاذٍّ يخالف المصحف وخالف في ذلك جمهور القرّاء المعروفين، فهو غير مصيبٍ، وهذا مذهب أَهل العلم الذين هم القُدوة ومذهب الراسخين في علم القرآن قديماً وحديثاً، وإلى هذا أَوْمأَ أَبو العباس النحوي وأَبو بكر بن الأَنباري في كتابٍ له أَلَّفَهُ في اتِّباع ما في المصحف الإمام، ووافقه على ذلك أَبو بكر بن مجاهد مُقْرِئ أَهل العراق وغيره من الأَثبات المتْقِنِين، قال: ولا يجوز عندي غير ما قالوا، واللّه تعالى يوفقنا للاتباع، ويجنبنا الابتداع".أهـ
وإلى هذا: ذهبَ ابنُ الأَثير في مادة(حرفٍ) أيضًا من كتابه:(النهاية)، وقال:
" وفيه أَقوال غير ذلك، هذا أَحسنها".
وعبارة:(القاموس المحيط):" ونَزَلَ القُرْآنُ على سَبْعَةِ أحْرُفٍ: سَبْعِ لُغاتٍ من لُغَاتِ العَرَبِ، ولَيْسَ مَعْنَاهُ: أن يكونَ في الحَرْفِ الواحِدِ سَبْعَةُ أوْجُهٍ وإنْ جاءَ على سَبْعَةٍ أو عَشَرَةٍ أو أكْثَرَ؛ ولكنِ المَعْنَى: هذِهِ اللُّغَاتُ السَّبْعُ مُتَفَرِّقَةٌ في القُرْآنِ".أهـ
وإلى هذا القولِ ذهب أيضًا: ابن عطِيَّة، والطبري في:(تفسيره:1/51)، وابن الجوزي في:(فنون الأفنان:85)، وغيرهم.
فالمراد بالحديث على هذا القول:" أُنْزِلَ القرآنُ على سبعِ لغاتٍ"، وهو الوجه الرابع عشر والأخير عند ابن الجوزي في(فنون الأفنان) ذَكَرَهُ ابن الجوزي، ثم قال:" وهذا هو القول الصحيح، وما قبلهُ لا يثبُت عند السَّبْكِ، وهذا اختيارُ ثَعْلَب وابن جرير".أهـ
لكن اختلف أصحاب هذا القول في اللغات المقصودة هنا على التعيين، فقيل: لغة لقريشٍ ولغة لليمن ولغة لتميم ولغة لجُرْهُم ولغة لهوازن ولغة لقُضاعة ولغة لطَيٍّ.. وقيل غير ذلك.
قال ابن الجوزي:" والذي نراه أَنَّ التعيين من اللغات على شيءٍ بعينه لا يصح لنا سنده، ولا يثبت عند جهابذةِ النَّقْلِ طريقه؛ بل نقولُ: نزلَ القرآن على سبعِ لغاتٍ فصيحةٍ مِنْ لغات العرب، وكان بعض مشايخنا يقول: كله بلغة قريشٍ، وهي تشتمل على أصولٍ من القبائل هم أرباب الفصاحة، وما يخرج عن لغة قريشٍ في الأصل لم يخرج عن لغتِها في الاختيار".أهـ
وعلى هذا القول عِدَّة إشكالات، منها: أَنَّه لم يحصر لغات العرب التي فوق السبعة؛ لأنَّ لغات العرب أكثر مِن سبعةٍ؛ ولكنهم أجابوا بأَنَّ المراد هنا مِن لغات العرب: أفصحها.
لكنَّ أقوى الإشكالات على هذا القول: أَنه مخالفٌ لظاهر الحديث السابق؛ لأن كلا المختلفين هنا (وهما عُمَر وهشام رضي الله عنهما) كان يقْرَأُ بلغةِ قريشٍ، فلا وجه هنا لِمَنْ يقول: إِن المراد بالأحرف السبعة: سبع لغات.
ومِمَّا يرد هذا القول أيضًا: ما ثبتَ قطعيًّا مِنْ حرْقِ عثمان رضي الله عنه للمصاحف بعد نسخ المصحف الإمام، المعروف والمتداول باسم المصحف العثماني، وقد نَسَخَ منه عثمان رضي الله عنه نسخًا وأرسلها إلى الأقطار الإسلامية، دون خلافٍ بينها، وقد ثبتَ قطعيًّا أَمْر عثمان رضي الله عنه لزيد بن ثابتٍ ومَنْ معه مِنْ كَتَبَةِ المصحف العثماني: أن يكتبوه بلغة قريشٍ، فإنما نزل بها القرآن، (وقد مضى ذلك في مداخلة سابقة في الموضوع عن عثمان رضي الله عنه، ولعلي أعيده ثانية في مداخلةٍ لاحقةٍ).
وعُلِمَ قطعيًّا (كما سبق) مِنْ قولِ عثمان رضي الله عنه: أَنَّه لم يُغَيِّر شيئًا في القرآن من مكانه؛ إِذْ قدِ التزم الواردَ المسموع مِن لفظِ النبي صلى الله عليه وسلم، ونسخَ منه المصحفَ العثماني المعروف بالمصحف الإمام، فَعُلِمَ مِنْ ذلك أَن الأحرف السَّبَعْةِ المذكورة في الحديث: لا بد وأَنْ تكون موجودةً في لغة قريشٍ نفسها.
قال ابن حجرٍ في(فتح الباري):" وقال أبو حاتم السِّجِسْتَانِيُّ: نَزَلَ بلغةِ قُرَيْش وَهُذَيْل وَتَيْم الرَّبَاب وَالأَزْد وَرَبِيعَة وَهَوَازِن وَسَعْد بْن بَكْر، وَاسْتَنْكَرَهُ اِبْنُ قُتَيْبَة وَاحْتَجَّ بقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ}، فعلى هذا فتكون اللُّغَات السَّبْع في بُطُون قُرَيْش, وبذلكَ جَزَمَ أبو عليٍّ الأَهْوَازِيّ".
وقال ابن حجر:" ومِنْ ثَمَّ أَنْكَرَ عُمَر على ابن مسعود قراءَته (عَتَّى حِين) أَيْ: (حَتَّى حِين) وكتبَ إليه: إِنَّ القرآن لم ينزل بلغةِ هُذَيْل فَأَقْرِئِ النَّاس بلغةِ قُرَيْش ولا تُقْرِئهُمْ بلغة هُذَيْل".أهـ [وانظر: التمهيد لابن عبد البر: 8/278].
ولكن خالف ابنُ قتيبة –كما نقل ابن حجرٍ عنه- في أول(تفسير الْمُشْكِل) له، فقال:" كان مِن تيسير الله أَنْ أمر نَبِيَّه أَنْ يَقْرَأ كُلُّ قَوْمٍ بلغتهم, فَالْهُذَلِيّ يَقْرَأ (عَتَّى حِين) يُرِيد {حَتَّى حِين}، وَالأَسَدِيّ يَقْرَأ (تِعْلِمُونَ) بِكَسْرِ أَوَّله, وَالتَّمِيمِيُّ يَهْمِز، وَالْقُرَشِيّ لا يَهْمِز". قال ابن قتيبة:" ولو أراد كلُّ فريقٍ منهم أن يزول عن لُغتِه وما جرى عليه لسانُه طفلاً وناشئًا وكهلاً: لَشَقَّ عليه غاية المشقَّةِ، فَيَسَّرَ عليهم ذلك بِمَنِّهِ, ولو كان المراد أَنَّ كلَّ كلمةٍ منه تُقْرَأ على سبعةِ أوجُهٍ لقال مثلاً: (أُنْزِلَ سَبْعَة أَحْرُف), وَإِنَّمَا المراد أَنْ يَأْتِي في الكلمة وجهٌ أو وجهانِ أو ثلاثة أو أكثر إلى سبعةٍ".أهـ
وقال ابن عبد البر في:(التمهيد:8/280):" قول من قال: إن القرآن نزل بلغة قريش معناه عندي: في الأغلب والله أعلم؛ لأن غير لغة قريش موجودة في صحيح القراءات من تحقيق الهمزات ونحوها وقريش لا تهمز".
ولكن إذا كان هو الأغلب كما يقرر ابن عبد البر، فالحكم للأغلب، والنادر لا حُكم له، فلا إشكال في وجود بعض الكلمات بغير لغة قريشٍ؛ لأنها ليست الأصل فيه، ولا غالبة عليه.
وما ذهب إليه عُمر بن الخطاب رضي الله عنه، هو الموافق لعمل عثمان رضي الله عنه الذي أجمع عليه الصحابةُ فيما بَعْدُ، بل أجمعتْ عليه الأمة قاطبةً.
ولذا قال ابن عبد البر في:(التمهيد:8/280):" وأنكر أكثر أهل العلم أن يكون معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أُنْزِلَ القرآن على سبعة أحرفٍ): سبع لغاتٍ، وقالوا: هذا لا معنى له؛ لأنه لو كان ذلك لم يُنْكر القوم في أولِ الأمر بعضهم على بعضٍ؛ لأنه من كانت لغته شيئًا قد جبل وطبع عليه وفطر به لم يُنْكَر عليه، وفي حديث مالكٍ عن ابن شهابٍ المذكور في هذا الباب [وهو الحديث السابق في اختلاف عُمَر وهشام] رَدُّ قولِ مَن قالَ: سبع لغاتٍ؛ لأن عمر بن الخطاب قرشي عدوي وهشام بن حكيم بن حزام قرشي أسدي، ومُحَال أَنْ يُنكر عليه عُمر لغتَه؛ كما محال أن يُقْرِئَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم واحدًا منهما بغيرِ ما يعرفه مِن لُغَتِه، والأحاديث الصحاح المرفوعة كلها تدلّ على نحوِ ما يدل عليه حديثُ عُمَرَ هذا، وقالوا: إنما معنى السبعة الأحرف: سبعة أوجهٍ من المعاني المتفقة المتقاربة بألفاظٍ مختلفةٍ؛ نحو: أَقْبِلْ وتَعَالَ وهَلُمَّ، وعلى هذا الكثير مِنْ أهلِ العلمِ".
وذكر ابن عبد البر بعض الروايات، ثم قال:" وهذا كله يعضد قول مَن قال: إِنَّ معنى السبعة الأحرف المذكورة في الحديث: سبعة أوجهٍ من الكلام المتفق معناه، المختلف لفظه؛ نحو: هَلُمَّ وَتَعَالَ وَعَجِّلْ وَأَسْرِعْ وأَنْظِرْ وَأَخِّر، ونحو ذلك، وسنورد من الآثار وأقوال علماء الأمصار في هذا الباب: ما يتبين لك به أَنَّ ما اخترناه هو الصواب فيه إن شاء الله، فإنه أصح من قول من قال: سبع لغات مفترقات؛ لما قدمنا ذكره، ولما هو موجود في القرآن بإجماعٍ من كثرةِ اللغات المفترقات فيه، حتى لو تقصيت لَكَثُرَ عددها، وللعلماء في لغات القرآن مؤلفاتٌ تشهد لما قلنا".
وأوردَ ابنُ عبد البر الروايات الشاهدة لذلك، ونقل موافقة الطحاوي له فيما ذهب إليه.

القول الثاني: قولُ مَنْ قال: المراد بالأحرفِ السبعةِ:" تأدية المعنى باللفظ المرادف ولو كان مِن لغةٍ واحدةٍ"، فلننظر قول عمر:" فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، فهو قد عَرِف الحروف بمجرد سماعه لها، وعَبَّرَ عنها بالحروفِ، كما عَبَّر الحديث بالأحرف السبعةِ، فلزم علينا أَنْ نفهمَ المراد بالحروف مِن خلال لغة العرب الفصيحة الواضحة الظاهرة التي تكلمت بها نصوص الإسلام، مع الالتزام بظاهر لغة العرب دون تأويلٍ؛ إلا لقرينةٍ تُخْرِجنا من الظاهر الصريح الواضح إلى غيره، لأَنَّه لابد وأَنْ نرجع إلى اللغة التي نزل بها النص عندما لا نجد تفسيرًا للنصِّ من خلال النصِّ، ففي عدم التفسير إحالةٌ على المعهود المعروف مِن لغةِ العرب، وهي التي فَهِم منها عُمَرُ رضي الله عنه معنى الأحرف السبعة الموجودة في الحديث؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد خاطبَ بها عُمر وغيره، ولم يُفَسِّر المراد من الأحرف السبعة؛ فدلَّ ذلك على أنَها كانت معروفة ومفهومة لديهم من لُغَة العرب الظاهرة الواضحة، وهذا يؤكد أنها ليست هي(سبع لغات) كما سبق في القول الأول؛ لأن تأويلها بـ: (سبع لغات) خروجٌ عن ظاهر اللفظ لغةً إلى معنًى آخر يحتاج في إثباته إلى قرينة، ولا قرينة هنا تؤيِّد الخروج عن الظاهر إلى التأويل، كما ترى؛ لأنَّ كلا الْمُخْتَلِفَيْن هنا (عُمر وهشام) كانا يتبعان لغةً واحدةً، وقد نَبَّه على ذلك ابنُ عبد البر وغيره..
إذن ما المراد بالحرف هنا!!؟.
المراد بالحرفِ هنا: القِراءة التي تُقرأُ على أَوجُه، هذا ما نجده في لغةِ العرب، مختصًّا بموضوعنا، ويُطلق الحرف أيضًا على الجهةِ والطَّرَف، كما يطلق على حَرْفِ الهجاء المعروف، وله إطلاقات أخرى، لكن الذي يهمنا هنا: معناه الخاص بموضوعنا في الأحرف السَّبْعة.
" قال الخليل بن أحمد: معنى قوله سبعة أحرفٍ: سبع قراءات، والحرف هاهنا القراءة"؛ نقَلَهُ ابنُ عبد البر في:(التمهيد:8/274).
وحكى ابنُ منظور في مادة (حرف) هذا المعنى عن ابن سيدة أيضًا.
وقال الأزهري:" وكلُّ كلمة تُقْرَأُ على الوجوه مِن القرآن تُسَمَّى حَرْفاً، تقول: هذا في حَرْف ابن مسعود؛ أَي: في قراءةِ ابن مسعود".أهـ
وفي:(الْمُغْرِب في ترتيب الْمُعْرِب، للمطرز:1/196):" وأما قوله: (نزَل القرآن على سبعة أحرفٍ)، فأحسنُ الأقوال: أنها وجوه القراءة التي اختارها القُراء، ومنه فلان يقرأُ بحرفِ ابنِ مسعود".أهـ
قال ابن حجر:" قَوْله:(فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ)؛ أَيْ: مِنْ الْمُنْزَل، وَفِيهِ إِشَارَة إِلَى الْحِكْمَة فِي التَّعَدُّد الْمَذْكُور, وَأَنَّهُ لِلتَّيْسِيرِ عَلَى الْقَارِئ, وَهَذَا يُقَوِّي قَوْل مَنْ قَالَ: الْمُرَاد بِالأَحْرُفِ: تَأْدِيَة الْمَعْنَى بِاللَّفْظِ الْمُرَادِف وَلَوْ كَانَ مِنْ لُغَة وَاحِدَة؛ لأَنَّ لُغَة هِشَام بِلِسَانِ قُرَيْش وَكَذَلِكَ عُمَر, وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ، اِخْتَلَفَتْ قِرَاءَتهمَا. نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ اِبْن عَبْد الْبَرّ, وَنَقَلَ عَنْ أَكْثَر أَهْل الْعِلْم: أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَاد بِالْأَحْرُفِ السَّبْعَة".
وقد مضى كلام ابن عبد البر بنصِّه قبل قليل في التعقيب على القول السابق، فلا داعي لإعادته هنا، وإلى هذا ذهب الطحاوي وغيره أيضًا كما مضى.
ومما يُبَيِّن ذلك: قول ابن مسعود:" إِنِّي قد سمعتُ الْقَرَأَةَ، فوجدتُهم متقاربين، فاقرؤوا كما عُلِّمْتِمْ، إنما هو كقولِ أَحدِكم: هَلُمَّ وتَعَالَ وأَقْبِلْ".
وقولُ ابن مسعودٍ هذا: ذكره ابن حجر وغيره مُعَلَّقًا بدون إسناد، وقد أسندهُ الطبري في:(التفسير)، وغيره، بإسنادٍ صحيحٍ عنه.
وهذا القول يوافق ظاهر الحديث السابق في قصة عُمَر مع هشام رضي الله عنهما، واختلافهما في القراءة، رغم أنهما يتبعان لغةً واحدةً، وكذا ينتظم أكثر الأقوال الأخرى، ولا يعارضها، لأَنَّ اللفظ المرادف الدالَّ على المعنى مع اختلاف اللفظ: ينتظم الجمع والمفرد والمذكر والمؤنث والتصريف والإعراب وغير ذلك من الوجوه التي ذكرها جماعةٌ من العلماء، فترجع إليه عدة أقوالٍ مِن أقوال العلماء في هذا الباب.
ومِمَّا يمكن إرجاعه له مثلاً: قول ابن قتيبة، ثم تنقيح الرازي له وزيادته عليه، وهو الرأي الذي انتصر له الزرقاني في(المناهل)، وقد ذكره ابن حجر بشيءٍ من التعقيب، فأردتُ أن أنقله مِن عنده.
قال ابن حجر:" وَقَدْ حَمَلَ اِبْن قُتَيْبَة وَغَيْره الْعَدَد الْمَذْكُور عَلَى الْوُجُوه الَّتِي يَقَع بِهَا التَّغَايُر فِي سَبْعَة أَشْيَاء: الأَوَّل: مَا تَتَغَيَّر حَرَكَته وَلا يَزُول مَعْنَاهُ وَلا صُورَته, مِثْل:{وَلا يُضَارّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيد} بِنَصْبِ الرَّاء وَرَفْعهَا. الثَّانِي: مَا يَتَغَيَّر بِتَغَيُّرِ الْفِعْل مِثْل:(بَعُدَ بَيْن أَسْفَارنَا) وَ{بَاعِدْ بَيْن أَسْفَارنَا} بِصِيغَةِ الطَّلَب وَالْفِعْل الْمَاضِي. الثَّالِث: مَا يَتَغَيَّر بِنَقْطِ بَعْض الْحُرُوف الْمُهْمَلَة مِثْل:(ثُمَّ نُنْشِرُهَا) بِالرَّاءِ وَالزَّاي. الرَّابِع: مَا يَتَغَيَّر بِإِبْدَالِ حَرْف قَرِيب مِنْ مَخْرَج الْآخَر مِثْل:{طَلْح مَنْضُود}، فِي قِرَاءَة عَلِيٍّ:(وَطَلْع مَنْضُود). الْخَامِس: مَا يَتَغَيَّر بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِير مِثْل:{وَجَاءَتْ سَكْرَة الْمَوْت بِالْحَقِّ}، فِي قِرَاءَة أَبِي بَكْر الصَّدِيق وَطَلْحَة بْن مُصَرِّف وَزَيْن الْعَابِدِينَ:(وَجَاءَتْ سَكْرَة الْحَقّ بِالْمَوْتِ). السَّادِس: مَا يَتَغَيَّر بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَان كَمَا تَقَدَّمَ فِي التَّفْسِير عَنْ اِبْنِ مَسْعُود وَأَبِي الدَّرْدَاء:(وَاللَّيْل إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَار إِذَا تَجَلَّى وَالذَّكَر وَالْأُنْثَى)، هَذَا فِي النُّقْصَان, وَأَمَّا فِي الزِّيَادَة: فَكَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِير{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب}، فِي حَدِيث اِبْنِ عَبَّاس:(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتك الْأَقْرَبِينَ, وَرَهْطك مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ). السَّابِع: مَا يَتَغَيَّر بِإِبْدَالِ كَلِمَة بِكَلِمَةٍ تُرَادفهَا مِثْل:{الْعِهْن الْمَنْفُوش}، فِي قِرَاءَة اِبْنِ مَسْعُود وَسَعِيد بْن جُبَيْر:(كَالصُّوفِ الْمَنْفُوش).
وَهَذَا وَجْهٌ حَسَن؛ لَكِنْ اِسْتَبْعَدَهُ قَاسِمِ بْن ثَابِت فِي (الدَّلَائِل)؛ لِكَوْنِ الرُّخْصَة فِي الْقِرَاءَات إِنَّمَا وَقَعَتْ وَأَكْثَرهمْ يَوْمَئِذٍ لا يَكْتُب وَلا يَعْرِف الرَّسْم, وَإِنَّمَا كَانُوا يَعْرِفُونَ الْحُرُوف بِمَخَارِجِهَا. قَالَ: وَأَمَّا مَا وُجِدَ مِنْ الْحُرُوف الْمُتَبَايِنَة الْمَخْرَج الْمُتَّفِقَة الصُّورَة مِثْل: (نُنْشِرُهَا) وَ (نُنْشِرُهَا)، فَإِنَّ السَّبَب فِي ذَلِكَ تَقَارُبمَعَانِيهَا, وَاتَّفَقَ تَشَابُه صُورَتهَا فِي الْخَطّ.
قُلْت [القائل ابن حجر]: وَلا يَلْزَم مِنْ ذَلِكَ: تَوْهِين مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ اِبْنُ قُتَيْبَة, لاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الانْحِصَار الْمَذْكُور فِي ذَلِكَ وَقَعَ اِتِّفَاقًا, وَإِنَّمَا اِطَّلَعَ عَلَيْهِ بِالاسْتِقْرَاءِ, وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَة الْبَالِغَة مَا لا يَخْفَى.
وَقَالَ أَبُو الْفَضْل الرَّازِيَّ: الْكَلام لا يَخْرُج عَنْ سَبْعَة أَوْجُهٍ فِي الاخْتِلاف: الأَوَّل: اِخْتِلاف الأَسْمَاء مِنْ إِفْرَاد وَتَثْنِيَة وَجَمْع أَوْ تَذْكِير وَتَأْنِيث. الثَّانِي: اِخْتِلاف تَصْرِيف الأَفْعَال مِنْ مَاضٍ وَمُضَارِع وَأَمْر, الثَّالِث: وُجُوه الإِعْرَاب, الرَّابِع: النَّقْص وَالزِّيَادَة, الْخَامِس: التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير, السَّادِس: الإِبْدَال, السَّابِع: اخْتِلاف اللُّغَات كَالْفَتْحِ وَالإِمَالَة وَالتَّرْقِيق وَالتَّفْخِيم وَالإِدْغَام وَالإِظْهَار وَنَحْوِ ذَلِكَ. قُلْت [القائل ابن حجر]: وَقَدْ أَخَذَ [يعني الرازي] كَلامَ ابْنِ قُتَيْبَة وَنَقَّحَهُ".أهـ

والرازي لم يُنَقِّح كلام ابن قتيبة فقط، وإنما زاد عليه اختلاف اللهجات أيضًا.
لكن لا يَغِيِّبَنَّ عن بالك: أَنَّ توهين قاسم بن ثابت لكلام ابن قتيبة وجيهٌ جدًّا من حيثُ حصر الأحرف السَّبْعَة في الوجوه التي ذكرها ابن قتيبة؛ لأنَّه بإمكان غيره أن يزيد عليها أو ينقص منها، كما زاد الرازي عليه مثلاً: اختلاف اللهجات في النطق باللفظِ الواحدِ، وقد اعترف ابن قتيبة بهذا الاختلاف وكذا ابن الجزري، لكنهما لم يعتبراه من وجوه الأحرف السَّبْعَةِ، في الوقت الذي اعترفا بتأثيرِه على النطق باللفظ الواحد.
بل لم يذكر ابن قتيبة غير هذا الفارق في أول:(المشكل) كما سبق النَّقْل عنه قبل قليل، وحصر غيره الأحرف السَّبْعة في اختلاف اللهجات فقط.
ولا يَغِيْبَنَّ عنك: أنَّ القرآن قد نزل على أُمَّةٍ أُمِّيَّة لا تقرأ ولا تكتب، وإنما كانت تعرف الفصاحة والبلاغة نطقًا وسماعًا، فهي إنما تعرف مخارج الحروف لا رسمها وطريقة كتابتها، هذا هو الأصل في الأمة آنذاك، ولذا فقد طلب النبي صلى الله عليه وسلم التخفيف مرارًا عن هذه الأمة الأُمِّيَّة، حتى أوصلها إلى سبعةِ أحرُفٍ يمكن للقارئ أن يقرأ بها، يعني: سبع وجوهٍ يمكن للقارئ أن يَقْرَأَ بها.
هذا هو المتبادر الظاهر في معنى الأحرُف من لغة العرب، ثم هو الموافق لظاهر الحديث كما سبق، وإليه ذهب الخليل بن أحمد والطحاوي وابن عبد البر وغيرهم كما سبق.
وهذه الوجوه: يمكن أَنْ تكون اختلافًا في اللهجة، أو في التصريف، أو الإعراب، أو التذكير والتأنيث، وغير ذلك من الوجوه المقبولة مِمَّا ذَكَرَهُ العلماء من حيثُ تحليل اللفظ والنَّظَر إلى كيفية الاختلاف بين اللفظين المقروء بهما، ولكن ينبغي التفريق هنا بين أمرين:

الأول: بين الأحرف السبعة الواردة في الحديث.
الثاني: وجوه اختلاف الأوجه السبعة، وكيفية الخلاف فيما بينها.
فالثاني هنا مترتِّبٌ على الأول، وأثرٌ له، وليس سابقًا عليه، ولاشكَّ أنَّ حصر الأحرف السبعة في وجوه اختلافها: خطأٌ عظيم؛ لأنَّه يعني: الخلط بين الأحرف السبعة نفسها، وبين الأثر المترتِّب عليها، من البحث في وجوه اختلافها وفائدتها وكيفيتها وغير ذلك، فهذه الأبواب كلّها آثارٌ مترتِّبةٌ على وجود الأحرف السبعةِ، وليست فصولاً ولا مُقَدِّماتٍ سابقةٍ على وجودها.
نعم، وليس تفسيرًا للأحرف السبعة؛ لأنَّه لابد في التفاسير والحدود في مثل هذا: أن تكون شاملةً لكافة وجوه الْمُفَسَّرِ وبيان جوانبه؛ وهذا ما تفتقده التفسيرات آنفة الذِّكْر وكثير مما يشبهها؛ لخلوِّها عن تعريف الأحرف السبعة على الحقيقةِ.
ومِن هنا نستطيع أن نقول:
إِنَّ تعريف الأحرُف السبعة والمراد منها: لم يُخْتَلَف فيه على الحقيقةِ، وإِنَّما وردَ الاختلاف في كيفية التفريق بين الأحرُف السبعة، وما يميِّز كلَّ حرفٍ منها عن مثيلِه في موضعٍ بعينه، فالأول مُذكَّر والثاني مؤَنَّث، أو الأول جمع والثاني مُفْرد، أو الأول مرفوع والثاني منصوب، وهكذا سائر وجوه التفريق والتمايز بين الأحرف السبعة.
ومِمَّا يُؤْسَفُ له حقيقةً: أن تنتقلَ المعركة في التفريق بين الأحرُف أو التمييز بينها في موضعٍ بعينه إلى مجال بيان الأحرف السبعة تعريفًا من حيثُ المراد منها، بحيثُ صار الخلاف محصورًا وعبر سنواتٍ في أثرٍ من آثار الأحرف السبعة، في الوقت الذي اختفى فيه البحث في تعريف الأحرف السبعة إلا نادرًا!!؟.
وهذا الذي ذكرتُه لك هو: خلاصة ما مَنَّ الله عز وجل به على العبد الضعيف كاتب هذه السطور، وآمل أَنْ يفتح الله عز وجل القلوب والأبصار له، فتعي ما أردتُه وتنصح فيه.
ويمكنني أَنْ أُلَخِّصَ لك نتائجُ ما سبق هنا في الآتي:

أولاً: أن الراجح في تعريف الأحرف السبعة هو:" سبعة وجوه أو سبعة قراءات بألفاظٍ مختلفةٍ للمعنى الواحد، أو هو: تأدية المعنى الواحد بأكثر من لفظٍ، نحو أَقْبِلْ، هَلُمَّ، تَعَالَ".

ثانيًا: اختُلِفَ في صورة المخالفة والتمييز بين وجوه الأحرف السَّبْعَةِ على وجوهٍ يمكن الجمع بينها، لكنها جميعًا ليست تعريفاتٍ للأحرفِ السبعة، وإنما هي أثرٌ من آثارِ البحث في الأحرف السبعة، وتمييز بعضها مِن بعضٍ.
لكن لابد من التنبيه هنا على أمور:

الأول: أَنَّ هذه الوجوه هي بمثابة المترادفات لمعنًى واحدٍ، وليست اختلافًا حقيقيًّا أو اختلاف تضادّ، وإنما هي اختلاف تنوُّع في اللفظِ للتعبيرِ عن مَعْنًى واحدٍ، زيادةً في البلاغة والفصاحة وتقرير المعجزة القرآنية.

الثاني: أنها وحي، وليست من اختيار البشر، بل هي جزءٌ مِن الوحي، تلقَّاها النبي صلى الله عليه وسلم وحيًا، وعَلَّمَها أصحابُه صلى الله عليه وسلم، فبلَّغوها مَنْ بعدَهم.

الثالث: أنها متفرِّقة في القرآن الكريم كله، ولا يعني نزوله على سبعة أحرفٍ أن كل كلمة منه تُقْرأ على سبعةِ أوجهٍ، فهذا مما لم يقل به أحدٌ قط، وقد أنكره العلماء ونبهوا عليه، وقد مضى تنبيه أبي عبيد وابن عبد البر وغيرهما على هذا.

الرابع: لا يصح اعتقاد الزيادة في القراءة على سبعةِ أوجهٍ؛ لأنَّه لم يزد في الحديث على سبعةٍ، وما ذكروه في نحو {أُفٍّ} زيادةً على ثلاثين وجهًا كما حُكِي عن الرماني، فلا يصح، فإما أنْ يعود إلى سبعةِ أوجهٍ، أو يُؤْخَذ منه الأوجه السبعة الموافقة للمصحف، ويُتْرَك ما سواها.

الخامس: أَنَّ الأحرف السبعة شيءٌ، والقراءات السبعة التي صنَّفها بعض القُرَّاء شيءٌ آخر، وليسا واحدًا، وقد نَبَّه على ذلك الجماعات من أهل العلم قديمًا وحديثًا، كابن عبد البر وابن حجر وغيرهما.
وقد صنَّفَ ابن مجاهد والشاطبي وغيرهما قراءة سبعةً من الأئمة، ففهم بعضهم من ذلك: أنها الأحرف السبعة، أو أنه لا يصح غيرها، وليس كذلك، بل ربما كان في القراءات العشر: ما هو أكثر شهرةً مما ذكره ابنُ مجاهد وغيره في تصنيفهم قراءات سبعة من الأئمة، ومَرَدّ ذلك كله على الِعلْم والاطلاع وطريقة التصنيف، وليس المراد لابن مجاهد ولا الشاطبي ولا غيرهما من أئمة القراءات: توهين قراءة غير هؤلاء الأئمة السبعة الذين صنَّفوهم، وإنما المراد: جمع قراءات سبعة أئمة، كما جمع غيرهم قراءات عشرة أئمة، لكنها جميعًا سواءٌ كانت لسبعةٍ أو لسبعين أو لسبعمائة لا تخرج عن الأحرُفِ السَّبْعَة التي نزل بها القرآن الكريم.
فالحديث يتكلَّم عن وجوهٍ سبعةٍ في القراءة، وأما ابنُ مجاهد ونحوه، فمرجع الكلام عندهم عن سبعة أئمة.
وبعبارةٍ أخرى: الحديث يتكلم عن وجوهٍ قرآنيةٍ، وابن مجاهد وأمثاله اختاروا سبعةَ أئمةٍ مِمَّن نقلوا هذه الوجوه القرآنية، فقيَّدوا ما نقلوه، فالأئمة السبعة المذكورون عند ابن مجاهدٍ مثلاً: هم من نَقَلَةِ الوجوه القرآن الذي نزل على سبعة أحرُفٍ، كما أن غيرهم من العشرة أو غيرهم قد شاركهم في نقل القرآن الكريم، وإِنَّما عُنِيَ العلماء بهؤلاء الأئمة: نظرًا لدقَّتِهم وعنايتهم وتفرُّغهم لإتقان النَّقْل والرواية والسماع للقرآن الكريم.
فهذا كما ترى ليس اختلافًا ولا ترادفًا، وإنما هو: قرآنٌ نزل على سبعةِ أحرُفٍ، ونقلَهُ الكافَّةُ من الناس إلى مَنْ بعدَهم، فبرزَ من بين النَّقَلَةِ أئمة كبار، اختار ابنُ مجاهدٍ مثلاً سبعةً منهم، فصنَّفَ رواياتهم وسماعهم في كتابه، بينما اختار آخرون غير زيادة على ما اختاره ابنُ مجاهدٍ من أئمةٍ، لكنَّهم جميعًا يدورون في فلك نقل القرآن الكريم الذي نزل على سبعةِ أَحْرُفٍ.

(9)
وبهذا القَدْر نكتفي في الكلام عن الأحرف السَّبعةِ، والقراءات القرآنية، إِذْ لم يكن قصدنا: الاستفاضة في هذا الموضوع، وإنما أردنا الردَّ على مَنْ لم يفهم أبعاد المعجزة القرآنية، فزعم أن اختلافات القراءات من جِنس التحريف والتَّخْطِئَةِ للقرآن الكريم، (وقد سبق كلامه)، فبان مِمَّا سبق: أنه قد تكلَّمَ بغير علمٍ ولا هدًى، وإنما: حطبَ بليلٍ!!؟.
كما سبق بحمد الله عز وجل: أَنَّ اختلاف القراءات ناتجٌ عن وحي أَنْزَلَهُ الله عز وجل على نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، وَبَلَّغَهُ رسولُه صلى الله عليه وسلم لأصحابهِ، فنقَلُوه إلى مَنْ بعدهم، وهلم جرّا، ثم هو جزءٌ من المعجزة القرآنية الخالدة، وقد مضى بيان هذا وغيره بحمد الله عز وجل، فلا نُعيده.

يتبع إن شاء الله.

  • ملف العضو
  • معلومات
أمازيغي مسلم
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 02-02-2013
  • المشاركات : 6,081
  • معدل تقييم المستوى :

    19

  • أمازيغي مسلم has a spectacular aura aboutأمازيغي مسلم has a spectacular aura about
أمازيغي مسلم
شروقي
رد: دعوى وجود اللحن في القرآن الكريم
28-10-2018, 11:19 AM

إلى المدينة من جديد

وقد كُنَّا في غِنًى عن الرحيل للمدينة مرةً أخرى، واستنطاق التاريخ بمزيدٍ مِمَّا لديه، فقد كفى وشفى، ولم يكن علينا من بأسٍ لو تركناه يستريح ولو لبعض الوقت، لأَنَّا مِن الآن فصاعدًا: لن نترك التاريخ، فربما أجهدناه في كثيرٍ من الأمور المتعلِّقَةِ بصدر الإسلام.
لكن لا مانع من المرور في الختام على أهل المدينة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، لننظر:
ماذا لديك: أبا بكرٍ الصديق رضي الله عنك؟.
وماذا لديك: عثمان رضي الله عنك؟.

يُحَدِّثُنا التاريخُ عن ذلك، فيقول:
تُوفِّي النبي صلى الله عليه وسلم، تاركًا القرآن الكريم مكتوبًا في الأدوات المتاحة للكتابة آنذاك؛ كالعظام واللخاف والجلود، ونحوها، وسرعان ما تولَّى أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، ورفيقه في هجرته المباركة من مكة للمدينة، سرعان ما تولَّى رضي الله عنه خلافة المسلمين، خلفًا للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان عليه أن يقود المسلمين إلى بَرِّ الأمان دائمًا، وأن يحفظهم في كل أمورهم، خاصةً أمر دينهم الذي به حياتهم، وعليه تقوم دنياهم وأخراهم.
لكن لم يُمْهَل خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إِذْ سرعان ما دخل في حروبٍ مع المرتدين وغيرهم، وقد حصدتْ هذه الحروب جماعةً من حُفَّاظ القرآن الكريم، فهرعَ عُمَر رضي الله عنه إلى أبي بكرٍ يطلب جمع القرآن الكريم المسموع من النبي صلى الله عليه وسلم، والمكتوب بحضرتِه وتحت رعايته وسمعه وبصره، فالمادة متوفِّرة، والأمان هنا حاصل بوجود كافة القرآن الكريم، والقَرَأَة متوافرةٌ لم تَمُتْ جميعها بَعْدُ، فالحال يسمح بالجمع الآن، قبل أن يأتي يومٌ يُصْبِح الناسُ، فلا يجدون قارئًا حضر وقرأ على النبي صلى الله عليه وسلم، أو كاتبًا كتب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وتحت سمعه وبصره.
هنا: بدأتْ المشاورات لاستجلاء حُكْم المسألة شرعًا وعقلاً، ثم بدا للجميع التوافق بين النقل والعقل، بين الوحي المنزّل وبين العقل، فتوكَّلوا على الله عز وجل وبدأَ العمل الجاد.
نعم؛ العقل يقول: القرآء يُحْصَدون في المعارك الواحد تلو الآخر؛ لكن البقية الباقية منهم متوافرةٌ بحمد الله عز وجل، والحضور كثرة لا حصر لهم، فالعوامل المساعدة على تنفيذ المهمة متاحةٌ الآن لا غضاضة فيها، والأمان هنا قائمٌ ينادي:" أَن اجمعوا القرآن الآن في مصحفٍ واحدٍ، خشية أن يموت الجيل الشاهد لنزوله، ويرحل كُتَّاب الوحي، أو يهلك الحَفَظَة الذين أخذوه غضًّا طريًّا عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، ويخلف بعد ذلك جيل لا علم له بما جرى، لم يحضر شيئًا، ولا شاهد أمرًا ولا نهيًا، فيقول القائل، ويشكِّك المشكك، وربما صَدَّقَهُ بعضُ الضِّعاف، فتنفتح على المسلمين فتنٌ لا حصر لها".
كلا أيها العقل؛ لن نفعل شيئًا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم..
تردَّدَ أبو بكرٍ رضي الله عنه في أول الأمر: كيف نفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم!!؟.
ثم بدا لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يوافق على جمع القرآن المكتوب بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، والمسموع منه مباشرةً، لما في ذلك من المصلحة العظمى في حِفْظِ وصيانةِ القرآن الكريم، فشرح الله عز وجل صَدْرَ أبي بكرٍ لهذا العمل، فبدأهُ، لكنَّه لم يبدأ ارتجالاً، ولا صار الموضوع بلا ضابطٍ؛ وإِنِّما اشترطوا: أن يقوم بذلك رجلٌ من كُتَّاب الوحي اللذين سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذوا عنه مباشرةً، بلا وسائط، ثم عليه أن ينسخَ ما يكتبه من تلك النُّسَخ التي كُتِبَتْ بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وتحت سمعه وبصره، كما سبق بيان ذلك من قبلُ، فتم اختيار زيد بن ثابت: الشاب اليقظ الفطن، وهو أَحَد كُتَّاب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم، فأخذَ زيدٌ في عملية النَّسْخ، فنسَخ ما في اللخاف والأكتاف وغيرها من أدوات الكتابةِ في صُحُفٍ، ثم جمع هذه الصُّحُف عند أبي بكرٍ رضي الله عنه، ثم انتقلت بعد وفاته إلى عمر، ثم آلتْ بعد وفاتِه إلى أمِّ المؤمنين: حفصة بنت عمر رضي الله عنهما، حتى بَعَثَ إليها عثمان بن عفان رضي الله عنه، فأخذ هذه النُّسَخ منها، فنسخها في مصاحف، ثم أعادها إليها ثانيةً.
ويلاحظ القارئ الكريم هنا: أن عمل أبي بكرٍ ثم عمل عثمان رضي الله عنهما لم يتجاوز في الحقيقة: نسخ ما كان مكتوبًا في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، بأمرِه وتحت سمعه وبصره.
ولذا رأينا ابن الجوزي رحمة الله عليه يقول في كتابه:(تلبيس إبليس، ص: 396):" إِنَّ أصل العلوم: القرآن والسنة، فلما عَلِمَ الشرع أَنَّ حفظهما يصعُب: أَمَرَ بكتابةِ المصحفِ وكتابةِ الحديث، فأَمَّا القرآن: فإِنَّ رسولَ الله كان إذا نزلتْ عليه آيةٌ: دَعَىَ بالكاتبِ فَأَثْبَتَهَا، وكانوا يكتبونها في العُسُبِ والحجارة وعِظام الكَتف، ثم جَمَعَ القرآنَ بعدَهُ في المصحفِ أبو بكرٍ صونًا عليه، ثم نَسَخَ مِن ذلك عثمانُ بن عفان رضي الله عنه وبقيةُ الصحابة، وكل ذلك لحفظِ القرآن لِئَلاَّ يَشِذّ منه شيءٌ".أهـ
وإلى نحو هذا: أشار جماعةٌ من المصنفين والمفسرين والمقرئين؛ منهم: الحاكم والخطابي وأبي شامة والآلوسي وغيرهم.
ويقول البيهقي في(شعب الإيمان:171):" وتأليف القرآن على عهدِ النبي صلى الله عليه وسلم. رُوِّينا عن زيد بن ثابتٍ أَنَّهُ قال:(كُنَّا عندَ رسولِ الله صلى الله عليه و سلم نُؤَلِّفُ القرآنَ مِن الرِّقَاعِ).
وإِنِّما أراد ـ والله تعالى أعلم ـ تأليف ما نَزَلَ مِن الآيات المتفرقة في سورَتِها وجمعها فيها بإشارةِ النبيِّ صلى الله عليه و سلم، ثم كانت مُثْبَتَة في الصدور مكتوبة في الرقاع واللّخُف والعُسُب، فَجُمِعَتْ منها في صُحُفٍ بإشارةِ أبي بكر وعُمر وغيرهما من المهاجرين والأنصار، ثم نُسِخَ ما جُمِعَ في الصُّحُفِ في مصاحف بإشارةِ عثمان بن عفان على ما رسم المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وروينا عن سُوَيْد بن غَفَلَة أَنَّهُ قال: قال علي بن أبي طالب: يرحم الله عثمان، لو كنتُ أَنا لصَنَعْتُ في المصاحف ما صَنَعَ عثمان.
و قد ذكرنا في كتاب المدخل وفي آخر كتاب دلائل النبوة: ما يُقَوِّي هذا الإجماع، ويدل على صحته".أهـ
ويلاحظ في هذه المرحلة: أن زيدًا وغيره من الصحابة الكرام الذين قاموا على جمع القرآن الكريم رضي الله عنهم: قد اعتمدوا على السماع والكتابة معًا، وجمعوا بينهما، فاشترطوا اقتران السماع والكتابة وتلازمهما في المجموع، وهذا من أعلى درجات التوثيق التي يمكن الوصول إليها، وقد أتاحها الله عز وجل لكتابِه: صيانةً له، وحمايةً لجنابه الشَّريف.
ولذا: رأينا زيد بن ثابتٍ رضي الله عنه يفقد آيةً أثناء جمعه للقرآن زمن أبي بكرٍ رضي الله عنه، وأخرى زمن عثمان، لا يجدهما أمامه في المكتوب بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، لكنهما معروفتان عنده، لا شك فيهما؛ لأنه سمعهما هو وغيره من النبي صلى الله عليه وسلم، ومع أنهما سُمِعَا من النبي صلى الله عليه وسلم، وأُخِذا عنه بلا واسطةٍ إلا أَنَّهُ لم يثبتهما حتى بحث عنهما، ووجدهما كتابةً أيضًا، فلم يعتمد الكتابة وحدها، ولا السماع وحده، وإن كان كل واحدٍ من الكتابة أو السماع يصح الاعتماد عليه بلا غضاضة؛ لكنَّ الصحابة الكرام رضي الله عنهم أرادوا بلوغ النهاية في توثيق القرآن الكريم وصيانته والحفاظ عليه، فالحمد لله تعالى.
وقد أَشَرْتُ إلى كثيرٍ مِن هذه المباحث فيما سبق من مداخلات هذا الموضوع، وبقي عليَّ الآن أن أذكر بعض الروايات الواردة في موضوع مداخلتنا هذه، وهي باختصار كالتالي:
روى البخاري رحمه الله تعالى (4986) أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ، فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ، قُلْتُ لِعُمَرَ: كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟، قَالَ عُمَرُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِذَلِكَ، وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ، قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لا نَتَّهِمُكَ، وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ، فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ: مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ، قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟، قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ الْعُسُبِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ، حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ، فَكَانَتْ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ".أهـ
وروى البخاري أيضًا (4987 - 4988) أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قال:
" إِنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ، وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّأْمِ فِي فَتْحِ إِرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلافُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ!، أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ اخْتِلافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ: أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ، ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ، فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلاثَةِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ، فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ، فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ: رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنْ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ".
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ الزهري رحمه الله (أحد أئمة الحديث، وراوي الحديث الذي معنا): وَأَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ:" فَقَدْتُ آيَةً مِنْ الأَحْزَابِ حِينَ نَسَخْنَا الْمُصْحَفَ قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا، فَالْتَمَسْنَاهَا فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ:{مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}، فَأَلْحَقْنَاهَا فِي سُورَتِهَا فِي الْمُصْحَفِ".أهـ
وعند البخاري أيضًا (4984) عنْ أَنَسِ بْنُ مَالِكٍ قَالَ:
" فَأَمَرَ عُثْمَانُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ: أَنْ يَنْسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ لَهُمْ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي عَرَبِيَّةٍ مِنْ عَرَبِيَّةِ الْقُرْآنِ، فَاكْتُبُوهَا بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ بِلِسَانِهِمْ، فَفَعَلُوا".أهـ
وعند البخاري أيضًا (3506) عَنْ أَنَسٍ:
" أَنَّ عُثْمَانَ دَعَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلاثَةِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ، فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ".أهـ
وعند البخاري أيضًا (4784) أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ:
" لَمَّا نَسَخْنَا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ: فَقَدْتُ آيَةً مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ كُنْتُ كَثِيرًا أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَؤُهَا: لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ إِلاَّ مَعَ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ الَّذِي جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَتَهُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ: {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}".أهـ
وعند البخاري أيضًا (4049) عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ:
" فَقَدْتُ آيَةً مِنْ الأَحْزَابِ حِينَ نَسَخْنَا الْمُصْحَفَ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا، فَالْتَمَسْنَاهَا فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ: {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُفَأَلْحَقْنَاهَا فِي سُورَتِهَا فِي الْمُصْحَفِ".أهـ
وعند البخاري أيضًا (2807) أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
" نَسَخْتُ الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ، فَفَقَدْتُ آيَةً مِنْ سُورَةِ الأَحْزَابِ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا، فَلَمْ أَجِدْهَا إِلاَّ مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيِّ الَّذِي جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَتَهُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ:{مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}".أهـ
وقولُ زيدٍ السابق:" فأَلْحَقْنَاها في سورَتِها من المصحف": يؤيد ما سبق تقريره من إلهية الترتيب القرآني: سورًا وآياتٍ، لا فرق.

وتدل السياقات السابقة: أَنَّه استقرَّ في المصحف العثماني جميع ما ورد في السماع كما سبق، وقد حَضَرَ ذلك وعَايَنَهُ وسَمِعَ به حُفَّاظ القرآن وكَتَبَةُ الوحي مِمَّن كانوا أحياء حينئذٍ، وطار نبأُ المصحف في الأمصار، ولم يعترض أحدٌ عليه، ولا زاد فيه أحدٌ شيئًا، فدل ذلك كله على إجماع الصحابة الكرام، وغيرهم من المسلمين آنذاك على صحة المصحف العثماني، وشموله لجميع ما أُنْزِل على النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يفت المصحف المكتوب شيءٌ من المسموع أبدًا، ثم أجمعت الأجيال المتلاحقة على هذا أيضًا، منذ أربعة عشر قرنًا، وإلى وقتنا هذا، فصار المصحف المكتوب بيد المسلمين الآن: قرينًا للسماع، يُعَضِّد كلٌّ منهما الآخر، ولا ينافيه أو يعارضه، يتعاونان في حِفْظِ القرآن على مرِّ الأزمان، مع احتفاظ السماع برئاسته وصدارته، واحتفاظ الكتابة بأهميتها ومنزلتها.
وقد مضت أدلة الاعتماد في نقل القرآن على السماع والحفظ لا الكتابة والمصاحف، ويؤكد ذلك: رجوع زيد بن ثابت إلى البحث عن الآيتين اللتين لم يجدهما أمامه في المكتوب حتى وجدهما كتابةً، وما دَلَّهُ على عدم وجودهما غير السماع، وقد صَرَّح هو نفسُه بذلك في قوله في كلٍّ منهما: "كنتُ قد سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها"، فهو يجمع وينسخ ما كان مسموعًا لديه سلفًا، فلم يكن يجمع أو ينسخ شيئًا جديدًا عليه يمكن أن يفوته في ذلك فائتٌ أو يشذ عليه شاذٌّ؛ وإنما كان ينسخ مسموعًا محفوظًا مستقرًّا في صدْرِه وصدور غيره من الصحابة الكرام رضي الله عنه، فهو نسخٌ لمعلومٍ معروفٍ، وليس نسخًا لمجهولٍ، وشتَّان بين هذا وذاك عند العقلاء من الناس.
وهذا كله يقطع بأمورٍ يقينيَّة على رأسها:
القطع بأن القرآن قد وصلنا تامًّا غير منقوص بحمد الله تعالى؛ لإجماع المسلمين خلفًا بعد سلفٍ، وعلى توالي أربعة عشر قرنًا، على تمام القرآن الذي بأيدي المسلمين، وأنه نسخة طبق الأصل لما نزل به الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، لم يُحَرَّف، ولم يدخله النقص، أو تُعَكِّره الزيادة، وهذا كله: مصداق تعَهُّد الله بحفظه، وإخباره بذلك في قوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.[الحجر: 9].
وكان بإمكاننا قبل ذلك وبعده: أَنْ نُقَرِّرَ هذه الحقيقة اليقينية بناءً على الآية المذكورة، فهي كافية بحمد الله تعالى في تقرير تمام القرآن وكماله، وحفظ الله له من الزيادة والنقصان والتحريف والتغيير، ولكنا ذكرنا الأدلة المادية على حفظ القرآن وتمامه وكماله، وحفظ الله له من الزيادة والنقصان والتحريف والتغيير، وذلك من خلال النصوص الثابتة التي شهد بصدقها التاريخ، وأَكَّدَها واقع النَّقَلَةِ، وتحدَّثَتْ عنها الأسانيد.
نعم؛ ذكرنا الأدلة المادية على ذلك من خلال الروايات والوقائع؛ لأنَّنا نكتب للمؤمنين وغيرهم.
نعم؛ نكتب للمؤمنين الصادقين الموقنين بإخبار الله عز وجل في كتابه بحفظه.
كما نكتب في عالمٍ يموج بتيارات الكفر والإلحاد والملل المخالفة والمعادية للإسلام، ليرى هؤلاء وأولئك ما نكتبه، فيكون كالتذكرة للمؤمنين، والحجة على الكافرين.
نعم؛ نكتب لتقوم الحجة على الكافرين والمستشرقين وغيرهم من الطاعنين في القرآن الكريم بهذه التُّرَّهات التي ردد هذا المستشرق المدعو بـ (موراني) بعضًا منها، طعنًا في الدين، وحسدًا من عند أنفسهم، مع تغليفهم ذلك كله بغلاف العلم والبحث، بغرض تمرير ما يكتبونه، وتغريرًا وتدليسًا على القرَّاء!!؟.
فهذه هي الأدلة المادية لما جرى وكان في واقعة تدوين القرآن الكريم سماعًا وحفظًا، وخطًّا وكتابةً.
وقد تضافرت جميعها والحمد لله على كمال القرآن ووصوله لنا كاملاً غير منقوص، وعلى أنه محفوظ عن الزيادة والنقصان والتغيير والتحريف.
وبعبارة أخرى: فقد تضافرتِ الأدلةُ على أن القرآن الذي بأيدي المسلمين الآن هو: نسخة طبق الأصل لما نزل به الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.


مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع


الساعة الآن 10:31 PM.
Powered by vBulletin
قوانين المنتدى