إفطار ونصيحة
20-01-2021, 11:53 AM
في الألفينات كان أحدهم من بئر العاتر يعمل في مدينة حجيرة ولاية ورقلة بناءا، وكان هذا في شهر أوت حيث كان الحر شديدا لدرجة لا تتصور, أين تصبح الأرض والسماء قطعة واحدة بلون أشهب حزين متصلتان بضغط هائل خانق مثير للأحزان باعث على تذكر قصص العشق الطفو لي الثقيل وتأوهاته عند المساء المفعم بالعبرات ومفردات الصدق النابعة من القلب, ووحشة عمياء ضيقة وسراب ممتد يتموج حولك كبحر متلاطم يزيد لأشجانك عمقا ولعطشك تمكنا، مع كل هذا يتحول المكان لمسرح لهبوب ريح السيروكو الحارة اللافحة الحارقة, التي تتطاير معها ذرات الغبار المنتعشة المنتشية بالحرارة المتطاولة المتمسكة بأهداب السماء, الهائمة في جميع الاتجاهات, مزعجة محاولة بكل وقاحة اعتراض نظراتك وجعلها منكسرة مطأطئة لا تغادر الثرى.
كان الرجل يعمل بجد في مثل هذه الظروف الطبيعية القاسية وهو يمني نفسه بالحصول على مال حلال من عرق جبينه المنهمر بغزارة متدفقا على أنفه وصولا إلي فمه بطعم ملوحة مركزة, تزيده طاقة وتزرع في دواخله متعة ورحمة, كان عندما يلتفت يشتم رائحة الحريق من شدة الحرارة تنبعث من ثيابه التي تتكون من مزيج من النايلون بنسبة كبيرة, وكان يضع على رأسه بقايا أكياس الأسمنت جعلها على شكل قلنسوة يحتمي بها من حر الشمس الحارقة ولكننها حرارة جافة لا تؤذي وهذا من رحمة الله بأهل الجنوب, اللذين يؤخرون صلاة الظهر الي العصر, كل هذا كان برغم تأخر المقاول الذي يعمل عنده في دفع رواتبهم معللا ذلك ببيروقراطية الإدارة
وكان هذا في اليوم الثاني من شهر رمضان المعظم الذي قرر أن يقضيه في بيته بين زوجته وأولاده, فأقترض نصف راتبه من عند زميل له في العمل وامتطى سيارة أجرة الي تقرت ومنها الي الوادي التي وصلها حوالي الساعة السادسة مساءا. في محطة الوادي وجد سيارة أجرة ينقصها مسافر امتطاها وانطلقت بهم باتجاه بئر العاتر, عند وصولهم الي حاسي خليفة , اعترضهم أحد الشباب طالبا منهم تناول وجبة الإفطار عندهم وكان بيت الشاب غير بعيد عن الطريق.
ركن السائق سيارته بالقرب من البيت الكبير الذي تظهر عليه أثار الفخامة وسعة الحال والرزق, ترجل الجميع وكانوا سبعة أشخاص ,أين دخلوا البيت والذي كان فناؤه شاسعا رحبا على مد مقدار البصر, عبارة عن حَوْش مفروش برمال نقية نظيفة وكأنك على شاطئ يراود مصطافيه بنعومته الرطبة الطرية, في أخره نخلة طويلة تعانق السماء وتزيد للمكان روعة وسموا, تحمل جوانبها شماريخ خَرَطَ بُسْرَها وشجرة من نوع الكاليتوس كبيرة ذُات أَوْرَاقٍ طَوِيلَةٍ، وَأَغْصَانٍ كَثِيفَةٍ، تزْرَعُ فِي الْمَنَاطِقِ شَدِيدَةِ الْحَرَارَةِ، تُسْتَعْمَلُ أَوْرَاقُهُا فِي الطِّبِّ وَبِالأَخَصِّ لِمُعَالَجَةِ الأَمْرَاضِ الصَّدْرِيَّةِ, يوحي شكلها بوفرة ظلها الذي قد يكون مكان الراحة في الهَاجِرَةِ, كما أنها تساعد في امتصاص ظاهرة صعود المياه التي اجتاحت ولاية الوادي في التسعينات وتفطن أهل الخبرة لفائدة هذه الشجرة الطيبة الكريمة التي أزاحت معاناة كبيرة عن أهل الوادي وجنبتهم نفقات كبيرة على هذه الظاهرة.
تحت الشجرة فرش بساط تقليدي منمق بتصوير وطرز تداخلت أشكاله فأينعت بهارة حسية داعبت خيال الجميع وألهبت حسهم وأنستهم عطشهم الذي أتعبهم ويبس ريقهم وزاور خيالهم نحو رقرقة ماء خيالية تداعب عقولهم فتزيد للظمأ التهابا وتبخرا, في وسطه وضعت موائد الإفطار بها كل الخيرات, وكان يجلس تحت النخلة كهل ملتحي يداعب بأنامله سبحة طويلة ذو هيبة ووقار, أفرزته خيوط شيب براقة تلمع من بين السواد وكأنها نجوم في ليل مظلم إفتقد نور البدر, يرتدي جبة تميل الي الزرقة الهادئة الباردة ولكنها مثقوبة بها مسامات متفاوتة الغَوَّرَ بفعل تبغ العرعار.
أذن المغرب فقدموا لهم الحليب والتمر, ثم قاموا للصلاة وبعدها فطروا وابتلت عروقهم وعادت لهم أنفاسهم التي كادت تغيب من الحر, ثم قدمت لهم زلابية حساني عبد الكريم التي يدخل في مكوناتها البيض والحليب مع الشاي, وبينما الجميع يتجاذبون أطراف الحديث على وقع رشفات الشاي قال الكهل لأحد المسافرين منذ دخلت الي البيت وأنت محتار تتصارع وأفكار دخيلة غريبة متطفلة فضولية, محتار بينك وبين دواخلك ونوازعك السلبية وأنت تتساءل وتقول في سرك كيف لصاحب هذا البيت الفخم أن يرتدي جبة أفسدها تبغ العرعار تخالطها أثار العرق ويظهر على وجهه غبش وغثاء؟
أعلم يا ولدي أن المال بالنسبة لي وسيلة وليست غاية وهذا المال الذي بين أيدينا وبه يتقوى صلبنا وصلب أهلنا وأبنائنا هو مال الله، هبة ومنة منه وأمانة ليتم إنفاقه في طاعته وقد جعلنا مسؤولين عنه محاسبين على كسبه, كما أن امتلاكه شهوة مباحة وضعها الله في الإنسان، ووضع لها أحكاماً، وضمانات تحمي مال الإنسان حتى من نفسه! وقد جاء في صحيح مسلم: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ"، كذلك، لم يجعله مستباحاً؛ إذ "لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ"
كما أن الإسلام رغب في إنفاق المال في سبيل الله، وجعل بذله سابقا على بذل الروح، وشدده وقواه بثقل مثل الحقوق والواجبات والصدقات، والقربات ليصبح الإنفاق عبادة عظيمة تقدمت على الجهاد وللوصول الي عبادة الإنفاق، ذم الإسلام البخل والإسراف، ودعا إلى الاعتدال، وقد جاء في الترمذي عن الرسول ﷺ: "لُعِنَ عَبْدُ الدِّينَارِ لُعِنَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ"،
ومن أقوال الرسول ﷺ: "لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ" (الترمذي).
كما تراني يا ولدي فإني أعيش البساطة بعمق فكري منبعه العقل لأن راحة العاقل في عقله, خلال الثورة التحريرية التقيت أحد الأبطال وكان من بئرالعاتر وكان مسجونا إبان الاستعمار الفرنسي في سجن تبسة الذي قضى به 5 سنوات سجن حيث أخبرني أنه كان داخل السجن بجسده فقط وعقله يعيش الحرية بين أهله وخلانه وجمال باديته يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم. نصيحة لك وللجميع لا تجعل المال همك في الحياة فتصبح أسيره وعبده وعود أبناءك على الشدة والرخاء فالمال يأتي ويذهب وما نحن الا أنفاس قد تتوقف دون سابق إنذار والحياة مليئة بالعبر والدروس والعاقل من علمها وعمل بها.
بلخيري محمد الناصر