الشخصية المؤسسة للحركة السنوسية
17-09-2015, 12:48 PM
خرجت الحركات الإصلاحية الأولى في العالم الإسلامي ليس من
المدن والحواضر الكبيرة، وإنما من مناطق صحراوية نائية بعيدة عن الحضارة، ونتيجة
لظروف موضوعية تضافرت في خدمة القادة الإصلاحيين الأوائل الذي تميزوا بالعديد من
الصفات المشتركة ووجهات النظر القريبة، فالمسألة لم تكن بالتعقيد الكبير الذي يحدثه
وجود السلطة المركزية والتنظيمية القوية وتعدد المراجع والقوى الاجتماعية
الفاعلة.
كانت الكاريزما الشخصية والأسلوب المباشر في الحوار والخطابة تشكل
عاملا حاسما في صعود الحركات الإصلاحية، فوجودها في مناطق صحراوية أو دغلية كان
يجعلها بعيدة عن اهتمام السلطة المركزية التي كانت تتراجع باضطراد في بدايات القرن
الثامن عشر بما جعل هذه المناطق النائية خارج نطاق أولوياتها و رعايتها.
الحركات
الإصلاحية الكبرى في القرن الثامن عشر تمثلت في الحركة الوهابية في شبه الجزيرة
العربية، وتحديدا من منطقة نجد المحافظة، والحركة المهدية التي خرجت من المناطق
الدغلية والصحراوية السودانية، والحركة السنوسية التي انطلقت من الجزائر ولاقت أفق
نجاحها في الصحراء الليبية، وتتفق هذه الحركات في رؤيتها للإصلاح الديني كمدخل
أساسي لتغيير وجه الحياة في مناطقهم، ولم تكن الخيارات المطروحة أمام هذه الحركات
إلا بممارسة الفكر السلفي في التعاطي الظروف الموضوعية المحيطة بها، فليس ثمة أفق
للتحديث أمامها، وكانت فكرة الإنحراف عن الدين وإعادة البعث الديني متلازمتان في
تشخيص هذه الحركات.
في الحقيقة لم يكن هناك إدراك للتخلف عند من حركوا هذه
التيارات، هناك أحوال سيئة ومضطربة بررت بالخروج عن الدين، وبالتالي كان الرجوع
للدين هو الحل الذي تطرحه هذه الحركات، كأن المسألة تتم بصورة ميكانيكية، ثم أن
الفكرة كانت تتعلق بوقف الممارسات الخاطئة أكثر من وجود ممارسات أخرى مكانها، كما
أن جمهور هذه الحركات لم يكن مدركا لممارساته الخاطئة وضرورة تخليه عنها.
لتقريب
المعنى فإن الاهتمام كان منصبا على اجتثاث مظاهر الفساد دون الركون إلى الأسباب
التي ساعدت على شيوعها، ولما كان القضاء على مظاهر الفساد لا يترافق عادة مع نقلة
على مستوى الوعي فإن المظاهر الجديدة التي حلت مكانها غالبا ما ترافقت مع ظاهرة
الإجبار كما حدث في الحركة الوهابية، وباستثناء الحركة السنوسية فإن هذه الحركات لم
تكن تحمل بعدا عقلانيا وواقعيا لتنفيذ المشروعات الإصلاحية التي حملتها
بإخلاص.
الحركة السنوسية وقياسا بالحركتين الوهابية والمهدية حملت فكرا سياسيا
واجتماعيا بجانب فكرة الإصلاح الديني، وكانت هي الحركة الأكثر مرونة في التعامل مع
المعطيات السياسية التي واجهتها، مع أنها عمليا كانت في موقع استراتيجي مهم قياسا
بالحركتين الأخريتين، كما أنها تمكنت من بناء نظم داخلية أكثر تقدما، وحملت أساليب
دعوة أكثر فاعلية، ولكنها لم تتمكن في المقابل أن تحقق الامتداد التاريخي في الفكر
الإسلامي المعاصر، وذلك لتعلق الحركة وكمعظم الحركات الصوفية بالعائلة السنوسية
ذاتها والكاريزما الكبيرة لقادتها على أتباعهم وأشياعهم، بحيث تصبح أي زحزحة
للعائلة أو تراجع في مكانتها سببا مباشرا في تراجع المشروع بأكمله، فبرغم الأفكار
التي قدمها الإمام محمد بن علي السنوسي فإن أتباعه كانوا ينظرون لها كحكمة ولحظات
كشف صوفية دون أن يتعاملوا معها على أساس مبادئ عامة تنطلق من ظروف موضوعية وذلك
لتقديم حلول لمشكلات، فهؤلاء الأتباع حول الحركة السنوسية لم ينظروا إلى قادتهم
أكثر من نظرتهم إلى أقطاب صوفية مع أن الحقيقة كانت بعيدة عن ذلك.
الشخصية
المؤسسة للتجربة السنوسية هي الإمام محمد بن علي السنوسي الذي ولد في بداية القرن
الثالث عشر الهجري، وتحديدا سنة 1202 ه 1787 م، وكانت ولادته في مدينة مستغانم
الجزائرية في أسرة تشتغل بالعلم وتتمتع بمكانة كبيرة بين الطرق الصوفية لإنتمائها
لآل البيت وانحدارها من سلالة الأدارسة، وفي طفولته المبكرة توفي والده فتولت عمته
فاطمة مسؤولية ترتبيته، وبعد أن أتم ما يمكنه الإطلاع عليه من العلم في مدينة صغيرة
مثل مستغانم انتقل إلى مدينة فاس بالمغرب ليقيم سبعة سنوات يدرس الفقه وعلومه
ويقترب من الطرق الصوفية التي كانت وما زالت تمثل قوة كبيرة في المجتمع المغربي
وأحد العناصر الأساسية في هويته، وكان قراره بالعودة إلى الجزائر بعد أن بقي فترة
وجيزة مع الحركة التيجانية في المغرب متزامنا مع دخول قوات الاحتلال الفرنسي، لذلك
لم يقصد مدينته الساحلية وإنما مضى لبلدة صغيرة تطل على الصحراء الكبرى وهي
الأغوات، وبدأ يجلس للوعظ والتدريس لفترة انتقل بعدها إلى مصر والتقى مع مجموعة من
العلماء في الأزهر إلا أنه خرج عليهم ورأى أن عملهم على الاجتهاد وما يرافقه من
استقلال للفكر يخالف الشرع وفق ما يرويه شكيب أرسلان في كتابه حاضر العالم
الإسلامي، والحقيقة أن الرواية ليست مقنعة لأسباب تاريخية عدة ولا يمكن حملها
بالصورة المباشرة التي نقلت بها، فمن ناحية يعد الأزهر من المؤسسات المحافظة وخاصة
في تلك المرحلة التي تمسكت بالتقليد على حساب التجديد، ويمكن أن يكون سبب الخلاف في
ضوء الملابسات التاريخية هو صراعات علماء الأزهر واندفاعهم تجاه سلطة محمد علي
والعمل على إصدار الفتاوى التي تتفق مع توجهاته بنفس تبريري، وعلى أية حال لم تكن
الإقامة في مصر من غايات الإمام السنوسي، فانتقل بعد ذلك إلى مكة المكرمة وأقام
فيها زمنا بصحبة الشيخ أحمد الفاسي ورافقه في رحلته الطويلة إلى اليمن وعاد بعد ذلك
إلى مكة ليؤسس أول زاوية صوفية للحركة السنوسية.
الحياة في مكة مكنت السنوسي من
تكوين فكرة عن عوامل الالتقاء والافتراق بين شعوب الأمة الإسلامية، وحصل على فرصة
للوقوف على عواضمل الضعف والوهن التي منيت بها الأمة الإسلامية وفق ما يشير الدكتور
عبد المجيد النجار في كتابه عوامل الإشهاد الحضاري، وينتقل السنوسي بعد هذه الفترة
الطويلة من السفر والترحال إلى ليبيا ليبدأ تحركه في إطار التصور الذي كونه عن
الإصلاح، وكان توجهه لليبيا محكوما بالعديد من العوامل فبالإضافة إلى موقعها
وطبيعتها الجغرافية فإن ظروفها الإجتماعية المشابهة لما عرفه في الأغوات شجعته على
بدء مشروعه من أراضيها، فهناك ذلك الإيمان الفطري والغضب الغريزي الذي يمكنه من
إطلاق مشروع ثوري، فالسنوسي وبرغم مكانته كقائد صوفي كبير رفض ميل الصوفية إلى
الزهد والتواكل وآمن بطاقاتها كحركة فعالة يمكن أن تأخذ على عاتقها مسؤولية الوقوف
في وجه التغول الاستعماري في شمال افريقيا، وهو تغول رآه السنوسي في جوهره صراعا
دينيا دون أن يغفل من خلال الممارسة وليس بالضرورة من خلال خطبه طبيعة التفاوت بين
الغرب المتقدم في أدواته ومنتجه الحضاري وبين الشرق الذي يعيش في التخلف المعوق لأي
محاولة منتجة في المقابل.
من زاوية البيضاء القريبة من برقة بدأ تأسيس نظام
الزوايا في ليبيا وفي شمال افريقيا، والزاوية هي مركز يتجمع فيه أتباع الحركة
السنوسية على مقربة من المجتمعات المحلية ويقومون من خلالها بأداء الدور الديني
والتربوي الذي يعمل على تعليم مبادئ الإسلام وفق الرؤية السنوسية التي ركزت على
العودة للأصول بعيدا عن التطور التاريخي لحركة الفقه الإسلامي والتي رآها السنوسي
بجانب ما حفلت به من بدع وضلالات متحيزة للسلطان ومحققة لمصالحه، واتجه الفكر
السنوسي للعودة إلى الأصول المتمثلة حصرا في القرآن والسنة ودعى إلى عدم التقليد
والأخذ بالفتاوى ولو كانت من الأئمة الأربعة وبالتالي وقفت السنوسية ظاهريا في وجه
الاجتهاد وفي الحقيقة هي أحدثت قطيعة مع التراث الذي كان من نتيجته الوصول إلى هذه
الحالة من التخلف، وبالتالي البدء من جديد وإطلاق تيار اجتهادي آخر، فالسنوسي يختلف
عن محمد بن عبد الوهاب في رؤيته لطبيعة الأخذ عن السلف، وعلى العكس فهو يتحرر أصلا
من السلف ليفتح مجالا جديدا للتأويل، ولكن دون أن يبرأ ذلك أيضا من تحيزه للسلطة
التي أسستها السنوسية.
باتت النية السنوسية في تأسيس الدولة واضحة بعد الانتقال
إلى واحة الجغبوب الصحراوية في الجنوب بعيدا عن الانكشاف للمطامع الاستعمارية وأيضا
عن الطموحات التوسعية في مصر، فمن ناحية تزايد عدد الزوايا التي تتبع السنوسيين،
كما توسعت أدوارها فهي مارست أدوار حمائية فلم يكن القاطنون في هذه الزوايا مجموعة
من الدروايش أو المجاذيب أو حتى طلبة العلم، ولكنهم كانوا مجموعات من الشباب الذين
تلقوا تدريبات عسكرية صعبة وهم يجيدون التعامل مع البيئة الصحراوية بما يمكنهم من
فرض السلطة على أطرافها وإدارة شؤونها، وهم إلى ذلك على درجة عالية من الانضباط
والولاء للإمام السنوسي ضمن العقلية الصوفية التقليدية، كما أن هذه الزوايا أيضا
تحولت إلى مجتمعات إنتاجية فكانت الزاوية تعمل تحقيق الاكتفاء الذاتي من خلال
الزراعة والرعي وبعض الصناعات البسيطة، وبالتالي كانت تقدم أيضا خدمات للمجتمعات
القريبة في القرى والمناطق الصحراوية وحققت بذلك شعبية واسعة في شمال
افريقيا.
اتسعت السنوسية وكان ضروريا أن تنحى إلى اللا مركزية، وخلافا للحركات
الصوفية التقليدية أخذت السنوسية شكل التنظيم الديناميكي الذي يمتلك حرية الحركة
ضمن الخطوط العريضة التي يتولى الإمام رسمها، فالزوايا ككل ترتبط بمجلس للإخوان
يحضره رؤساء الزوايا للتشاور في مختلف الشؤون التي تتعلق باستراتيجية الحركة
السنوسية في توجهها الدعوي وفي تحركها ضد الاستعمار، ولكل زاوية في المقابل الهيكل
الخاص بها الذي يقوم على وجود نظام دقيق لمواردها ونفقاتها، وبرغم ذلك التراتب إلا
إن السنوسية ركزت على مبدأ العدالة الاجتماعية ليس بين أتباعها فقط ولكن في
المجتمعات التي تتواجد فيها، خاصة وأن السنوسية قامت بأدوار مختلفة فكانت العقود
والمعاملات مثل الزواج والبيوع تتم في إطار الوجود السنوسي الذي حظي بمرجعية في ظل
غياب السلطة العثمانية عن المنطقة ككل، وامتد هذا المبدأ الذي أرسته السنوسية إلى
معتنقي الأديان الأخرى الذين كانوا يعاملون في إطار السنوسية بعدل موازية للعدالة
الواجبة تجاه المسلمين، ولم يتقصر ذلك على أتباع الديانات السماوية ولكن إلى الكفار
أيضا، وكانت العناية السنوسية قائمة تجاه الوثنيين الموجودين في مناطق أخرى من
افريقيا، ولكن ذلك لم يرتب تراخيا من تجاههم عن مواجهة الإرساليات الكنسية التي
عملت على التبشير في افريقيا، ويبدو أن التطوير الذي قاموا به لنظام الزوايا كان
منافسا للإرساليات التبشيرية والدور التعليمي والصحي الذي تقوم به، حيث تمكنوا من
توفير نفس الخدمات من خلال الزوايا التي وصل عددها إلى مائة وأربعين زاوية تنتشر في
العالم العربي.

تحيات الأستاذ
المهيدي