هل نعيش في عالم احتمالي؟
01-02-2020, 06:19 PM
ليس من المستغرب أن تشتهر الفيزياء الكوانتية بغرابتها، فهي تصف عالم الذرة و هي أدق دقائق المادة، إنه عالم ندركه دون أن نراه، عالم يقوم على الاحتمالات، مثلا لا يمكن تحديد موقع الإلكترون، و هو أحد مكونات الذرة بل يمكن تحديد احتمال وجوده في أماكن متعددة ضمن هذا العالم فائق الدقة، حتى المادة المرئية نفسها فإن الذرات أو الجزيئات التي تتكون منها تتأرجح في أماكن مختلفة لا يمكن تحديدها بل تخمين أماكن وجودها فقط، و هنا يبرز السؤال المحيِّر : كيف تظهر الاحتمالات الكوانتية لتجعل العالم التقليدي من حولنا عالما مرئيا محدد المعالم إذا؟؟.
يتحدث الفيزيائيون عن الانتقال من عالم الدقائق الاحتمالي إلى العالم الواقعي باعتباره انتقالًا تقليديا: أو بالتعريف:
quantum-classical transition"" و قد توصل الباحثون على مدى العقود القريبة الماضية إلى فهم أكبر لكيفية الانتقال من عالم الدقائق الذي مازال غامضا، إلى العالم المادي التقليدي المحسوس و من أهم الأفكار التي برزت لتفسير ذلك نظرية تقول بأن هذا الانتقال يقوم على آلية شبيهة بآلية الانتقال التي تجري في عالم الأحياء التي جاء بها تشارلز داروين أي من خلال الانتقاء الطبيعي انطلاقا من مبدأ أن "البقاء للأصلح"، ذلك بأن الجسيمات الدقيقة كالذرة و مكوناتها تتفاعل بمجمل مواصفاتها مع البيئة الطبيعية المحيطة التقليدية و هذه بدورها تنتقي من تراكيب الدقائق الاحتمالية أصلحها وتخرجه إلى الواقع التقليدي، و الحقيقة أن التركيب الأصلح هو التركيب الذي يستطيع أن يكرر نفسه باستمرار ويصنع من نفسه أكثر النسخ الممكنة عددا.
تعالج هذه النظرية، التي تسمى الداروينية الكوانتية (Quantum Darwinism)، الصدع بين الفيزياء الكمومية والفيزياء التقليدية و تحاول تبرير الهوة الناجمة عن الانتقال من عالم احتمالي غريب هو عالم الدقائق الذرية، إلى العالم الطبيعي التقليدي المحسوس الذي نعيشه كل يوم.
لقد أُخُضِعت هذه النظرية مؤخرا لاختبارات تجريبية من قبل ثلاث مجموعات بحثية تعمل مستقلة عن بعضها في إيطاليا والصين وألمانيا، و قد اعتمدت تجارب المجموعات على المراقبة الدقيقة للمعلومات التي يتم نقلها من نظام كوانتي إلى البيئة التقليدية، فقد قام فريقان أحدهما في جامعة سابينزا في روما و الآخر في جامعة العلوم والتكنولوجيا في الصين بحصر نظام كوانتي في بيئة اصطناعية "Artificial Environment" تحتوي عددا قليلا من جزيئات المادة التقليدية مستخدمين فوتونًا واحدًا كنظام كوانتي، مع حفنة من الفوتونات الأخرى التي تعمل بمثابة "بيئة" تتفاعل معه وتبث معلومات عنه. قام الفريقان بتمرير فوتونات الليزر عبر الأجهزة البصرية ثم قاموا باستقراء فوتونات البيئة لسبر المعلومات التي قاموا بترميزها حول حالة مؤشر فوتون النظام المعتبر، (في هذه التجربة تمت دراسة خاصية الاستقطاب أو تموضع الحقول الإلكترومغناطيسية المهتزة): (polarization- the orientation of its oscillating electromagnetic fields) و قد تبين أنه حتى الفوتون الواحد يمكن أن يعمل كبيئة تقدم فك الارتباط والاختيار ""decoherence and selection للخروج من العالم الكوانتي إلى العالم التقليدي.



الانتقال من عالم الدقائق الذرية إلى عالم الواقع من خلال المحاكاة الفوتونية الكوانتية

استخدم الاختبار التجريبي الثالث للداروينية الكوانتية، في جامعة أولم في ألمانيا، نظامًا وبيئة مختلفة تمامًا، تتكون من ذرة نيتروجين وحيدة لاستبدال ذرة كربون في بلورة شعرية من الماس و قد أمكن تسجيل نسخ متعددة من الحالة الكمومية للنتروجين في البيئة المحيطة.

إلى الآن، و النتائج تنسجم تماما مع ما هو متوقع بالنسبة إلى الداروينية الكمومية، لكن و بالرغم من ذلك لا يمكن اعتبارها دليلًا قاطعا على سبب الانتقال من عالم الكم الغامض إلى العالم المحسوس لسبب هام، هو أن هذه التجارب الثلاث ما هي إلا إصدارات وصفية فقط لما تتكون منه البيئة الحقيقية لعالم الكم.
لا تزال المحاولات قائمة لتحسين قدرتنا على الغوص في عالم الدقائق الذرية و تراكباتها المحيرة، و إن أفضل سبب يدعو لمتابعة مثل هذه التجارب بعد تحسين قدرتنا على فهم العالم الذي نعيش فيه، هو أنها تمرين جيد سيطور التقنيات المخبرية الحالية للوصول إلى نتائج أقرب من الواقع.


Reference:
PHILIP BALL, QUANTUM PHYSICS,
Quantum Darwinism, an Idea to Explain Objective Reality, Passes First Tests, JULY 22, 2019