عظماء صنعوا التاريخ في الأندلس
26-12-2019, 01:30 PM


في تاريخ الأندلس الذي امتد لأكثر من ثمانمائة سنة الكثير من الرجال والأبطال والعظماء الذين سطروا صحائف من نور بدمائهم وأرواحهم وجهدهم من أجل دينهم وأمتهم، ولقد حفظ لهم التاريخ ذلك الجهد والعمل، ومن هؤلاء موسى بن نصير، وطارق بن زياد، وعبد الرحمن الغافقي، وصقر قريش عبد الرحمن الداخل، وعبد الرحمن الناصر، والحاجب المنصور محمد بن أبي عامر الذي لم يهزم له جيش، وكذلك يوسف بن تاشفين القائد الرباني صاحب موقعة الزلاقة الشهيرة، وأيضًا أبي يوسف يعقوب المنصور صاحب موقعة الأرك الخالدة التي انتصر فيها المسلمون انتصارا ساحقًا.

موسى بن نصير
هو موسى بن نصير بن عبد الرحمن بن يزيد، كان من أعظم رجال المسلمين في الحرب والإدارة خلال القرن الأول الهجري، وقد ظهرت براعته الإدارية والحربية في المناصب التي تقلدها، والحملات البرية والبحرية التي قادها، فقد كان قائدًا بارعًا عاقلًا كريمًا شجاعًا ورعًا تقيًا.
ولد موسى بن نصير في سنة 19هـ=640م في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بوادي القرى بالحجاز، وكان أبوه محاربًا وكان ممن شهد معركة اليرموك، وكانت له منزلة كبيرة عند معاوية بن أبي سفيان حتى قيل في بعض الروايات أنَّ معاوية جعله رئيس الحرس الخاص به، وقد نشأ موسى بن نصير في دمشق وتربى في كنف القادة وقريبًا من بيت الخلافة مع أولاد معاوية وأولاد الأمراء والخلفاء، فنشأ على حب الجهاد في سبيل الله ونشر الدين حتى أصبح شابًا يافعًا يتقلد الرتب والمناصب فتولى الخراج بالبصرة، ثم تولى قيادة جيش البحر وغزا قبرص في عهد معاوية، ثم تولى إفريقية والمغرب في عهد الوليد بن عبد الملك فقضى على الحوادث والفتن وثبَّت بها دعائم الإسلام.
بعد أن استتب الأمر لموسى بن نصير في شمال إفريقيا بدأ يفكر في فتح بلاد الأندلس، فأرسل قوة عسكرية بقيادة نائبه طارق بن زياد فتوغل في بلاد الأندلس وفتح كثيرًا من المدن مما شجَّع موسى بن نصير على العبور هو الأخر إلى الأندلس، واشتركا القائدان في فتح المدن، المدينة تلو الأخرى حتى لم يكن يتبقى من كل بلاد الأندلس إلا جزءًا يسير، وعندئذ أمر الخليفة الوليد بن عبد الملك موسى بن نصير بوقف الفتوحات والعودة إلى دمشق خوفًا من هلكة جيش المسلمين، فرجع موسى ومعه طارق بن زياد ولما وصل دمشق، وجد الوليد بن عبد الملك في مرض الموت، ثم لم يلبث أن مات وتولى الخلافة من بعده أخوه سليمان بن عبد الملك، فذهب موسى بن نصير مع سليمان بن عبد الملك إلى الحج ومات في المدينة سنة 97هـ= 716م.
لقد مات القائد المسلم موسى بن نصير بعد أن ملأ جهاده بلاد الشمال الإفريقي والأندلس وجباله وسهوله وهضابه، كان موسى بن نصير يقود هذا الجهاد في شبه الجزيرة الأندلسية وهو يبلغ من العمر خمسًا وسبعين سنة، ممتطيًا جواده يهبط في وديانها ويرتفع على صخراتها، يتحرك فيه إيمان بالله العلي الكبير، فتسمو نفسه وتتجدد طاقته وتحدوه لإعلاء كلمة الله ورفع رايته في كل مكان، فيندفع قوي الجنان رغم ما علا رأسه من الشيب الوقور، يقوده إصرار العقيدة السمحة، وهمة الإيمان الفتي.

طارق بن زياد
طارق بن زياد الليثي، أصله من البربر، أسلم على يد موسى بن نصير وكان من أشد رجاله فعينه موسى على طنجة وظل واليًا عليها حتى بعثه موسى على رأس الحملة التي غزت الأندلس، فعبر البحر وتوغل في أرض الأندلس وافتتح العديد من المدن واستمر في فتحه وغزواته حتى لحق به قائده موسى بن نصير واشتركا القائدان في فتح المدن وتحقيق مزيد من الانتصارات حتى لم يكن يتبقى من كل بلاد الأندلس إلا جزءًا يسير، وعندئذ وخوفًا من هلكة الجيش الإسلامي أمرهما الخليفة الوليد بن عبد الملك بوقف الفتوحات والعودة إلى دمشق.
بعد عودة طار بن زياد إلى دمشق مع موسى بن نصير انقطعت كل أخباره ولا أحد يدري هل عاد مرة أخرى إلى الأندلس أم بقي في دمشق، وأقوال المؤرخين مضطربة في خاتمة أعماله، والراجح أنه لم يتولى القيادة بعد ذلك، ومهما بلغ المؤرخ في الثناء على طارق فإنه لا يستطيع وفاء حقه، ولو فكر أحدنا في الأمر لحظة لاستخرج من حياة طارق وأعماله سرًا من أسرار قوة الإسلام، وناحية من نواحي امتيازه، فطارق هذا رجل مغربي بربري جاء الإسلام فجعل منه الإسلام قائدًا فاتحًا، وسياسيًا محنكًا يقود الجيوش ويفتح الأمصار، ويوقع المعاهدات في قدرة وكياسة جديرتين بالإعجاب.

عبد الرحمن الغافقي
هو عبد الرحمن بن عبد الله بن بشر بن الصارم الغافقي، ينتسب إلى قبيلة غافق باليمن، وكان من كبار القادة الغزاة الشجعان، رحل إلى إفريقية، ثم وفد على سليمان بن عبد الملك الأموي في دمشق، وعاد إلى المغرب، فاتصل بموسى بن نصير وولده عبد العزيز أيام إقامتهما في الأندلس، وتولي قيادة الشاطئ الشرقي من الأندلس، وفي سنة 112هـ= 730م ولاه هشام بن عبد الملك إمارة الأندلس.
كان عبد الرحمن الغافقي جنديًا عظيمًا ظهرت مواهبه في الغزوات الحربية، وكان حاكمًا قديرًا بارعًا في شئون الحكم والإدارة، ومصلحًا كبيرًا، بل كان بلا ريب أعظم ولاة الأندلس وأقدرهم جميعًا، وتجمع الرواية الإسلامية على تقديره وعدله وحلمه وتقواه ورفقه ولينه، وبدأ عبد الرحمن ولايته بإصلاح الإدارة ومعالجة ما أصابها من الخلل، كما عدَّل نظام الضرائب وفرضها على الجميع بالعدل والمساواة ورد إلى النصارى كنائسهم وأملاكهم المغصوبة، كما عني بإصلاح الجيش وتنظيمه، وقمع الفتن والمظالم وأخمد النزاعات والثورات وحصَّن القواعد والثغور.
بعد أن وحد عبد الرحمن الغافقي المسلمين تأهب لاستكمال الفتح الإسلامي وتوجه بالجيش ناحية فرنسا، وأخذ يفتح المدينة تلو المدينة حتى اصطدم مع جيش الفرنج بقيادة شارل مارتل في حرب دامية وفي أثناء المعركة أصابه سهم ألقاه من على فرسه شهيدًا سنة 114هـ= 732م، وباستشهاده انهزم المسلمون هزيمة قاسية في تلك المعركة التي تعرف في التاريخ الإسلامي بموقعة بلاط الشهداء.

عبد الرحمن الداخل
هو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، الملقب بصقر قريش، ويعرف بعبد الرحمن الداخل، مؤسس الدولة الأموية في الأندلس، ولد في دمشق سنة 113هـ=731م، ونشأ يتيمًا في بيت الخلافة الأموي حيث مات أبوه وهو صغير، ولما انقلب العباسيون على الأمويين، هرب عبد الرحمن بن معاوية من الشام إلى العراق، ولكن أدركته خيول العباسيين، فعبر نهر الفرات واتجه إلى بلاد المغرب ولكن لم يكن الوضع بها آمنًا فاتجه إلى الأندلس وبدأ يجمع الناس حوله من محبي الدولة الأموية فقاتله والي الأندلس حينئذ يوسف بن عبد الرحمن الفهري فانتصر عليه عبد الرحمن الداخل ودخل قرطبة عاصمة الأندلس واستقر بها.
بدأ عبد الرحمن الداخل بعد ذلك ينظم أمور الأندلس، وكانت هناك ثورات في كل مكان من أرض الأندلس، فقد قامت عليه خلال فترة حكمه أكثر من خمس وعشرين ثورة، قضى عليها جميعًا، فقد تمتع عبد الرحمن الداخل بفكر عسكري في غاية الدقة، فحياته كلها تقريبًا حروب ومناوشات ورغم ذلك استطاع أن يوطد ملكه في الأندلس دون منازع، ولولا عبد الرحمن الداخل لانتهى الإسلام من الأندلس بالكلية، هكذا قال المؤرخون عن عبد الرحمن الداخل، فهو شخصية تشخص الأبصار وتبهر العقول، فمع رجاحة عقله وسعة علمه كان لا ينفرد برأيه بل كان يلتزم بتطبيق الشورى، ومع شدته وحزمه وجهاده وقوته كان شاعرًا محسنا رقيقا مرهف المشاعر، ومع هيبته عند أعدائه وأوليائه إلا أنه كان يتبسط مع الرعية، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم، ويصلي بهم ومعهم.
لقد كانت حياة القائد العظيم عبد الرحمن الداخل وقفًا على الجهاد وإقامة الدولة الإسلامية، وتثبيت بنيانها، وإرساء دعائمها، ورد الطامعين فيها، فكانت الأيام التي عاشها الأمير عبد الرحمن في طمأنينة وراحة لا تزيد على أيام قليلة، وكانت حياته حركة مستمرة في تنظيم الجيوش، وعقد الرايات، وتوجيه القوات، وتحصين الثغور، والقضاء على الفتن والثورات، ووضع أسس البنيان الحضاري، فعاش تسعًا وخمسين سنة، منها تسع عشرة سنة في دمشق والعراق قبل سقوط دولة الأمويين، وست سنوات فرارًا من بني العباس وتخطيطًا لدخول الأندلس، وأربع وثلاثون سنة في الملك ببلاد الأندلس، وتوفي بقرطبة ودفن بها، فكانت فترة حكمه من سنة 138هـ= 755م وحتى سنة 172هـ= 788م، فمات وترك الأندلس وهي في أقوى فتراتها في التاريخ بصفة عامة.

عبد الرحمن الناصر
هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم الربضي ابن هشام بن عبد الرحمن الداخل، أبو المطرف المرواني الأموي: أول من تلقب بالخلافة من رجال الدولة الأموية في الأندلس، ولد في قرطبة سنة 277هـ=891م ونشأ يتيمًا فقد قُتل أبوه وعمره عشرين يومًا فرباه جده، وكان عبد الرحمن منذ صغره شديد النجابة والنبوغ، حتى كان جده يرشحه لمختلف المهام ويندبه للجلوس مكانه في بعض الأيام، حتى قيل: أنَّ جده قد رشحه لولاية عهده حينما اشتدَّ عليه المرض، فكان أول من بايعه بعد وفاة جده أعمامه وأعمام أبيه.
تولى عبد الرحمن الناصر الحكم سنة 300ه= 912م وقام بأمر الإمارة، فإذا به يُحيل الضعف إلى قوة والذل إلى عزة والفرقة إلى وحدة، فأعاد توزيع المهام والمناصب، وحين تولى الحكم لم يكن عبد الرحمن الناصر يملك من بلاد الأندلس سوى قرطبة وما حولها من القرى، وبدأ من هذه المساحة الصغيرة التي لم تكن تُمثِّل أكثر من عُشر مساحة الأندلس يغير من التاريخ، فاتجه إلى الثورات ومحاولة ترويضها وبعد ستة عشر عامًا من الكفاح المضني وحَّد الأندلس كلها تحت راية واحدة؛ ولم يتجاوز عمره آنذاك ثمانية وثلاثين عامًا، ثم أطلق على نفسه لقب أمير المؤمنين.
وقد قامت في عهد عبد الرحمن الناصر نهضة حضارية كبرى، فلم يكن اهتمامه بالجيش والأمن فقط، بل اهتم بالنواحي العلمية والاقتصادية والعمرانية حتى صارت دولته أقوى دول العالم، وصار هو بلا منازع القائد الأعظم في زمانه وذاع صيته في الدنيا كلها، وجاءت السفارات من كل أوربا تطلب ودَّه، وبعد خمسين عامًا من حكمه للبلاد توفي سنة 350هـ= 961م، عن اثنين وسبعين عامًا، وقد وجدوا في خزانته ورقة مكتوب فيها أيام السرور التي صفتْ له دون كدر فعدُّوها فوجدوها أربعة عشر يومًا.

محمد بن أبي عامر
هو محمد بن عبد الله بن عامر بن أبي عامر بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك المعافري، وكان جده عبد الملك المعافري من العرب الفاتحين الذين دخلوا الأندلس مع طارق بن زياد، كما كان والده من أهل الدين والعفاف والزهد في الدنيا، وقد نشأ محمد بن أبي عامر نشأة حسنة، وظهرت عليه النجابة منذ نعومة أظافره، وقد سار على خطى أهله وتعلم الحديث والأدب، ثم سافر إلى قرطبة ليكمل تعليمه، وكان ذا طموح كبير وهمة عالية وذكاء، ومن شدة نبوغه رشحه أحد الوزراء لرعاية وتربية هشام بن الحكم ابن الخليفة الحكم المستنصر.
لم يلبث محمد بن أبي عامر أن تدرج في المناصب حتى وصل إلى أعلى المراتب ببراعته وكفاءته، وكان مما ساعده للوصول إلى هذه المراتب العالية أنه استطاع استمالة السيدة صبح جارية الحكم المستنصر وأم ولده وولي عهده هشام بحسن خدمته لها ولابنها، ولما مات الحكم المستنصر كان ولي العهد هشام بن الحكم صغيرًا فتولى محمد بن أبي عامر أمر الوصاية عليه وضمن لأمه استقرار الملك لابنها، وبحكم وصايته على الخليفة الصغير أصبح محمد بن أبي عامر الحاكم الفعلي للبلاد، وصار إليه الأمر والنهي والتولية والعزل، وإخراج الجيوش للجهاد، وتوقيع المصالحات والمعاهدات، حتى عرف ذلك العهد بعهد الدولة العامرية.
ظل محمد بن أبي عامر الذي تلقب بالحاجب المنصور يحكم الأندلس ابتداء من سنة 366ه= 976م وحتى وفاته في سنة 392هـ= 1002م، وكان عهده يتميز بالقوة والكفاءة والأمن والأمان والعدل مع الرعية والجهاد الدائم الذي لا ينقطع، حيث كان يخرج للجهاد مرتين في العام، فقد خاض أكثر من خمسين معركة طوال مدة حكمه التي استمرت ستة وعشرين سنة فلم ينهزم له فيها جيش ولم تنكسر له راية، وتوفي وهو في أوج قوته، والأندلس قد بلغت من القوة والعظمة ما لم تصل إليه من قبل في أي عصر من العصور، بل صارت في عهده في ذروة مجدها.

يوسف بن تاشفين
يوسف بن تاشفين بن إبراهيم، أمير دولة المرابطين التي ظهرت في منتصف القرن الخامس الهجري كحركة جهادية لنشر الإسلام في أقصى المغرب، وتولى زعامتها أبو بكر بن عمر اللمتوني، وكان معه في الجيش ابن عمه يوسف بن تاشفين الذي ارتفع شأنه فتنازل له أبو بكر عن السلطة، فعمل يوسف بن تاشفين من أول يوم له في قيادة المرابطين على تحويل الحركة المرابطية من حركة جهادية إلى دولة كاملة الأركان، وظل يعمل جاهدًا حتى تحقق له ما أراد ومن ثم استطاع أن يوحد بلاد المغرب تحت راية واحدة.
في الوقت الذي كان يعمل فيه يوسف بن تاشفين على توحيد بلاد المغرب كانت دولة الإسلام في الأندلس تمر بمرحلة من النزاع والتفرق وانقسمت لعدة دويلات صغيرة عرفت في التاريخ بفترة أمراء الطوائف مما أدى إلى كثرة الخلافات وإحداث الفتن والاضطرابات بين هؤلاء الأمراء وحينئذ استغل الإسبان تقسيم الأندلس إلى دويلات وصاروا يحتلونها مدينة تلو أخرى، فاستغاث أحد ملوك الطوائف وهو المعتمد بن عباد أمير مدينة أشبيلية بيوسف بن تاشفين، فلم يتردد ابن تاشفين وتحرك بنفسه على رأس جيشه من المغرب إلى الأندلس ليلتقي مع جيش الإسبان ويهزمهم هزيمة قاسية في معركة الزلاقة الشهيرة في سنة 479 هـ= 1086م ثم عاد إلى المغرب.
بعد ذلك تكرَّرت هجمات الإسبان مرة أخرى على الأندلس، بل وازداد النزاع بين أمراء الطوائف، فاجتمع فقهاء الأندلس على دعوة يوسف بن تاشفين مرة أخرى، فتوجه ابن تاشفين إلى الأندلس هذه المرة وقضى على الفتن والنزعات وضمها إلى دولته وتحت رايته، وظل يوسف بن تاشفين يحكم الأندلس حتى توفي في سنة 500هـ= 1106م، بعد حياة حافلة بالجهاد، وقد توفى تمام المائة منها سبع وأربعون سنة في الحكم.

يعقوب المنصور الموحدي
هو أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي تولى حكم دولة الموحدين بعد وفاة أبيه سنة 580هـ= 1184م، وكان أقوى شخصية في تاريخ دولة الموحدين، ومن أعظم الشخصيات في تاريخ المسلمين بصفة عامة، وقد عُدَّ عصره في دولة الموحدين بالعصر الذهبي، فقد وجه عنايته إلى الإصلاح ورفع راية الجهاد، ونصب ميزان العدل، ونظر في أمور الدين والوعظ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واستطاع أن يغير كثيرًا من أسلوب السابقين له، فكانت سمته الهدوء والسكينة والعدل والحلم حتى إنه كان يقف ليقضي حاجة المرأة وحاجة الضعيف في قارعة الطريق، وكان يقيم الحدود حتى في أهله وعشيرته، وكان يؤم الناس في الصلوات الخمس فاستقامت الأحوال في البلاد وعظمت الفتوحات.
أيضًا حارب المنكرات واهتم بالعلم والعلماء، كما اهتم بالجانب العمراني والحضاري، وكان أيضًا يجمع الزكاة بنفسه ويفرقها على أهلها، كما كان زاهدًا كريما كثير الإنفاق؛ وقد كان مجلسه عامرًا بالعلماء وأهل الخير والصالحين، وقد ذكر الذهبي في السير أنه كان يجيد حفظ القرآن والحديث، ويتكلم في الفقه ويناظر، وكان فصيحًا مهيبًا، يرتدي زي الزهاد والعلماء، ومع ذلك عليه جلالة الملوك.
إضافة إلى ذلك كان أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي رجلًا حازمًا موهوبًا في شئون الإدارة والقيادة وأصبحت جيوش الموحدين في أيامه قوة ضاربة كبرى، وبعد توليه وطد الأوضاع كثيرًا في بلاد الأندلس، وقد كانت أشد الممالك ضراوة عليه مملكتي البرتغال وقشتالة وسرعان ما انطلق بجيشه بعدما توالت عليه كتب أهل الأندلس هو في المغرب يقاتل المتمردين تخبره أن جمعًا من الفرنج خرجوا إلى بلاد الإسلام فقتلوا وسبوا وغنموا وأسروا وعاثوا فيها عيثًا شديدًا، عندئذ عدل المنصور عن أمر المتمردين وعبر إلى الأندلس والتقى مع قوات الصليبيين في موقعة الأرك الشهيرة سنة 591هـ= 1195م لينتصر عليهم انتصارًا ساحقًا ارتفع به كثيرًا نجم دولة الموحدين وارتفعت معه معنويات الأندلسيين ومعنويات المسلمين في كل بلاد العالم الإسلامي، وقد لقي المنصور ربه بعد هذه المعركة بأربع سنوات حيث توفي في سنة 595هـ= 1199م عن عمر لم يتعدى الأربعين سنة، تم له فيه حكم دولة الموحدين خمس عشرة سنة[1].


[1] دكتور راغب السرجاني:قصة الأندلس من الفتح إلى السقوط.