مدينة السلام… بغداد
26-04-2017, 12:07 PM
على الرغم من أنّ بغداد اليوم تعدّ من أكثر المدن التي يحدث فيها الخراب والدمار، لكنّ تأسيسها منذ 1250 سنةً كان نقطة علّامٍ في تاريخ العمارة المدنية والحضارة البشرية. بل وأكثر من هذا فقد كانت معلماً للحضارات، وكان مولد هذه المدينة هو النجم الهادي لثقافات عالمنا.
وعلى عكس المعتقدات السائدة، فإن بغداد مدينةٌ قديمةٌ لكنها ليست عتيقةً. أنشأها الخليفة العباسية المنصور في عام 762 ميلادي، كعاصمةٍ جديدةٍ للخلافة الإسلامية.
وبغداد ليست إلا طفلاً إذا ما قارنّاها بمدينة أوروك، مدينةُ عتيقةٌ من بلاد ما بين النهرين، والتي يعدّها البعض واحدةً من أقدم مدن العالم، ترجع بتاريخها لعام 3200 قبل الميلاد، ويعتقد البعض أن اسم “العراق” مشتقٌ منها.
وقد تمكنا من التعرف على تخطيط المدينة شديد الدقة والمٌلهِم بفضل السجلات التي توضّح طريقة بنائها. فلقد عرفنا، على سبيل المثال، أنّه بينما كان الخليفة المنصور يبحث عن مكانٍ ليبني عاصمته الجديدة، قاطعاً نهر دجلة جيئةً وذهاباً، قام مجموعة من الرهبان النسطوريين، والذين سكنوا المنطقة قبل المسلمين، بنصح الخليفة ببنائها في هذا الموقع لاستراتيجيته ومُناخه المعتدل.

وبحسب الباحث الجغرافي والتاريخي العربي “اليعقوبي“، صاحب كتاب “كتاب البلدان“، فإنّ موقعها الاستراتيجي على نهر دجلة وبالقرب من نهر الفرات أعطاها المكانة الكبيرة لتصبح “مركز الكون” بحسب تعبيره. وبينما كان اليعقوبي يكتب ويؤلف كانت مدينة بغداد قد أصبحت مركز العالم، موطناً للعلماء المبدعين، الفلكيين، الشعراء، الرياضيين، الموسيقيين، والفلاسفة.
وحالما وافق الخليفة المنصور على المكان، فقد حان وقت الشروع في التصميم. وكما أخبرنا التاريخ، فإنّ التصميم بأكمله كان من عمل الخليفة. وتحت إشرافه الدقيق قام العمّال برسم خطوط التصميم لمدينته الدائرية على الأرض مستخدمين الرماد في ذلك. ويعزى الفضل في رسم الدائرة المثالية إلى تعاليم اقليدس، الذي أحبّه الخليفة المنصور ودرس تعاليمه. ثم أمر بإشعال كراتٍ من القطن المغمورة بالنفط السائل وأن توضع على طول مكان امتداد السور المحصّن بشكلٍ كبيرٍ ليلعن بدء إنشاء المدينة.

وفي 30 تموز من عام 762، وعندما أعلن منجمو البلاط الملكي أنّ هذا التاريخ هو التاريخ الأكثر يُمناً لبدء أعمال البناء، قام المنصور بالصلاة لله، ووضع اللبنة الأولى بمراسمٍ احتفاليةٍ، ثم أمر العمال ببدء العمل.
إنّ مقياس هذا المشروع المدني الضخم هو واحدٌ من أبرز الأوجه في قصة مدينة بغداد. إن محيط المدينة بطول 4 أميال، وجدران القرميد الهائلة المرتفعة أمام ضفاف نهر دجلة كانا البصمة المميزة لمدينة المنصور الدائرية.
وبحسب باحث القرن الحادي عشر الخطيب البغدادي، والذي يعدّ كتابه “تاريخ بغداد” منجماً للمعلومات حول طريقة بناء المدينة، فإن كل قسمٍ من الحائط تألف من 162,00 حجرة لأول ثلث من ارتفاع الحائط، 150,000 حجر لثاني ثلث و140,000 حجر للثلث الأخير، وربطت مع بعضها بواسطة حزمٍ من القصب. وقد بلغ ارتفاع السور الخارجي حوالي 25 متراً، مكللُ بالبروج المحصّنة ومحاط بالقلاع. ويطوّق خندقٌ عميقٌ محيط الجدار الخارجي.
وكانت القوة العاملة ذات حجمٍ هائلٍ. فآلاف من المهندسين والمعماريين، الخبراء القانونيين، النحّاتين، الحدادين، الحفّارين، والعمّال العاديين كلهم تمّ جمعهم من مختلف أراضي الإمبراطورية العباسية. في البدء، قاموا بالدراسة والقياس ثم حفروا الأساسات. وبعد ذلك، وباستخدام الطوب المسخّنة بالشمس ونار الفرن التي كانت دائماً الركائز الأساسية التي يستند عليها البناء في منطقة ما بين النهرين في غياب مقالع الحجارة؛ قاموا بإقامة جدران المدينة الشبيهة بالحصن طوبةً طوبة. وقد كان ذلك أعظم مشروع بناءٍ في العصر الإسلامي حتى الآن، يعتقد اليعقوبي أنّ هناك حوالي 100,0000 عاملٍ قد شاركوا بالعمل.
وقد كان التصميم الدائري ملفتاً ومبدعاً. “ويقولون إنه لا توجد أية مدينةٍ دائريةٍ معروفةٍ في كل مناطق هذا العالم” حسب ما كتبه الخطيب. اخترقت أربع بواباتٍ، أنشأت على مسافةٍ واحدةٍ من بعضها، السور الخارجي حيث يوجد من هناك طرقٌ تفضي إلى مركز المدينة. فكلٌ من باب الكوفة في الجنوب الغربي وباب البصرة في الجنوب الشرقي يفتحان على قناة سراة، جزءٌ أساسيٌ من شبكةٍ من الممرات المائية التي تجّر مياه الفرات إلى نهر دجلة مما جعل هذا الموقع في غاية الجمال. ويقود باب الشام في الشمال الغربي إلى الطريقة الرئيسي إلى الأنبار، وعبر الصحاري إلى سوريا. وإلى الشمال الشرقي يوجد باب خرسان بالقرب من نهر دجلة.
صورة لآخر بوابة في مدينة بغداد، صورة لمحمد جليل Mohammed Jalil/EPAولقد كان هناك عددٌ متغيرٌ من الجسور، والتي تألّفت من قوارب صغيرةٍ مربوطةٍ ببعضها بواسطة حبالٍ وتُثبّت على كل ضفة، ويعدّ ذلك من البصمات المميزة لمدينة بغداد، ولم ترَ أية بنىً ثابتة في المدينة حتى أتى الاحتلال البريطاني في القرن العشرين وصبّ جسراً من الحديد على نهر دجلة.
وهناك حراسةٌ فوق كل بوابةٍ من البوابات الأربعة. وتطلّ تلك التي تعلو المدخل في الجدار الرئيسي على المدينة وعلى أميالٍ عديدةٍ من حقول النخيل الخصبة والزمرد الذي يحفّ نهر دجلة. وكان المنصور يفضّل قاعة الاستقبال الكبيرة التي تتوضّع فوق بوابة خرسان ويعدّها ملجأً من حرارة بعد الظهر الشديدة.
يقول الجاحظ: “لم أرَ في حياتي مدينةً بهذا الارتفاع، أو تلك الدائرية المنتظمة، وتمتلك كل هذه الميزات”.

لقد كانت الطرق الأربعة المستقيمة التي تتجه إلى مركز المدينة من البوابات الخارجية محفوفةً بالممرات المقنطرة التي تحتوي المحلات التجارية والأسواق. وهناك عدة طرقٍ تتفرع من هذه الطرق الأساسية لتفضي إلى سلسلةٍ من الساحات أو البيوت.
ويتألف مركز مدينة بغداد من بنية مغلقةٍ هائلةٍ، بقطرٍ يبلغ 1.9 كيلومتر، ويحتل الحرم الملكي مكان القلب منها. أما الحدود الخارجية لها فهي كانت من أجل قصور أولاد الخليفة، منازل حشم القصر والخدم، مطبخ الخليفة، ثكنات لأحصنة الحرس، ومكاتب إدارية أخرى.
أما صميم المدينة فكان فارغاً باستثناء بنائين هما المسجد الكبير وقصر الذهب. ولم يكن مسموحاً لأي أحدٍ بأن يركب الخيل في هذا المكان باستثناء الخليفة المنصور نفسه.
ولقد كان قصر المنصور بناءً مهماً حيث بلغت مساحته حوالي 33,400 متر مربع، وتعدّ القبة الخضراء التي تعلو قاعة الاستقبال الرئيسية والتي ترى من على بعد أميالٍ أهم ميزةٍ لهذا القصر.
وقد كان جامع المنصور الكبير هو أول جامعٍ في بغداد، والذي تبلغ مساحته 8350 متر مربعاً، والذي قُدّم كدليلٍ على الاحترام المطلق لله تعالى، وكان له الدور في إيصال الرسالة التي تنادي بأن العباسيين هم أقوى وأهم عباد الله على الأرض.
وفي عام 766 اكتملت مدينة المنصور الدائرية، وكان الرأي العام في تلك الفترة أن تلك المدينة ما هي إلا نصرٌ ساحق.
وقد هدّمت آخر آثار مدينة المنصور الدائرية في أوائل عام 1870 عندما قام مدحت باشا، الوالي العثماني، بتحطيم جدران المدينة في نوبةٍ ورغبةٍ منه بالتحديث.
يا ليل أين هو العراق. أين الأحبة أين أطفالي وزوجي و الرفاق، بدر شاكر السياب
الصورة للخطاط حسن مسعوديأمّا اليوم فلم تعد بغداد التي وصفها اليعقوبي في كتابه بأنّها وسط الدنيا، وأنّه اجتمع فيها مالم يجتمع في أي مدينة في العالم، فكانت ملجئً للناس الذين تركوا بلادهم، حتى أنهم أحبوها أكثر من بلادهم، فهي كانت وجهة القاصي والداني، لكثرة خيارتها حتى غدت كأنما سيقت إليها خيرات الأرض جامعةً، وجمّعت فيها ذخائر الدنيا، لتتكامل فيها بركات العالم.
بل ومع الأسف أصبحت مدينةً اقترن اسمها مع اسم الإرهاب فهي تعاني تحت وطأته الأمرين، من خرابٍ ودمارٍ ينهش بجسدها ويمزق أبناءها.


سحر الحرف والكلام


شكرا للأخ صقر الأوراس على التوقيع