ابتكار المسلمين علم الجيولوجيا
20-10-2019, 12:56 PM


علم الجيولوجيا في القرآن الكريم

وَأَنْزَلْنَا الْـحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِجاء في كثير من آيات القرآن الكريم إشارات واضحة إلى علم طبقات الأرض (الجيولوجيا)، ومن ذلك قول الله تعالى: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر: 27]، وقوله U: {وَأَنْزَلْنَا الْـحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} [الأعراف: 10]، وغير ذلك من الآيات الكريمة التي تحدَّثت عن هذا النوع من العلوم، والتي دفعت المسلمين إلى دراسته دراسة مستفيضة.

الجيولوجيا عند الإنسان القديم

لا ريب أن الإنسان القديم كان لديه شبه معرفة بالمعادن، وإن كانت معرفة بدائيَّة، أمَّا علماء اليونان فإن أرسطوطاليس (383-322 ق. م) قسَّم العالم إلى قسمين رئيسين: الأرض؛ وتتكوَّن من العناصر الأربعة: (الماء، والنار، والهواء، والتراب). والسماء؛ وتتكوَّن من الأثير، وبقيت آراء أرسطوطاليس متداولَة إلى أن جاء الإسلام الذي قضى على الخرافات والشعوذة والأساطير[1].

إنجازات علماء المسلمين في الجيولوجيا

لقد اتجه علماء المسلمين إلى التأمُّل والاستنتاج والبحث عن الحقيقة بالطريقة العلميَّة الصحيحة، فنجحوا نجاحًا باهرًا في تفسير الظواهر الطبيعيَّة، ودراسة الصخور والجبال والمعادن، واستطاعوا أن يُعَلِّلوا كثيرًا من الظواهر الجيولوجيَّة مثل الزلازل والبراكين، والمدِّ والجزر، وتكوُّن الجبال والوديان، والسيول والأنهار والجداول، ولعل أول أثر مسجَّل لعلوم الأرض لدى المسلمين هو ما تحتويه المعاجم وكتب اللغة التي تزخر بمفردات هذا العلم، كالصِّحاح للجوهري، والقاموس للفيروزآبادي[2]، والمخصَّص لابن سيده[3]، وكُتُب الرحلات والبُلدان، والكتب التي درست الجواهر؛ ومنها (صفة جزيرة العرب) للهمداني، ثم نجد حدود هذا العلم واضحة المعالم لدى العلماء الذين تناولوه أمثال: الكندي، والرازي، والفارابي، والمسعودي، وإخوان الصَّفا، والمقدسي[4]، والبيروني، وابن سينا، والإدريسي، وياقوت الحموي، والقزويني[5]، وغيرهم كثير.

فقد قدَّم هؤلاء العلماء نظريات عديدة عن الزلازل، وأسباب حدوثها، وعن المعادن والصخور، وأفاضوا في تعريف الصخور الرسوبيَّة والتحجُّر فيها، والتحوُّلات البُعدية لها، وكتبوا عن النيازك، ووقفوا على طبيعتها وأصلها، وقسَّموها إلى نوعَيْن: حجري وحديدي، ووصفوا هيئاتها، ومن أهمِّها النيازك الجاورسيَّة (الحُبَيْبِيَّة)، وتحدَّثوا عن ارتفاع درجة حرارة باطن الأرض، كما كان لهم الفضل بالخروج بنظريَّة تكوُّن الجبال الانكساريَّة والالتوائيَّة وغيرها، وكذلك تأثير عوامل التعرية في الجبال والأنهار.

النيازك والشهبكما قدَّم العلماء المسلمون دراسات قيِّمة عن الجيولوجيا الطبيعيَّة والتاريخيَّة فكان لهم الكثير من الإنجازات، وقد برهنت هذه الدراسات على أن أكمل صورة من صور الماء في الطبيعة هي تلك التي وصفها العلماء المسلمون في مصنَّفاتهم، ونجد آراءهم في تكوُّن الأنهار علميَّة محضة، ونجد ذلك بجلاء في (رسائل إخوان الصفا)، وعند ابن سينا في كتابه (النجاة)، وفي كتاب (عجائب المخلوقات) للقزويني، كما أن علم البلورات عُرِف بدايته على يد البيروني في كتابه (الجماهر في معرفة الجواهر)، ونما على يد القزويني في كتابه (العجائب)، ولم يسبقهما أحدٌ إلى ملاحظاتهما الدقيقة الواردة في كتابيهما هذين.

وتناول العلماء المسلمون أيضًا ما يمكن أن نطلق عليه (علم زيت الأرض)، وهو فرع من فروع الجيولوجيا التطبيقيَّة؛ فقد ميَّزوا بين نوعين من النفط واستعملوهما، وتحدَّثوا عن التنقيب، وقدَّموا نماذج للتنقيب غير المباشر، واهتمَّ عدد غير قليل من العلماء المسلمين الأوائل بدراسة شكل الأرض، وتوزيع اليابسة والماء، ووصف تضاريس سطح الأرض، والعوامل الخارجيَّة التي تتسبب في تشكيلها، مثل الأنهار والبحار والرياح، والعواصف البحرية، ولم يغِبْ عن بالهم دراسة العوامل المؤثِّرة في قشرة الأرض من داخلها؛ كالبراكين والزلازل والخسوف الأرضيَّة، كما تناولوا تبادل الأماكن بين اليابسة والماء، والمدَّة الزمنيَّة التي يستغرقها هذا التبادل، كذلك تطوُّر الأنهار من الشباب إلى الهرم ثم الموت.

وجدير بالذكر أن الجيولوجيا عند المسلمين ارتبطت بعلوم أخرى كثيرة ساعدت في نموِّها، وكان هذا دَأْب العلماء آنذاك؛ فلم يكن هناك التخصُّص الدقيق، بل كانت هناك المعرفة الموسوعيَّة الشاملة؛ ولذلك فإن أعمال العلماء المسلمين في مجال الجيولوجيا وعلوم الأرض جاءت متفرِّقة ومنتشرة في عدد كبير من المجلدات تحت أسماء مختلفة، فعلى سبيل المثال نجد أن ابن سينا يتناول المعادن والمتيورولوجيا[6] في رسالة المعادن والآثار العلوية في كتابه (الشفاء)، والنويري[7] يتناول الجيولوجيا مع المتيورولوجيا[8] في كتابه (نهاية الأرب)، ويعالج المسعودي في (مروج الذهب) قضايا جيولوجية جنبًا إلى جنب مع قضايا جغرافية[9].

الزلازل

شغلت طبيعة الزلازل أذهان الناس منذ أقدم الأزمنة، وقد أرجع بعض فلاسفة اليونان القدماء الهِزَّات الأرضية إلى رياح تحت خفيَّة، بينما أرجعها البعض الآخر إلى نيران في أعماق الأرض، وجاء أوَّل وصف علمي لأسباب حدوث الزلازل على أيدي العلماء المسلمين في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)؛ حيث اهتمَّ العلماء المسلمون بدراسة الزلازل وتسجيل تواريخ حدوثها وأماكنها، وأنواعها، وما تخلِّفه من دمار، ودرجاتِ قوَّتها، وحركةِ الصخور الناتجة عنها، ومضارِّها ومنافعها، وحاول بعضهم التخفيف من أخطارها، وتناول ذلك كلٌّ مِن ابن سينا في موسوعته (الشفاء) في الجزء الخاصِّ بالمعادن والآثار العلوية، وإخوان الصفا في (الرسائل)، والقزويني في (عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات)، وكان لكلٍّ منهم رأيه الواضح في هذا الصدد.

الزلازل والكوارس الطبيعيةوعلى سبيل المثال يقول ابن سينا في وصف الزلازل وأسباب حدوثها وأنواعها: "وأمَّا الزلزلة فإنها حركة تعرض لجزء من أجزاء الأرض بسبب ما تحته، ولا محالة أن ذلك السبب يعرض له أن يتحرَّك ثم يحرِّك ما فوقه، والجسم الذي يمكن أن يتحرَّك تحت الأرض إما جسم بخاري دخاني قوي الاندفاع كالريح، وإمَّا جسم مائي سيَّال، وإمَّا جسم هوائي، وإمَّا جسم ناري، وإمَّا جسم أرضي؛ والجسم الأرضي لا تَعْرِض له الحركة أيضًا إلا لسببٍ مثل السبب الذي عَرَض لهذا الجسم الأرضي، فيكون السبب الأول الفاعل للزلزلة ذلك، فأمَّا الجسم الريحي -ناريًّا كان أو غير ناري- فإنه يجب أن يكون هو المنبعث تحت الأرض، الموجب لتمويج الأرض في أكثر الأمر"[10].

ويعزو إخوان الصفا الزلازل إلى الغازات التي تحدث من جرَّاء ارتفاع درجة حرارة باطن الأرض، فتخرج من المنافذ إذا كانت الأرض في تلك البقعة متخلخلة، وإذا انصدعت الأرض تخرج هذه الغازات وينخسف مكانها، ويُسمع لها دويٌّ وزلزلة[11].

المعادن والصخور

عرف المسلمون المعادن والأحجار الكريمة، وعلموا خواصَّها الطبيعية والكيميائيَّة، وصنَّفوها ووصفوها وصفًا علميًّا دقيقًا، كما عرفوا أماكن وجود كلٍّ منها، واهتمُّوا بالتمييز بين جيِّدها ورديئها، وتناولوا أيضًا تكوين الصخور الرسوبيَّة، وتكوين أسطحها، ورواسب الأودية، وعَلاقة البحر بالأرض، والأرض بالبحر، وما ينشأ عن هذه العَلاقة من تكوينات صخريَّة أو عوامل تعرية.

ولعلَّ عطارد بن محمد الحاسب[12] كان أوَّل من ألَّف كتابًا في الأحجار باللغة العربيَّة، وهذا الكتاب هو (منافع الأحجار)، ذكر فيه أنواع الجواهر والأحجار الكريمة، ودرس خواصَّ كلٍّ منها[13]، وقد ذكر الرازي هذا المؤلَّف في كتابه (الحاوي)، وقد عَرَف المسلمون من المعادن حتى عصر البيروني نحوًا من ثمانية وثمانين جوهرًا مختلفًا ممَّا يُسْتَخْرَج من الأرض.

الاحجار والصخورأمَّا ابن سينا فقد ذكر في (الشفاء) أن الأحجار يعود تكوُّنها إلى أسباب ثلاثة؛ فهي إمَّا أن تتكوَّن من الطين بالجفاف، أو من الماء بالبخار أو الترسيب، وقسَّم الموادَّ المعدنية إلى أحجار، وكباريت، وأملاح، وذائبات، وقد تناول ابن سينا الفلزَّات وطريقة تكوينها، وذكر كَمًّا كبيرًا من المعادن، وميزات كلٍّ منها، واحتفاظها بخصائصها الطبيعيَّة، وأن لكل منها تركيبًا خاصًّا لا يمكن أن يتغيَّر بطرق التحويل المعروفة، وإنما المستطاع هو تغيير ظاهري في شكل الفلز وصورته[14].

تحدَّث العلماء المسلمون كذلك عن الأشكال الطبيعيَّة للمعادن، كما تحدَّثوا عمَّا يطرأ على خصائصها من تغيُّر فيزيائيٍّ لعواملَ خارجيَّة؛ فقد ذكروا أن بعض المعادن تتَّخذ أشكالاً هندسيَّة طبيعيَّة خاصَّة بها ولا دخل للإنسان في تشكيلها، ولَربما كان ذلك إرهاصًا لما نسمِّيه اليوم بعلم البلورات؛ فقد وصف البيروني بعضها متناولاً تناسق أسطحها وهندسيَّة أشكالها، ويقول معبرًا عن ذلك بأن أشكال الماس ذاتيَّة، مخروطية مضلَّعة، ومنها ما يتكوَّن من مثلَّثات مركَّبة كالأشكال المعروفة بالناريَّة، متلاصقة القواعد، ومنها ما يكون على هيئة الشكل الهرمي المزدوج.

وأمَّا عن الصخور، فقد تحدث العلماء المسلمون عن أصلها، وكيفيَّة تكوُّنها من الماء (الصخور الرسوبية) أو النار (الصخور النارية)، كما أوجدوا الأوزان النوعيَّة لعدد كبير من الأحجار والفلزات امتازت بالدقة المتناهية، كما ركزوا في علوم الأرض على التضاريس وطبيعة الأرض وجيولوجيا المياه، وعلم الأحافير، والآثار العلوية (الميتورولوجيا) وهي العلاقة العلمية بين علم الأرض وعلم المناخ[15].

البحار والمدُّ والجزر

تناول العلماء المسلمون جيولوجيا البحار والأنهار في مؤلَّفاتهم الجغرافية أكثر من غيرها؛ فقد أفردوا أبوابًا في مصنَّفاتهم الجغرافية تناولوا فيها أسماء البحار ومواقعها والبُلدان التي تطلُّ عليها، وتحدَّثوا عن أماكن من اليابسة كانت بحارًا وأنهارًا، وأماكن تغطِّيها البحار كانت معمورة بالسكان فيما مضى، كما خلفوا مؤلَّفات عديدة في علم الملاحة، وظاهرة المدِّ والجزر التي كان يعتمد عليها ربابنة السفن في رحلاتهم البحريَّة والنهريَّة، ومن بين العلماء الذين كانت لهم آراء متفرِّدة في هذا الشأن الكندي، والمسعودي، والبيروني، والإدريسي، والمقدسي، وغيرهم.

المد والجزرولا يكاد يخلو كتاب من الكتب التي تناولت ذكر البُلدان أو الأقاليم من ذكر البحار والأنهار؛ فالمسعودي في (أخبار الزمان) يتحدَّث بإسهاب عن تكوُّن البحار وعللها وآراءِ من سبقه فيها، كما أورد في (مروج الذهب) جملة من المناقشات الجيولوجية ضمَّنها الحديث عن البحار والأنهار والمدِّ والجَزْر، كما أورد فصلاً كاملاً عن البحار سمَّاه: (ذكر الأخبار عن انتقال البحار)[16]، ويذكر المقدسي أبعاد هذه البحار وأهمَّ ما فيها من جُزُرٍ، ومواضع الخطر فيها، كما يتناول ظاهرة المدِّ والجَزْرِ ويحاول تفسيرها[17].

وقد عرف المسلمون مدى اتِّساع المسطَّحات المائيَّة وعِظَم حجمها إذا قورنت باليابسة، كما عرفوا أن التشكيلات التضاريسيَّة المتنوِّعة تمنع الماء من أن يغمر وجه الأرض؛ فيقول ياقوت الحموي في هذا الصدد: "لولا هذا التضريس لأحاط بها[18] الماء من جميع الجوانب وغمرها، حتى لم يكن يظهر منها شيء". أمَّا نسبة توزيع اليابسة إلى الماء فقد جاءت واضحة عند أبي الفداء في تقويم البُلدان بأن النسبة التي تغطِّيها المياه من سطح الكرة الأرضيَّة تبلغ 75% منها، "فالقدر المكشوف من الأرض هو بالتقريب ربعها، أمَّا ثلاثة أرباع الأرض الباقية فمغمور بالبحار"[19].

التضاريس

تناول العلماء المسلمون الجيومورفولوجيا بشقَّيْها النظري والعملي، وقد توصَّلوا في ذلك إلى حقائق تتَّفق مع العلم الحديث، من ذلك أثر العامل الزمني في العمليَّات الجيومورفولوجية، وأثر الدورتَيْن الصخريَّة والفلكيَّة في تبادل اليابسة والماء، وكذلك أثر كلٍّ من المياه والرياح والمناخ عامَّة في التعرية، ويُعَدُّ البيروني أفضل من تناول هذا الجانب، ويتَّضح ذلك في تعليله لكيفية تكوُّن أحد السهول في الهند، "فقد كان في مكان هذا السهل حوض بحري طَمَرَتْهُ الترسُّبات حتى سوّت منه سهلاً"، كما لاحظ الترسبات النهريَّة، خاصَّة كلَّما قرب النهر من المصبِّ؛ فإن التكوينات تكون ذات حجم كبير عند المنبع عند أول النهر، وتأخذ في الدقَّة والنعومة كلَّما قرب من المصبِّ؛ "فالحجارة عظيمة بالقرب من الجبال وشدَّة جريان مياه الأنهار، وأصغر عند التباعد وفتور الجري، ورمالاً عند الركود والاقتراب من المغايض والبحر... (فما كانت) أرضهم إلاَّ بحرًا في القديم قد انكبس[20] بحمولات السيول"[21].

وكانت آراء ابن سينا في الجيومورفولوجيا أقرب الآراء للنظريات الحديثة في هذا الحقل؛ فهو على سبيل المثال يعزو تكوُّن بعض الجبال إلى سببين: ذاتي (مباشر)، وعرضي (غير مباشر)؛ فالذاتي يحدث عندما تدفع الزلازل القويَّة مساحات من الأرض، وتحدث رابية من الروابي مباشرة، أمَّا السبب العرضي فيحدث عندما تعمل الرياح النسَّافة أو المياه الحفَّارة على تعرية أجزاء من الأرض دون أجزاء أخرى مجاورة لها؛ فتنخفض من جرَّاء عوامل التعرية تلك الأجزاء وتبقى المناطق المجاورة لها مرتفعة، ثم تعمل السيول على تعميق مجاريها إلى أن تغور غورًا شديدًا، وتبقى المناطق المجاورة شاهقة[22].

المتيورولوجيا

عرف العلماء المسلمون أمورًا مهمَّة من هذا العلم الذي أطلقوا عليه (علم الآثار العلوية)، ويتناول هذا العلم الجوَّ وظواهره؛ ودرجات الحرارة، والكثافة، والرياح، والسُّحُب، وهو ما يسمَّى بالأرصاد الجويَّة، وسبق اللغويون العلماء في ذِكْرِ الكثير من مصطلحات هذا العلم، من قبيل ذلك أنهم قسَّموا درجات الحرارة المنخفضة إلى برد، وحرٍّ، وقُرٍّ، وزمهرير، وصقعة (من الصقيع)، وصِرٍّ، وأريز (البرد الشديد). وقَسَّمُوا درجات الحرارة المرتفعة إلى حرٍّ، وحرور، وقيظ، وهاجرة، وفيْح. أمَّا الرياح فقد قسَّموها وَفق الاتجاهات التي تهب منها أو وَفق صفاتها؛ فهناك الشمأل والشّمال والشامية، وهي التي تهب من الشمال، والجنوب أو التيمن وتهب من جهة الجنوب، والصَّبا التي تهب من الشرق، والدَّبُور التي تهبُّ من دُبُر (خلف) الكعبة، والرياح الشماليَّة الشرقيَّة الصبابيَّة، والجنوبيَّة الشرقيَّة الأزيْب، والجنوبيَّة الغربيَّة الداجن، والشماليَّة الغربيَّة الجرْيباء، وما كان حارًّا منها سمَّوْه رياح السموم، والباردة الصَّرْصَر، والرياح الممطرة المعصرة، وغير الممطرة العقيم.

كما أطلقوا على السَّحَاب أسماء تدلُّ على أجزائه ومراحل تكوينه؛ من ذلك: الغمام، والمزن وهو الأبيض الممطر، والسحاب، والعارض، والديمة، والرَّبَاب، ومن أجزاء السحابة الهَيْدَب وهو أسفلها، ويعلوه الكِفَاف، فالرَّحَا وهو ما دار حول الوسط، والخِنْذِيذ وهو الطرف البعيد للسحابة، وأعلى السحاب سمَّوْه البواسق. وللماء الذي يهطل من السماء أو يتجَّمع بفعل تدنِّي درجات الحرارة أسماء منها: القطر، والندى، والسَّدَى (ندى الليل)، والضباب، والطلّ، والغيث، والرذاذ، والوابل، والهاطل، والهَتُون، وقد تحدَّث عن ذلك كله بالتفصيل ابن سينا وإخوان الصفا[23].

الأحافير

تناول بعض العلماء المسلمين علم الأحافير في معرض تناولهم لعمر الأرض، وخلال استدلالهم من تحوُّل البحر إلى مناطق يابسة؛ فالبيروني يستشهد في كتابه: (تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن) على أن جزيرة العرب كانت مغمورة بالمياه فانحسرت عنها بتعاقب الحِقب الجيولوجية، وأن من يحفر حياضًا أو آبارًا يجد بها أحجارًا إذا شُقَّت خرج منها الصدف والودع، "فهذه بادية العرب كانت بحرًا فانكبس، حتى إنَّ آثار ذلك ظاهرة عند حفر الآبار والحياض بها؛ فإنها تُبدِي أطباقًا من تراب ورمال ورَضْرَاض[24]، ثم فيها من الخزف والزجاج والعظام ما يمتنع أن يُحمل على دفن قاصد إياها هناك، بل تخرج أحجارًا إذا كسرت كانت مشتملة على أصداف وودع، وما يسمَّى آذان السمك؛ إمَّا باقية فيها على حالها، وإمَّا بالية قد تلاشت، وبقي مكانها خلاء فتشكَّل بشكلها"[25]. وهنا يشير البيروني إلى المستحجرات، وهي بقايا عضويَّة كاملة أو طوابعها التي تكون داخل الحجارة، ويستدلُّ بذلك على أن بعض المناطق كانت تغطِّيها المياه ثم أصبحت ضمن اليابسة.

وكان لابن سينا رأي شبيه برأي البيروني من حيث إن وجود المستحجرات الحيوانيَّة المائيَّة في منطقة يابسة دليلٌ على أن تلك المنطقة كانت مغمورة بالمياه في حِقبة زمنيَّة قديمة، من ذلك ما جاء في (الشفاء): "... فيشبه أن تكون هذه المعمورة قد كانت في سالف الأيام غير معمورة، بل مغمورة في البحار فتحجَّرت عامًا بعد الانكشاف قليلاً قليلاً؛ ففي مدد لا تفي التأريخات بحفظ أطرافها، إمَّا تحت المياه لشدَّة الحرارة المحتقنة تحت البحر، والأولى أن يكون بعد الانكشاف، وأن تكون طينتها تُعِينُها على التحجُّر؛ إذ تكون طينتها لزجة؛ وكثيرًا ما يوجد من الأحجار، وإذا كُسِرَتْ أجزاء من الحيوانات المائية كالأصداف وغيرها"[26]. ويستطرد قائلاً: "إن كان ما يُحْكَى من تحجُّر حيوانات ونبات صحيحًا؛ فالسبب فيه شدَّة قوَّة معدنية محجِّرة تحدث في بعض البقاع البحريَّة، أو تنفصل دفعة من الأرض في الزلازل والخسوف فتُحَجِّر ما تلقاه"[27].

وهذا غيض من فيض ممَّا تناوله علماء المسلمون في كتبهم ومؤلَّفاتهم عن علم الجيولوجيا، وهو ما يبرهن على قَصَبِ السَّبْق والريادة، وعلى أن علماء المسلمين هم مؤسِّسُو علم الجيولوجيا، وفي مقدِّمتهم ابن سينا والبيروني والكندي، وأن علم الجيولوجيا الحديث ما هو إلاَّ امتداد لما قدَّمه علماء المسلمين في هذا المجال.

د. راغب السرجاني
[1]انظر: علي عبد الله الدفاع: روائع الحضارة العربية الإسلامية في العلوم ص291.
[2]الفيروزآبادي: هو أبو طاهر محمد بن يعقوب بن محمد (729- 817هـ/1329- 1415م) من أئمة اللغة والأدب، ولد في قرية من قرى شيراز، وتوفي في زبيد باليمن، من أشهر تصانيفه: (القاموس المحيط). انظر: الأصفهاني: شذرات الذهب 7/126.
[3]ابن سيده: هو أبو الحسن علي بن إسماعيل (398- 458هـ/1007- 1066م) إمام في اللغة وآدابها، كان ضريرًا. ولد في مرسية بالأندلس، وتوفي في دانية بالأندلس. من كتبه: (المُخصَّص). انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان 3/330، 331.
[4]المقدسي: هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر البناء (ت380هـ/ 990م) كان تاجرًا عرف أحوال البلاد لكثرة ترحاله، ثم تخصص في معرفة ذلك، فطاف أكثر بلاد الإسلام، وصنف كتابه (أحسن التقاسيم في معرفة الاقاليم). انظر: الزركلي: الأعلام 5/312.
[5]القزويني: هو زكريا بن محمد بن محمود (605- 682هـ/1208- 1283م) مؤرخ، جغرافي، من القضاة، صنف كتبًا، منها (آثار البلاد وأخبار العباد)، و(عجائب المخلوقات). انظر: الذهبي: تذكرة الحفاظ 2/22، والزركلي: الأعلام 3/46.
[6]علم العلاقة بين الأرض والمناخ.
[7]النويري: هو أبو العباس احمد بن عبد الوهاب بن أحمد البكري (677- 733هـ/ 1278- 1333م) عالم بحاث غزير الاطلاع، نسبته إلى نويرة (من قرى بني سويف بمصر) ومولده ومنشأه بقوص. من أشهر مصنفاته: (نهاية الأرب في فنون الأدب). انظر: ابن حجر: الدرر الكامنة 1/231.
[8]هو علم الظواهر الجوية.
[9]علي عبد الله الدفاع: روائع الحضارة العربية الإسلامية في العلوم ص291.
[10]انظر: محمد الصادق عفيفي: تطور الفكر العلمي عند المسلمين ص264، وعلي عبد الله الدفاع: روائع الحضارة العربية الإسلامية في العلوم ص314.
[11]إخوان الصفا: رسائل إخوان الصفا (2/97) دار صادر، بيروت.
[12]عطارد بن محمد: هو عطارد بن محمد البابلي البغدادي (ت 206هـ/ 821م) حاسب منجم، كان فاضلاً عالمًا، له عدد من الكتب منها: (العمل بالأسطرلاب) و(تركيب الأفلاك). انظر: ابن النديم: الفهرست ص336.
[13]انظر: محمد الصادق عفيفي: تطور الفكر العلمي عند المسلمين ص261.
[14]انظر: المصدر السابق ص263.
[15]انظر: علي بن عبد الله الدفاع: روائع الحضارة العربية الإسلامية ص294، 295.
[16]ابن النديم: الفهرست ص219.
[17]انظر: علي بن عبد الله الدفاع: روائع الحضارة العربية الإسلامية ص310.
[18]أي: بالأرض.
[19]انظر: علي بن عبد الله الدفاع: المصدر السابق ص322-324.
[20]انكبسِ: طمَّ وطُوي بالتراب، أي: ملئ بالتراب ودُفن. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة كبس 6/190.
[21]البيروني: تحقيق ما للهند ص80.
[22]المصدر السابق.
[23]انظر مثلاً: رسالة الآثار العلوية من رسائل إخوان الصفا، دار صادر- بيروت، 2/62 وما بعدها.
[24]الرَّضراض: الحصى الذي يجري عليه الماء، وقيل: هو الحصى الذي لا يثبت على الأرض وقد يعمّ به. ابن منظور: لسان العرب، مادة رضض 7/154.
[25]البيروني: تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن، اقتبسه المستشرق كرنكو في المجلد التذكاري: 204 عن مخطوط بمكتبة جامع الفاتح بإستانبول.
[26]انظر: محمد الصادق عفيفي: تطور الفكر العلمي عند المسلمين ص263.
[27] المرجع السابق ص265.