الصَّحِيفَةُ المُبَيَّضَةُ في شَرْحِ حَدِيثِ الرُّوَيْبِضَةِ
07-06-2018, 11:35 AM
الصَّحِيفَةُ المُبَيَّضَةُ في شَرْحِ حَدِيثِ الرُّوَيْبِضَةِ
محمد بن طاهر بن خدة


الحمد لله الذي أنزل الكتاب وعلّمه، وأنزل الذكر ويسّره، والصلاة والسلام على من أوتي القرآن ومثله معه، فبيّنه وأتمّ بيانه، وأوضحه غاية إيضاحه، فما ترك شيئا إلا وذكر لنا منه علما، وذلك من دلائل نبوّته، فصلى الله عليه وعلى آله وأهل صُحْبَتِه، وعلى من اتّبع سنّته وكان في زمرته، وبعد :

فمن دلائل نبوّته صلى الله عليه وسلم: ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من الأمور المستقبلية ـ كما قال العلماء ـ، وفي ذلك أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك: الحديث الصحيح الذي أسنده أئمة الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم من طريق أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" قبل الساعة سِنُون خدّاعة، يكذّب فيها الصادق، ويصدّق فيها الكاذب، ويخوّن فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، وينطق فيها الرويبضة".
قال شريج: وينظر فيها للرويبضة"[ 1].
وجاء تفسير الرويبضة من طريق أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إنها ستأتي على الناس سِنُون خدّاعة، يصدق فيها الكاذب، ويكذّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة" قيل: وما الرويبضة يا رسول الله؟، قال:" السفيه يتكلّم في أمر العامّة"[2].
ومما جاء في تفسير الرويبضة كذلك حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن أمام الدجال سنين خدّاعة، يكذّب فيها الصادق، ويصدّق فيها الكاذب، ويخوّن فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، ويتكلّم فيها الرويبضة"، قيل: وما الرويبضة ؟، قال: " الفويسق يتكلّم في أمر العامّة "[3].

هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى:{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(النجم:3-4
وقد كان الصحابة عليهم الرضوان يقولون:" حدّثنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم"، لقد عَنْوَنَ الشيخُ الألبانيّ ــــ رحمه الله تعالى ــــ على هذا الحديث بعنوان قال فيه:[ أليس هذا زمانه؟] ، وأنا أقول كذلك: أليس هذا زمانه؟، أو: أليس قد حلّ أوانه؟.
لقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث شيئا مما يكون قبل الساعة، فذكر زمنا وذكر أوصافا، فأما الزمن، فالسنون الخداعة.
أما السنة، فهي الجدب، يقال أخذتهم السنة، إذا قحطوا، وهي من الأسماء الغالبة [4]، والخدّاعة كما قال الإمام ابن الأثير:" وفيه: تكون قبل الساعة سنون خدّاعة، أي تكثر فيها الأمطار ويقل الرَّيْع، فذلك خدَاعُها، لأنها تطمعهم في الخصب بالمطر ثم تُخْلِف. وقيل: الخَدَّاعة: القليلة المطر، من خدع الرَّيق إذا جفَّ". [5].

وأما الأوصاف فهي خمسة ـ وأعيذك بالله من هذه الخمس ــ.
أوَّلها: يكذّب فيـها الصادق، الصادق هو الذي يصدق الحديث، ما جُرِب عليه الكذب من قبل، يعرف عليه ذلك باستفاضة ذلك عنه، وعدم إيثار كِذبة عنه، وبشهادة العدول عليه بذلك، فقبل الساعة: زمن يُكَذِّبُ الناسُ فيه أمثال هؤلاء، وانظر إلى واقعنا الحاضر: كيف ينقلب فيه الناسُ على من يُعْرَفُ منه الصدق والعدالة والعفة، فيكذّب ويطعن فيه، وإذا تحدّث لا يصدّقوه.

وثانيها: يصدّق فيه الكاذب، الكاذب هو الذي يخبر بخلاف الواقع متعمِّدا في ذلك، بل هو كذلك الذي يخبر بكلِّ ما يسمع من غير تحرٍّ ولا تثبُّت، وفي الحديث:" كفى بالمرء كذبا أن يحدِّث بكلِّ ما سمع"[6]، وعن عمر رضي الله عنه أنه قال:" بحسب المرء من الكذب: أن يحدّث بكلّ ما سمع"[7] ، وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى:" اعلم أنه لا يسلم رجل حدّث بكل ما سمع، ولا يكون إماما أبدا، وهو يحدّث بكل ما سمع"، وعن سفيان بن حسين قال: سألني إياس بن معاوية، فقال:" إني أراك قد كلفت بعلم القرآن، فاقرأ عليّ سورة، وفسِّر لي حتى أنظر فيما علمت، قال: ففعلت، فقال لي: احفظ عليّ ما أقول لك: إيّاك والشّناعة في الحديث، فإنه قلّما حملها أحد إلا ذلّ في نفسه وكذِّب في حديثه".[8].
فقبل الساعة: زمن يُصَدِّقُ الناسُ فيه أمثال هؤلاء، من أثر عنه الكذب وعُلِمَ منه الكذب، وعرف بنقل الأخبار من غير تروٍّ ولا تعقُّل فيها، ومن غير تأكُّد ولا تثبُّت منها.

وثالثها: يخوَّن فيها الأمين، نعم، من عرف بالأمانة والعفّة والسلامة، والثقة يتّهم ويطعن فيه، لا لشيء معتبر، ولا لأمر ذو نظر، وقد صار هذا الأمر مشتهرا، بل كالعلم، بل:" أشهر من نار على علم": كما جاء في المثل.

ورابعها: ويؤتمن فيها الخائن، الخائن من لا عهد له ولا وفاء، من لا أمانة له ولا عفة، من ينشر السِرّ، ويهتك السِّتْر، ولا يكون للعهد على ذِكْر، فهل أمثال هؤلاء يؤتمنون!!؟.

أمّا خامسها: فهي القصد من هذا الكلام، و إليها ينتهي المرام: أن ينطق رويبضة الأنام في الأمر العام، قال ابن الأثير:" وَفِي حَدِيثِ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ: «وَأَنْ تَنْطِق الرُّوَيْبَضَةُ فِي أمْر العامَّة، قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبَضَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، فَقَالَ: الرَّجُلُ التَّافِهُ يَنْطِقُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ».
الرُّوَيْبَضَةُ، تَصْغِيرُ الرَّابِضَةُ، وَهُوَ الْعَاجِزُ الَّذِي رَبَضَ عَنْ مَعَالي الأمُور وقعَد عَنْ طَلَبها، وَزِيَادَةُ التَّاء للمبالغَة. والتَّافه: الخَسِيس الحَقِير".[9].
وقد فسّر النبي صلى الله عليه وسلم الرويبضة، وأنه:"الرجل السفيه يتكلم في أمور العامة"، وفي رواية:"الرجل التافه"، وفي أخرى:"الفويسق ...".

فالمراد بالرويبضة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم هو:
" الرجل التافه، السفيه، وهو الحقير الرذيل، قليل العلم، الجاهل به، ثمّ لسفهه وتفاهته وحقارته ورذالته وقلّة علمه ولجهله، تجده يتكلّم في أمور العامّة، ويخوض فيها ويناقش و يتشدّق، وهذا يرجع إلى المعنى الذي تقرّر في نصوص أخرى: أن من علامات الساعة أن يسند الأمر إلى غير أهله، وهذا هو حاصل معنى الحديث هنا، ولا أريد أن أضرب لذلك أمثلة، فهي واضحة رأي العين، وما يصلنا من أخبار من يشارك في الشبكة المعلوماتية، حيث يتكلم كثير منهم بالجهل والكذب والزور والباطل والبهتان، بل ويخوضون في أمر العامة، فيتكلّمون في أمور عظيمة، نجد أن كبار علمائنا يتريّثون فيها، ويتثبّتون في أحكامها، لعظم ما تتحمّله من أحكام، ولكن يأتي الرجل السفيه التافه، بل الفويسق، فيبتّ فيه بالقول، فنصيحتي لأخواني جميعا: أن يتقوا الله تعالى في أنفسهم، ويراقبوا ربهم من فوقهم، فهو القادر عليهم القاهر لهم ومن فوقهم.

وها أنا قد جئت على تمام المقالة، وقد اختصرت فيـها العبارة، واكتفيت منها بالإشارة، غير قاصد لبلد أو موضع، بل هي عامة لكل الناس، سائلا الله تبارك وتعالى: أن يرزقنا الإصابة والسداد، ويمنّ علينا بالهدى والرشاد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله ربّ العالمين.