نَقد مِقياس هاوكينز
19-01-2017, 03:22 PM
نَقد مِقياس هاوكينز
الشيخ:أحمد بن مسفر العتيبي



الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:



انتشر بين كثيرٍ من المُثقفين والمتعلِّمين والشباب عامة: ما يُسمَّى بمقياس هاوكينز للوعي، أو سُلَّم هاوكينز لمعرفة وعي الإنسان .
وهذا المقياس وضعه العالِم الأمريكي ديفيد هاوكينز ، وهو: عالم نفساني وفيلسوف في نفس الوقت .
وسوف أنقد هذا المقياس أو السُّلم بالعدل كما أمر الله تعالى:[ اعْدِلُوا هُوَأَقْرَبُ لِلتَّقْوَى].

مقياس الوعي- عند هاوكينز – مُقسَّم إلى عِدة مستويات تراكمية، تبدأ بمشاعر سلبية ثمانية متتالية وهي:( العار والذنب والخمول والأسى والخوف والشهوة والغضب والكبرياء)، وتسمى هذه المستويات بالمرحلة الخطرة في الوعي، لأنها تضر بصحة الإنسان العقلية والنفسية، ولكل مستوى من هذه المستويات: ما يُسمَّى بالإحساس والنظرة إلى الحياة . فمثلاً: العار إحساسه هو: الذُّل، ونظرته إلى الحياة تعيسة، ويُقاس عليها بقية المستويات الخطرة.
وبعد هذه المرحلة الخطرة تأتي المرحلة العادية في الوعي ، وتُوصف بأنها أدنى مراحل الوعي، وهي: الشجاعة والحِياد، ثم المرحلة الايجابية، وهي: ثلاثة أقسام: الرغبة والتسليم والحكمة، ثم مرحلة قِمة الإيجابية، وهي: ثلاث أيضاً : الحب والفرح والسلام ، ثم مرحلة الإستنارة، وهي: أعلى مراحل التنوير.
وقد وضع هاوكينز تردُّدات لكل مرحلة سلبية أو إيجابية، لتقريب وتحديد فهم كل مرحلة للمتلقِّي أو المتدرِّب .
وحتى يعرف الإنسان درجة وعيه- عند هاوكينز – يلزمه الإطلاع على مشاعر كل مرحلة، فمثلا الإستنارة مشاعرها: المثالية، والحياد مشاعرها: الثقة، والغضب مشاعرها: العدائية، والخمول مشاعرها: اليأس، وهكذا.
ويمكن إجمال الملاحظات على هذا المقياس في النقاط الآتية:

1- هذا المقياس مُفيد من حيث تدريب النفس على تحسين الوعي الأخلاقي والتربوي، لكنه لا يفي بالتهذيب الباطني القلبي القائِم على تجريد وتحسين النيات والمقاصد وإصلاح السريرة، فمستويات الوعي الصحيحة في المقياس هي تسعة فقط ، سبق تعدادها قبل أسطر، وقد خَلت تماماً من أخلاق الفطرة السليمة والإخلاص والتوحيد والإيمان بالله تعالى، وقد ثبت في المرفوع:" لا عمل لمن لا نِية له، ولا أجر لمن لا حِسبة له". أخرجه البيهقي بإسناد صحيح .
والنيات والمقاصد الصحيحة من ثمرات الإيمان والتوحيد.

2- المقصود بالوعي في سُلَّم هاوكينز هو: تهذيب النفس ومعرفة مشاعرها والترقِّي في الفضائل، وهذا معنى محدود وقاصر في التربية الإسلامية.
والصحيح أن الوعي هو: التدبُّر والفهم وسلامة الإدراك، مع تزكية النفس وتطهيرها من النِّيات والمقاصد الفاسدة والمرذولة، وقد قال الله تعالى:[ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا]، وقد قال الإمام:" ابن حزم" رحمه الله تعالى:" إذا تكاثرت الهموم تساقطت"، لأن الله تعالى يبتلي العبد ليرتقي إيمانه وتعلو مرتبته.

3- مقياس هاوكينز مبنيُّ على أصلٍ فلسفي مُظلم باطل قديم، بدأ بما يُسمَّى بنظرية التنوير، وهي:" اعتناق الأخلاق بدل الشرائع!!؟"، نعوذ بالله ونبرأ من ذلك.
فالفلاسفة اعتبروا: أن المقصود بالشرائع والعبادات: تهذيب أخلاق النفوس وتعديلها، لتستعد بذلك لقبول الحكمة العملية والعلمية، إذ إنهم رأوا النفس لها شهوة وغضب بقوتها العملية، ولها تصور وعلم بقوتها العلمية، فقالوا: " وكمال الشهوة في العِفة وكمال الغضب في الحلم والشجاعة"، وهذه مغالطة منهم لتحييِّد الدِّين عن الأخلاق.

4- مقياس هاوكينز لم يُؤسِّس لمستوى التوبة أو التراجع عن الخطيئة، لا في المراحل الإيجابية للوعي، ولا في غيرها من المراحل الدُّنيا الأكثر خطورة، فلا يوجد في المقياس: ما يُشير إلى الوعي الأخلاقي الديني الذي يأمر بتزكية النفس وتطهيرها من الخطايا والأوزار، فهو يدور في فراغ بلا غاية سامية، فغايته كالعدم!!؟.

5- علماء النفس الغربيون يُؤسِّسون للوعي بمنظور الرغبة والرهبة فقط ، وفي الإسلام يُؤسَّس للوعي بمنظور الإيمان والاحتساب وقصد الخير والعمل الصالح، سواء ظهرت الثمرة أم لم تظهر، وفي المرفوع:" وفي كُّل كبدٍ رطبةٍ أجر".
وفي سُلَّم هاوكينز لم يُؤسَّس لهذا المعنى للوعي بالمنظور التربوي الشرعي ، فلا يصح متابعته في هذا، لأن ما بُني باطلٍ فهو باطل.

6- يقوم مقياس هاوكينز على التحفيز على الوعي عبر الترهيب الدنيوي من التقصير في العمل فحسب، مثل: تحديده لمستوى العار والذنب، وهذا خطأ في المفهوم الشرعي، فلا بُدّ من تصحيح المقصد والنية طواعية من غير إجبار أو إكراه، ولا بُدّ من الإرشاد إلى البدل عند الزجر، وهذا لا يكون إلا بالصبر والتدريب على الفضائل، وهذه المرحلة دقيقة جداً، وقد عظم اللهُ شأنها في قوله تعالى:[ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ].

7- مقياس هاوكينز رغم فائدته في التدريب على الفضائل، غير أنه لم يُراعٍ التوازن بين الروح والجسد، فلا يصح تغليب واجبات الروح على الجسد، ولا تغليب واجبات الجسد على الروح.
فتطبيق هذا المقياس قد يُورث المغالطة للنفس أو الملل والنفرة منه .
فما فائدة المشاعر الفيَّاضة بلا عملٍ أو إحسان إلى النفس ومتابعة الفطرة الصحيحة في التعرف على خالقها وموجدها من العدم، والتضرُّع إلى الله والتفكر والتدبُّر والفهم!!؟.

8- كتب تطوير الذات وتنمية الوعي التي تُروًّج لها المكتبات اليوم، لا خير فيها: إن لم تكن مُستقاة من مشكاة النبوة وعلى الميزان الشرعي الذي يراعي جوانب الروح والجسد.
وقد قال شيخ الإسلام:( ابن تيمية رحمه الله تعالى):
" قوى الإنسان ثلاث: قوة العقل، وقوة الغضب، وقوة الشهوة، فأعلاها القوة العقلية التي يختصُّ بها الإنسان دون سائر الدوابِّ، وتشركه فيها الملائكة، كما قال أبو بكر عبد العزيز من أصحابنا وغيره، خُلق للملائكة عقول بلا شهوة، وخُلق للبهائم شهوة بلا عقل، وخُلق للإنسان عقل وشهوة، فمَن غلَب عقلُه شهوتَه، فهو خيرٌ من الملائكة، ومن غلَبت شهوتُه عقلَه، فالبهائم خيرٌ منه". أهـ .

9- هناك فضائل لم تُذكر في سُلًّم الوعي عند هاوكينز مثل: الِعفة والإيمان والعدل والصبر، وهذا يدلُّ على نقص هذا السُّلم وعدم شموليته كما تقدَّم. ولعل سبب ذلك: أن هاوكينز يعتقد أن بعض الفضائل تنوب عن بعض، وهذا باطل في المفهوم الشرعي، لأن مفاهيم الإيمان والتوحيد: لا يمكن استبدالها بما شابهها .

10- الدِّين الحق يدور على أربعة قواعد لا مزيد عليها:( الحبُّ والبُغض والفعل والترك): كما قرَّره الإمام:" ابن القيم" رحمه الله تعالى في كتابه:( الروح)، فيمكن التدرُّج في الوعي عن طريق معرفة أسماء الله وصفاته والتفكر في مخلوقاته وما برأه في الكون والنفس .

والمقصود:
أن هذا المقياس لا يصلح للوعي الإسلامي، ويبدو أنه أُسِّس لغايات غير محمودة شرعًا وعلماً، كما تقدَّم في أول المقال، والصواب: استمداد الوعي من نور الوحيين فحسب، وقد تقرَّر عند الأصولييِّن: أنه يجب على المكلَّف فعل المأمور به كُّله، فإن عجز عن بعضه وقدر على البعض الآخر: وجب عليه فعل المقدور عليه، والله الهادي.
هذا ما تيسر تحريره، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.