رد: اقراء وتمرد لاتخاف لن تموت
16-01-2007, 09:48 AM
، استراتيجيات تـجلت ، في الـجزائر ، بأقصى مظاهرها خلال « العشرية السوداء » . إذ أصبح الـمثقفون الذيـن يـنشطون الـحياة الثقافية في البلاد الهدف الـمفضل لإرهاب عاث في الأرض فسادا ، بلا وازع و لا ضمير. و السخط الـمتولد عن تفاقم الـخروقات التي طالت أبسط حقوق الفلسطيـنيـيـن الانسانيــة، وعن الاعتداءات الـخارجية الـمتعددة الـمقترفة في الشرق الأوسط، زاد الذهنيات راديكالية في العالـم العربي بـما لا يخدم الازدهار الثقافي و لا يتواءم معه. إننا ، في سائر بلداننا ، قد دفعنا ضريبة باهظة لهذا التطور الـمضاعف ، الداخلي و الـخارجي ، من حيث تدهور التجليات الوطنية للثقافة العربية . و نحن نقف الآن في مفترق الطرق : فإما أن نوفق في الرد و نعيد ، إن اقتضى الأمر، اكتشاف مضمون ثقافة عربية عادت إليها حيويتها و تشارك ، بانسانيتها و أنوارها في إقامة مجتمع واثق من نفسه و في إيجاد عالـم أكثر انسجاما ، و إما سيحكم عليـنا تَيَهَانُنَا الثقافي بأن نصبح لقمة سائغة و فريسة سهلة للثقافات الـمسيطرة التي تفرضها القوى الـمهيمنة. إننا نـملك الوسائل و الإرادة لرفع التحدي : و لأجل هذا ، يـنبغي لنا أن نتساءل ، بعيدا عن الصور التقزيـمية و التـنميطية ، عما تـمثله ، في القرن الـحادي والعشريـن ، ثقافات العالـم العربي هذه النابعة من الفضاء الـحضاري الذي هو شِرْكة بيـننا . ما كان تساؤل كهذا ليجد إطارا أفضل من الـجزائر لإعمال الفكر حوله. ذلك أن بلادنا تـمثل نقطة التقاء حضاري كان يوصـف ، في ما مضى، بالعربي الأندلسي ، و صار يوصف اليوم بالعربي الإسلامي بالـمعنى الواسع. إنها بلاد تزخر بثقافة عربية و أمازيغية في الآن ذاته، و برصيد لغوي ثلاثي ، ثري بلغات متجذرة في واقعنا الوطني الـتعددي و بلغة ، حتى و إن كانت « لغة منـفى» في حكم مالك حداد، هي بـمثابة « غنيمة حرب » منتزعة من الـمستعمر الـمهزوم ، على حد قول كاتبنا الـملهم. و إنني أقترح، فيما يتعلق بالبحث عن التساؤلات بشأن فحوى الثقافات التي توحدنا، أن يـنصب تفكيرنا على ثنائيات ثلاث. أبدأ ، أول ما أبدأ ، بذكر الثنائية الـمتـمثلة في « الهوية والثقافات العربية ». إن الثقافة الوطنية، مثلـما تعاش في كل بلد من بلداننــا، هــي ، بالفعل ، جزء لا يتجزأ من هويتـنا. لكنها لا يـمكن، مع ذلك ، أن تكون بديلا لها. ذلك أنه ، خلافا لـمفهوم الثقافة ، فإن مفهوم الهوية مرتبط بالانتـماء الإقليـمي أو الـجيـني. إن الـمفهوم هذا هو ، أصلا ، مفهوم يتجلى من خلال « نـحن » و « هم ». عكس ذلك ، فإن الثقافة ، مثلـما تريدها قيـمنا العريقة ، تـنبذ ما يسميه الأستاذ محمد أركون « إيديولوجيات الإقصاء الـمتبادل ». إن الـخلط بيـن هويتـنا الوطنية والثقافة العربية يعني ، كذلك ، إيجاد فضاء مُواتٍ لتكاثر الصور النـمطية التي تغذي كراهية الفضاءات الـحضارية الأخرى. فلسرعان ما يُدْعى ، في أصقاع أخرى ، بالويل و الثبور على العالـم العربي برمته و على « عرب » يـنظر إليهم على أنهم طرف في نزاع مع الغرب. إن ضروبا من التفكير الـمختزل ومن التعميـمات الـمتسرعة يُدفع بها لتبرير الشكل الـجديد الذي اتخذته معاداة السامية و الـمتـمثل في كراهية الإسلام. إن إحــلال الهويـة محل الثقافة ، بـمناسبة و بغير مناسبة ، قد غذى كراهية الأجنبي التي تستهدف جالياتـنا في الـخارج. إنه يرمي بهذه الـجاليات في غيتو افتراضي يخفي العوامل الـمشتركة التي تـجمعها بالسكان الـمحليـيـن وقيـمة و تـنوع إسهام أعضائها في مجتـمع بلاد الإقامة، بصفتهم حــرفــيــيـن أو محـاميـن أو باحثيـن أو رياضيـيـن أو عمالا متطوعـيـن. و خلافا للهوية ، فإن الثــقــافــة لا تصدر عن أمر. إنها ، أولا و قبل كل شيء ، حوار داخل الـمجتـمع وحوار بيـن الـمجتـمعات. إن مآلها هو أن تـتخطى الـحدود الوطنية لتشمل سائر فضائها الـحضاري وتتفتح على العالـمية. من ثمة ، يصبح من قبيل التعسف أن نعتد بالثقافة كوسيط لـخاصية بعيـنها، ومن قبيل الزيغ أن نتذرع بها لإضفاء الـمشروعية على إعتبار العروبة مرادفا للغيرية العقيـمة بدل التـنوع الـخصب. إن إفتتاح هذا الـملتقى يوم رأس السنة الأمازيغية الـمخلد لتربع الفرعون الأمازيغي شاشناق Sheshnaq الأول على عرش مصر قبل 2957 سنة خلت هو ، في الآن ذاته ، رمز و تذكير بهذا التـنوع بصفته عربونا يضمن حيوية الثقافة. و هذا يسوقنا إلى التطرق إلى الثنائية الثانية ألا و هي « الثقافات العربية و العولـمة » ، لنوصي بتسيـير أكثر انسجاما لأصالتـنا ، تسيـير يتكيف ، بالتساوق مع تكفله بـما يزخر به تراثنا العريق من ثراء ، مع مقتضيات الـحاضر ويزيد الثقافة حيوية و عنفوانا ، مع السهر على ألا تكون مُـمَجِّدة للـماضي فحســب ، و إنـمـا علي أن تكــون موليـة وجههــا شطـر الـمستقـبل و متفتحة على العالـمية. إن القول بتفتح الثقافة في العالـم العربي على العالـمية لا يعني ، مع ذلك، أنه يلزمها بأن تتشبع بالثقافـة الغربية ، انطلاقا من منظور « نشر » التقدم الذي يتعيـن عليها الإنصياع و الـخضوع له طوعا باسم الـحداثة. إن ثقافتـنا سيتهددها ، حيـنذاك ، خطر الغرق والذوبان . و لن تصبح اللغـة العربية وغيرها من حوامل رموز ثقافتـنا سوى أوعية حاملـة لـمفـاهيـم أجنبية لا صلة لها بواقعنا. و لن تصبح ثقافتـنا ، في نهاية الـمطاف ، إلا الوعاء العربي لـمنـتـوج أجنبي. إن خطرا كهذا الذي سبق و أن حاق بالنهضة العربية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، إزداد تفاقما اليوم بفعل مد العولـمة الـمكتسح و العاتي. إن محاولة وقاية ثقافات العالـم العربي من الـمد هذا قد تـم، بعد ، وسمها بالتخلف و برفض العقلانية التي أتاحت بروز عصر الأنوار في الـــغرب . وحـسب الــنـــظــــريـــات " النشرية " التي غالبا ما يـنادي بها مستشرقون من ذوي النوايا الـحسنة ، فإن الثقافة العربية ستــبـقى ، بذلك ، حبيسة مدونة لا تتغير من الـمعايـير و من الـمواقف العاطفية التي لا تفرد للعقلانية مكانا وتـجعل ، من ثمة ، ذهـنـيــاتـنـا غيـر قـابـلـة للـتـكـيـف مـع « الـحضارة الـحديثة ». إننا نرفض بقوة هذه النظريات التي تعمد إلى الـخلط بيـن الـحداثة والتغريب. و مع ذلك ، لا يـنبغي لنا أن نتقوقع ، متخوفيـن ، في شرنقة أمجادنا الثقافية الـماضية ، بالـخضوع و الـخنوع لدعاة التقليد العقيـم. بالعكس ، إنه يـنبغي لنا إعادة ابتكار الثقافة العربية بتيسير تفتح ، ضمن مجتـمعاتـنا ، مـوات للإبــداع ولا يكون« بدعة » بـمفهومها القديـم الـمرادف للضلالة. و من هنا ، أنتقل إلى الثنائية الثالثة الـمتـمثلة في « الثقافــة العربية والـحرية ». إن فضاء حرية كل فنان ، و كل مؤلف ، و الذي طالب به إعتبارا من القرن الثاني للـميلاد أبوليوس ابن بلدة مداوروش الـجزائرية، من الـمفروض ألا يحده إلا احترام حرية الغير. إن الشعر ، بتفتقه في فضاء جرى تـحريره، على هذا النـحو، سيصبح، كما قال مولود معمري : « كلـمة الشاعر الـمجنـــحــة التـي لا تخضع للقواعد الـمفــروضـة». بيـنـمـــا تــنــبـــجس قريحــة الفــنــان وهي ، حسـب ألبير كامو Albert Camus : «العيش على التخوم و تَلَقُّف ما يستعصي على الأفهـام وإعطاء شكل لـما لا شكل له». و في نهاية الـمطاف ، فإن إعادة ابتكار الثقافة العربية التي يشارك فيها الشاعر الذي دعاه أدونيس إلى أن يكون «صانعا لعالـم جديد »، تـنبذ التفريق الوهـمي بيـن «التقليد» و « التجديد ». إنها تدعو إلى تثمير التراث الثقافي التقليدي لكل منا بالإعتماد على منهج علـمي و ليس بالتغني بالـمآثر و الأمجاد . كما أنها تدعو كلا منا إلى اقتفاء خطى الأسلاف قبل أن يطمح إلى أن يصير ، مثلهم ، من « الأدباء » الـمنسجميـن مع عـــقيــدتــهم حقـا ، لكن مــع زمانهم كذلك . إنها تقتضي ، قبل ذلك، منظومة تربوية عالية الـجودة وتتطلب، أخيرا، صياغة مناهج مبتكرة ، قميـنة بوضع حد لتدهور التراث الثقافي الكلاسيكــي، ورسم الـمسار الأسلم للثقافة العربية الـمستقبلية صوب العصرنة و يـمكن لذلك أن يكون، و لم لا، برعاية الـمنظمة العربية للتربية و الثقافة و العلوم ( ألكسو ). إن التفاعل بيـن ثقافات الـمشرق، الــذي يشمل بــلاد الفرس، والـمغرب العربي، و معه الأندلس ، ساهم ، منذ آلاف السنيـن ، في إثراء فضائنا الـحضاري . لقد كانت الـجزائر، و لا تزال، محركا للتفاعل بيـن الـمشــرق والـمغرب. فمنذ القرن الثاني للهجرة، كانت بلادنا الـمـمر الذي تسلكه حتما الـحركة الفكرية من العباسيـيـن في الشرق نـحو بني مروان في الأندلس، شمال غرب الـمتوسط . كما كانت الـجزائر فيـما بعد موئلا للـمتصوف الأندلسي الكبير ابن عربي و هو في طريقه إلى الـمشرق، و لابن رشد الذي تفند عقلانيته فرية اللاعقلانية التي رميت بها الـحضارة العربيـة ظلما و إفــكا ، و لابن خلدون الذي دوّن فيها مقدمته الشهيرة . إن تفتح الـجزائر على الثقافات العربية، من شرق حوض الـمتوسط إلى غربه، مجسد في تراثنا الـموسيقي الذي استوعب ، على الـمنوال نفسه، الـموسيقى الأندلسية، زاد الناجيـن من محاكم التفتيش، والـموسيقى التي جاءت من بلاد الرافديـن و التي يدل اسم الـموصلية على أصلها دلالة واضحة. إن الاحتلال الاستعماري وضع حدا لهذا التفتح و سعى إلى إبادة ثقافتـنا الوطنية ، طبقا لـمسار إضطهادي وصفه فرانز فانون Frantz Fanon وصفا بليغا في مؤلفه « الـمعذبون في الأرض» . و كان من آثار ذلكم الإضطهاد ، ليس إخماد ثقافتـنا بل ، خلاف ذلك، إذكاء الوعي الوطني . فمن مؤلفات الأمير عبد القادر في منفاه ، إلى الآثار الأدبيـة والديـنية لابن باديس في قسنطيـنة ، برزت نهضة حقيقية ثقافية عربية إسلامية تـجاوب معها و ردد صداها أدب ناضل من أجل الـحرية من خلال أعمال كل من كاتب ياسيـن ومحمد الديب على وجه الـخصوص. و مع الاستقلال ، استعادت الـجزائر مكانتها في الرواية العربية بفضل إنتاج كتاب مقتدريـن من أمثال عبد الـحميد بن هدوفة ، والطاهر وطار ، و أحلام مستغانـمي، على سبيل الـمثال لا الـحصر، الذيـن عالـجوا مشــاكل مجتـمعنا ببراعة و حصافة . و كان تـنظيـم الـمهرجان الأول للرواية ، في الـجزائـــر العاصمة سنة 2002، سندا لهذا التطـور الواعد . و مثل هذه الـمبادرة جديــرة بأن تتـجــدد دوريا بقدر ما يجدر تشجيع عقد ندوات متلفزة للتعريف بـمنتوجنا الأدبي. إن الـجزائر ، و بعد بعض الـمـماطلات ، عمدت إلى تشجيع التعبير الأدبي الـجزائري بالعربية أولا، دون إقصاء وسائل التعبير الأخرى ؛ ذلك أن الـمهم في الـمجال الفني ، إنـما هو جمال الـمؤلف و رونقه و ليس اللغة التي تـنقله إلى الـمتلقيـن و كفى. لذلك، سعدنا لإحراز آسيا جبار على العضوية في الأكاديـمية الفرنسية ، هذه الكاتبة التي نقدر عاليا إسهامها في إضفاء العالـمية على ثقافتـنا ، بواسطــة لغــة فــولتير Voltaire لكن بروح جزائرية صرفة. إنه يبقى عليـنا فعل الكثير على الـمستوى الوطني لتشجيع تفتق مواهب جديدة في الفنون التشكيلة و في الآداب و لكي يجد كل الـمبدعيـن في الـجزائر الـمناخ التكنولوجي و الإداري و الـمالي الـمواتي لنشر أعمالهم في بلدهم . إننا مصممون على تدارك تأخرنا في هذا الـمجال. إن ترقية ثقافة الكتاب، بل الشغف بالكتاب ، في الـجزائر وتكــثــيــف إشعــاع العالـم العربي لا يـمكن أن يستغنيا عن الوساطة ما بيـن الثقافات التي يضمنها تعزيز قدرات الترجمة . فبفضل الترجمة . تسنّم العالم العربي قديـما، من بابل إلى غرناطة مرورا بقسنطيـنة و بجاية وتلـمسان ، قمة الثقافة . و من خلال مسعى كهذا يـمكننا أن نرتقي ، بسرعة ، إلى مستوى مـماثل من الإمتياز . من ثمة ، أحيـي قرار الـجامعة العربية القاضي بإنشاء مركز عربي للترجمة و إختيار الـجزائر العاصمة مقرا له . و على مستوى الـمنطقة العربية وحتى على الـمستوى الوطني ، يـمكن إحداث جوائز قيّـمة ، بـمشاركة القطاع الـخاص ، لتكريـم الـمبدعيـن الفنيـيـن العرب الذيـن غالبا ما يتوقف الاعتراف باستحقاقهم على لـجان تـحكيـم من خارج حدودنا . أصحاب الدولة و الـمعالي و السعادة ،