انتصارات الدولة العثمانية في المائة سنة الأولى
02-06-2021, 01:41 PM


من الصعب على الدارسين أن يفهموا كامل دقائق التاريخ العثماني؛ لأن دراسة أيِّ كتابٍ أو مصدرٍ عن الدولة العثمانية سيكون محدودًا بالقياس إلى الفترة الزمنيَّة التي عاشتها هذه الدولة الكبيرة، بالإضافة إلى أن هناك عددًا ضخمًا من الوثائق لم تُحقَّق، ولا شَكَّ أنها تحتوي على معلوماتٍ في غاية الأهميَّة لفهم الصورة الصحيحة عن هذا التاريخ المهم، ولكنَّنا عمومًا نُسدِّد ونُقارب في فهم الصورة، ونجمع من هنا وهناك بعض المعلومات، ونقوم بشيءٍ من التحليل والتنقيب؛ ومِنْ ثَمَّ نصل إلى فهمٍ قريبٍ من الواقع إلى حدٍّ كبير، ولا شَكَّ أن كلَّ دراسةٍ ستحمل معها جديدًا عن هذا التاريخ المؤثِّر.

وفي هذا المقال سنتناول الإجابة المختصرة على السؤال التالي: وهو كيف حقَّق العثمانيُّون هذه الانتصارات المتكرِّرة على جيوشٍ أوروبِّيَّةٍ كثيرة دون هزيمةٍ تُذكر؟!

إن الانتصارات العثمانية في المائة سنة الأولى من عمر الدولة أمر يحتاج إلى وقفاتٍ طويلة!

لقد حقَّق مراد الأول وحده سبعة وثلاثين انتصارًا في سبعة وعشرين عامًا، ولم تتعرَّض جيوشه إلَّا لهزيمتين صغيرتين في صربيا، والبوسنة، ولم يكن هو مشاركًا في هاتين المعركتين، أما انتصاراته فكانت كاسحة وخالدة، وكان لها من النتائج والآثار ما استمرَّ قرونًا متتالية، وما قلناه عن مراد الأول نقوله كذلك عن أورخان أبيه، وكذلك عن جده عثمان، وإن كان بصورةٍ أقلَّ.

إن هذه الانتصارات المتكرِّرة على مدار مائة سنة تُمثِّل لغزًا عند كثير من المؤرِّخين؛ خاصَّةً الغربيِّين منهم، خاصَّةً أنَّ أعداد الجيش العثماني لم تكن كبيرةً بالدرجة التي تُفَسِّر هذه النجاحات الباهرة! وليست قلَّة العدد هي المعضلة الوحيدة في فهم هذه الانتصارات؛ فالغرائب كثيرةٌ في هذا الأمر!

فمن هذه الغرائب أن هذه الانتصارات تحقَّقت في بلاد وأراضٍ غريبة عن المسلمين، فليس للعثمانيين، ولا لغيرهم من المسلمين أي خبرة بالأراضي الأوروبِّيَّة، ولا يعرفون شيئًا يُذكر عن البلقان بكلِّ دهاليزه ودروبه، والدخول في هذه الأرض الغريبة والتعمُّق فيها قد يعني لكثير من الجيوش انتحارًا مؤكدًا، خاصَّةً إذا كان عدده قليلًا.

ومن الغرائب كذلك أن هذه الانتصارات تحقَّقت في أراضٍ ذات جغرافية معقَّدة للغاية، فالمعوقات الطبيعية لحركة الجيوش لا تحصى؛ فهناك الأنهار الكثيرة جدًّا، وهناك الجبال العالية، وهناك الغابات والأحراش، وهناك المسطحات المائية الكبيرة في البلقان، التي تحتاج إلى أساطيل محترفة لخوض غمارها، ومن المعروف أن الدولة العثمانية لم تمتلك أسطولًا قويًّا إلَّا في زمن الفاتح بعد أكثر من مائة وخمسين سنة من قيامها.

ومن الغرائب -أيضًا- أن الانتصارات العثمانية لم تكن على جيوش مغمورة لا علم لها بالقتال؛ إنما حقَّق العثمانيون انتصاراتهم على إمبراطوريَّاتٍ خالدة، وعلى دولٍ عريقةٍ في الحروب، وعلى ملوكٍ كانت لهم طموحاتٌ كبيرةٌ في تكوين دولٍ عملاقة. لقد انتصر العثمانيُّون مرارًا على الإمبراطورية البيزنطية، وحقَّقوا انتصارات كبيرة كذلك على الإمبراطورية الصربية، وفعلوا الشيء نفسه مع جيوش ألبانيا، والبوسنة، وبلغاريا، ورومانيا، ومقدونيا، واليونان، وتطوَّر الأمر إلى انتصارات على مملكة المجر العملاقة؛ بل سنرى انتصارات في عهد بايزيد الأول على جيوش أوروبا الغربية كذلك.

إن هذه الانتصارات المتكرِّرة في ظل هذه الظروف المعقَّدة لنوع من المعجزات العسكرية التي تحتاج إلى فهم؛ خاصَّة أنها متكرِّرة بشكلٍ لافتٍ للنظر، ولم تُقْطَع بهزائم إلَّا في ظروفٍ محدودةٍ جدًّا وبشكلٍ غير مؤثِّر.

يحاول بعض المؤرِّخين الغربيِّين تفسير هذه الانتصارات بضعف الإمبراطوريات النصرانية التي حاربها العثمانيون في هذه الفترة؛ وذلك لكي يبتعدوا عن مدح الجيوش العثمانية والثناء على قدراتها، ونحن لا نمانع من وصف الدول النصرانية التي حاربها العثمانيون بالضعف النسبي؛ لكنها على كلِّ حالٍ كانت كبيرةً للغاية؛ خاصَّةً إذا ما قورنت بقوَّة الدولة العثمانية الناشئة، فهذه الدول الكبيرة كالدولة البيزنطية، والصربية، والبلغارية، دولٌ قويَّةٌ مهما ضعفت، ولها حصونٌ وقلاع، وعندها استراتيجيَّاتٌ وخطط، ولها جنودٌ كثرٌ وأتباع، وفوق ذلك فهم يُقاتلون على أرضهم، وفي وسط ميدانهم، كما أن لهم علاقاتٍ دبلوماسيَّة مع دولٍ كبيرة في العالم آنذاك كالنمسا Austria، والمجر؛ بل والبابا الكاثوليكي في روما.

وبعضهم يُحاول أن يُفسِّر هذه الهزائم النصرانية والانتصارات العثمانيَّة بالصراعات التي دارت بين القوى النصرانية المختلفة، كالصراع بين البيزنطيين والبنادقة، وبين البيزنطيين والصرب، وبين الألبان والمقدونيين، وبين الصرب والبوسنيين، وبين الصرب والبلغار، وهكذا. نعم لا ننكر أن العثمانيين دخلوا أوروبا الشرقية وهي في حالة فوضى سياسيَّة عارمة نتيجة صراعاتٍ داخليَّة بين ملوك النصارى، أو بين الوارثين لعروش الإمبراطوريَّات هناك؛ ولكن في الوقت نفسه لا بُدَّ أن ندرك أن العثمانيين حاربوا كلَّ هؤلاء مجتمعين، والمنطق الذي يُفسِّر الانتصار العثماني على القوى النصرانية بدعوى حروبهم مع بعضهم البعض لا بُدَّ أن يفسِّر كذلك لماذا انتصر العثمانيون على كلِّ هذه القوى مجتمعة؟ ولماذا حقَّق العثمانيون أمجادهم ضدَّ البيزنطيين، وضدَّ البنادقة، وضدَّ الصرب، وضدَّ غيرهم من القوى البلقانية؟ وكيف لم تُؤثِّر هذه الصراعات الداخليَّة في العثمانيِّين؛ بينما أثَّرت في غيرهم؟

وبعضهم يحاول أن يُفسِّر هذا النصر بكثرة تحالفات العثمانيِّين مع قوى كبيرة في المنطقة؛ فهناك تحالفات مع الإمارات الإسلامية التركية في الأناضول، وهناك تحالفات مع بعض القوى النصرانية في البلقان في بعض فترات التاريخ العثماني، والواقع أنني أرى أن هذه التحالفات كانت هشَّةً إلى حدٍّ كبير؛ فالتحالف مع الإمارات الإسلاميَّة التركيَّة لم يكن مساعدًا للدولة العثمانية في كثيرٍ من الأحيان؛ بل كانت هذه التحالفات من منطلق حذر هذه الإمارات من القوَّة المتنامية للدولة العثمانية، وكانت معظمهم ينظر بعين الحسد والحقد للدولة العثمانية لا بعين الودِّ والنصرة، وإذا كنا نقول هذا الكلام على الإمارات التركية المسلمة فلا شَكَّ أننا نقوله بشكلٍ أكبر عن الدول النصرانية البلقانيَّة، فهناك تحالفات في بعض الأوقات مع الصرب، وهناك تحالفات في أوقات أخرى مع البلغار، وهناك تحالفات في أوقاتٍ ثالثة مع الألبان؛ لكن كل هذه التحالفات كانت تنهار عند أوَّل أزمة، وكثيرًا ما مثَّلت هذه التحالفات عائقًا للدولة العثمانية أكثر من كونها تحقِّق عونًا أو فائدة؛ فالحق أن العثمانيين لم يعتمدوا في تحقيق انتصاراتهم -خاصة في سنيِّ حكمهم الأولى- على القوى المتحالفة معهم؛ سواء من القوى الإسلامية أو النصرانية؛ بل إنهم لم يتلقَّوْا دعمًا يُذكر من أيِّ قوَّةٍ إسلاميَّةٍ معاصرة؛ سواء من قوى الشام ومصر، وهي في الأساس قوَّة المماليك، أو من قوى فارس، أو من قوى وسط آسيا.

لقد كانت انتصارات العثمانيين عثمانيَّةً خالصة!

الواقع أن كل هذه التفسيرات ترمي إلى تبرير هذا النصر المتكرِّر بقانون «المصادفة»! فقد «تصادف» عندهم أن يدخل العثمانيون أوروبا وهي في حالة ضعف ظاهر! و«تصادف» عندهم أن هناك حالة فوضى سياسيَّة وصراعات داخلية بين الأمراء النصارى! و«تصادف» عندهم أن الإمارات والدول تسعى للتحالف مع العثمانيين على حساب غيرهم من القوى النصرانية في البلقان؛ بل إن بعض المؤرِّخين كان سطحيًّا للغاية عندما حاول أن يفسِّر انتصارات العثمانيين بالطاعون الذي ضرب أوروبا «مصادفة» في زمن الغزو العثماني! وأن العثمانيين لم يتعرَّضوا للوباء؛ لأنهم كانوا يعيشون في الأرياف لا في المدن، وكانت الأرياف أقلَّ تعرُّضًا للوباء من المدن! وهذا الافتراض لا يوجد عليه دليل علمي أو مادِّي يمكن أن يُعتمد عليه.

هذه كلها تفسيرات تحاول أن تخرج عن التفسير الإسلامي للنصر المتكرِّر، والذي ينبغي للمؤرخ المسلم أن ينظر إليه إذا ما شاهد نجاحات عظيمة مثل نجاحات الدولة العثمانية في هذه الحقبة التي تحدثنا عنها.
والتفسير الإسلامي لهذا النصر المتكرِّر يسير، ومفهوم، ومباشر؛ لكنه يحتاج إلى عقيدة ودين، وهذا لا يرتبط به المحللون الغربيون أو العلمانيون!

إن أعظم أسباب النصر في الرؤية الإسلامية هي الارتباط الوثيق بالله عز وجل، والاعتماد الأكيد عليه، واللجوء الكامل إليه، والحرص كلَّ الحرص على إرضائه؛ ومن ثَمَّ يتحقَّق الدعم الربَّاني الذي يحقِّق النصر حتى في أصعب الظروف والأحوال، وعلى أكبر الجيوش وأقواها.

قال تعالى: ﴿وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [آل عمران: 13]، وقال -أيضًا-: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران: 160].
ومع أن المسلمون بذلوا كامل وسعهم في موقعة بدر فإنَّ الله عز وجل قال: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ [آل عمران: 123]، فكلُّ الأسباب التي أخذ بها المسلمون ما كانت لتؤتي ثمارها لولا أن الله أراد لها ذلك، فصار النصر منسوبًا إلى الله بالكلِّيَّة.
بل إنه سبحانه قَصَر النصر عليه، ولم يجعل لأحد فيه نصيبًا، فقال: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [آل عمران: 126].

وطلب سبحانه من المؤمنين أن يسألوه النصر دومًا فعلمنا الدعاء الجميل ﴿أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 286].

ولقد بيَّن الله سبحانه وتعالى أن هذا النصر الذي يأتي من عنده مشروطٌ بنصرة المؤمنين لله عز وجل؛ أي ينبغي للمؤمنين أن يُقَدِّموا النصرة لله، فيدعمهم سبحانه حينئذٍ بنصره؛ فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: 7]، وقال: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ [الحج: 40].

وكيف ينصر المسلمون اللهَ عز وجل؟

إن هذا يكون بتطبيق شرعه، والالتزام بقواعد الحلال والحرام، والدفاع عن الدين وحرمات المسلمين، ورفع راية الإسلام عالية، والاعتزاز بالانتساب إليها، ونسب النصر حين يحدث لله سبحانه وتعالى، والخضوع لله بالدعاء والطلب.. هذه هي نصرة الله عز وجل.

وهذه كلها كان يفعلها العثمانيون.

لقد حرص العثمانيون على تطبيق شرع الله، والتزموا إلى حدٍّ كبيرٍ بقواعد الحلال والحرام، حتى عندما كانت تحدث مخالفات شرعيَّة فإنها إمَّا أن تكون عن جهلٍ وعدم درايةٍ بالأحكام، وإمَّا أن تكون لضعف نفس، أو غلبة هوى؛ لكن في هذه الحالة الأخيرة لم يكن يدَّعي أحدٌ أن شرع الله لا يُناسب الدولة، أو أن قواعد الحلال والحرام قد تغيَّرت؛ إنما يقوم المخالِف بالمخالفة دون أن يدعمها بتزويرٍ في الشريعة، أو تحريفٍ في الدين.

وحرص العثمانيون على الدفاع عن الدين وحرمات المسلمين، وكانوا حائط صدٍّ منيع منعوا الهجمات الصليبية من الولوج إلى العالم الإسلامي، ومن يوم ظهورهم امتنع البيزنطيون من غزو الأناضول أو الشام، وأَمِنَ العالم الإسلامي من هجمات الصليبيِّين الغربيِّين، ولم تحدث هجماتٌ نصرانيَّةٌ على الأمَّة إلا بعد دخول العثمانيِّين في مرحلة الضعف، ولم يكن هذا إلَّا بعد قرونٍ من النشأة.

وحرص العثمانيون على رفع راية الإسلام عالية، واعتزوا تمامًا بالانتساب إليها، ولم يُعطوا دولتهم أي صبغة قومية أو دنيوية؛ إنما وصفوا دولتهم دومًا بالإسلامية، وكانت شعاراتهم وأقوالهم وأفعالهم كلها منسوبةً إلى الإسلام، فكان الجميع يعلم أن النصر الذي يتحقَّق لهم هو نصرٌ للإسلام، وأن أيَّ نجاحٍ يصلون إليه إنما هو نجاحٌ للدين، فصاروا بذلك خير دعايةٍ للإسلام.

هذه هي نصرة الله عز وجل.

فإذا فعل العثمانيون ذلك فإنه من الطبيعي أن يُحقِّق لهم الله سبحانه وتعالى النصر على أعدائهم، ومن الطبيعي أن يُحقِّق لهم النصر في ظروفٍ صعبةٍ لا يتوقَّع فيها أحدٌ النصرَ للمسلمين؛ مثل أن يكونوا في قلَّةٍ في العدد والعدَّة، أو في أرضٍ صعبة التضاريس، أو مجهولة المعالم لهم، أو في نقصٍ في الحلفاء والشركاء، فإذا حدث النصر في هذه الظروف القاسية اعترف الجميع أن هذا النصر المفاجئ وغير المتوقَّع جاء من عند الله عز وجل، فيكون هذا نصرًا لدين الله، ودعوةً لغير المسلمين، وإعلامًا للجميع أن الله قادرٌ على كلِّ شيء.

لقد وصف الله عز وجل حال المسلمين في بدر بالذلِّ، وهي كلمةٌ قاسيةٌ تُعبِّر عن حالة الضعف الشديد التي كان يُعاني منها المسلمون؛ قال تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ [آل عمران: 123]، فإذا نَصَرَ اللهُ الضعيف على القوي، والقليل على الكثير، والذليل على العزيز؛ فإن هذا كلَّه يعني أن الأمر خارجٌ عن طاقة البشر؛ خاصَّةً إذا كان هذا النصر متكرِّرًا؛ كما في حالة العثمانيين، فيتعذَّر حينئذٍ أن يُنْسَب الأمر إلى «المصادفة»، أو أن يُنسب إلى طاقات البشر وإعداداتهم، ولا يجد الواصف للحدث بُدًّا من الاعتراف أن الأمر معجزةٌ حقيقيَّةٌ لا يفعلها إلَّا الله عز وجل.

هذه هي معادلة النصر الحقيقية في الرؤية الإسلامية، وهي ما يُنكره المحلِّلون الغربيون أو العلمانيون، ولا مناص من الاعتراف بها إذا أردنا أن نُفسِّر «معجزة» النصر العثماني في هذا العدد الضخم من المعارك والصدامات.
هذه هي أعظم أسباب النصر في الرؤية الإسلامية.

وينبثق من هذا الأمر سببٌ آخر رئيس من أسباب النصر، وهو الوحدة وعدم الفرقة.

ولقد رَبَطَ اللهُ عز وجل التنازع بين المسلمين بالفشل في المعارك، وفي الحياة بشكلٍ عامٍّ؛ فقال تعالى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: 46].

ومرَّة أخرى نجد أن الدولة العثمانية حرصت في بداية عهدها -أي في خلال المائة سنة الأولى من عمرها- على ألَّا تصطدم مطلقًا بالمسلمين، وعلى الهروب دومًا من الظروف التي تدعم الصدام بين الأشقاء، مع أنها كانت أقوى من الإمارات المحيطة بها، وهذه الروح النبيلة قلَّلت من مناطق النزاع إلى أبعد درجة، وهذا بدوره أدَّى إلى نجاحاتٍ متكرِّرةٍ في مسيرة الدولة.

هذا سببٌ كبيرٌ كذلك من أسباب نصر العثمانيين على أعدائهم من نصارى البلقان.

وهذا السبب الأخير مع السبب الرئيس الأول، وهو الارتباط بالله عز وجل، ونصرة دينه، يُمثِّلان أعظم الأسباب قاطبةً في تحقيق النصر، ثم ينضمُّ إليهما بعد ذلك الأخذُ بالأسباب المادِّيَّة في كلِّ المجالات الممكنة؛ أي الأخذ بالأسباب في الشئون العسكرية، والسياسية، والاقتصادية، والإعلامية، والعلمية، والاجتماعية، وغير ذلك من مجالاتٍ تؤدِّي إلى نجاح الجيوش، أو نجاح الأمَّة بشكلٍ عامٍّ.

ويقع المحللون والمؤرخون في خطأ كبيرٍ عندما يتناولون المعارك الإسلامية من منطلق المادِّيَّات فقط، فينظرون إلى أعداد الجيوش، وإلى خزينة الدولة، وإلى قوَّة الإعلام، ولا ينظرون إلى العَامِلَين الرئيسين في النصر؛ وهما عامل الارتباط بالله، ووحدة الصفِّ؛ ودون النظر إلى هذين العاملين لن يمكن أبدًا فَهْم أيِّ نصرٍ إسلاميٍّ في كلِّ مراحل التاريخ، ونحن لا نُنكر هنا أهميَّة الأخذ بالأسباب المادية؛ بل نقول: إنَّه بغير الأخذ بهذه الأسباب المادية فالنصر لن يتحقَّق فعلًا؛ ولكن لن يتحقَّق لهم أبدًا إذا أخذوا بكلِّ الأسباب المادية مع ضعف الارتباط بالله، أو مع فرقة الصفِّ.

ولقد كانت الدولة العثمانية في المائة سنة الأولى من عمرها مثالًا يُحتذى في الأخذ بالأسباب المادية مع عدم إهمالها للسببين الرئيسين؛ كما أسلفنا؛ فقد كان التدريب العسكري وتنظيم الجيوش على أعلى مستوى، وكذلك كان الجهاز الإداري للدولة، ومثله يُقال في العلاقات الدبلوماسية والتواصل مع الدول المحيطة، وكان التقدُّم الاقتصادي كذلك ملموسًا في قصَّة الدولة من أول أيامها، و-أيضًا- كان الاهتمام بالبناء المجتمعي المتماسك واضحًا في كل المراحل؛ هذه هي الأسباب المادية أو بعضها، وهي مجالاتُ تَمَيُّزٍ؛ كما هو واضح في كيان الدولة العثمانية.

إذا نظرنا إلى هذه الأمور مجتمعة أدركنا أن نصر العثمانيين على الأوروبيين في هذه المواقع المتكرِّرة على مدار مائة سنة لم يكن أمرًا غريبًا أو غير متوقَّع؛ بل إن المـُراجِع للتاريخ الإسلامي سيجد مثل هذه الانتصارات في حياة كلِّ دولةٍ تمسَّكت بما تمسَّكت به الدولة العثمانية، فسيجد هذه الانتصارات في تاريخ الدولة الأموية، وسيجده في تواريخ عدَّة دولٍ أخرى ظهرت في أماكن مختلفة من العالم الإسلامي، كالدولة الطولونية، والإخشيدية، والسلجوقية، والغزنوية، والزنكية، والأيوبية، ودولة المماليك، وكذلك دولة المرابطين، والموحدين، وبني مرين، والأغالبة، وكثيرٍ من الدول الإسلاميَّة الأخرى التي حقَّقت معادلة النصر المتكاملة، والمكوَّنة من ثلاثة أركان؛ كما أوضحنا: ركن الارتباط بالله، وركن وحدة الصفِّ، وركن الأخذ بالأسباب، وعند النظر إلى الأمور بهذه النظرة الشاملة سنفهم انتصارات الدولة العثمانية فهمًا حقيقيًّا دون غموض أو اضطراب.

وقد يقول قائل: إننا شاهدنا في مراحل التاريخ المختلفة قادةً مسلمين يُحقِّقون النصر المتكرِّر والتمكين دون أن يرتبطوا بالله ارتباطًا وثيقًا، ودون أن يحرصوا على الوحدة في صفِّهم، وما أكثر الظالمين الذين مُكِّنوا في تاريخ المسلمين!!
أقول: نعم قد يُمَكَّن ظالم، أو مفرِّط في الشريعة؛ لكنَّه لا يكون مُعْلنًا أنه يتحرَّك باسم الإسلام والدين؛ بل يُعلن بوضوح أن معاركه دنيويَّة، وأن انتماءاته قومية أو عائلية، ولا يُدْخِل الإسلام في أقواله أو أفعاله، وهنا يكون المحكُّ في التقييم راجعًا للأسباب المادية فقط، ويُتْرَك الفريقان: المسلم وغير المسلم، للأعداد والأرقام والحسابات الأرضية؛ أما أن تُعْلِن الدولة إسلاميتها، ويتمسَّك قادتها بالصبغة الدينية، فإن الله لا يُحقِّق لهم النصر إلَّا إذا أخذوا بكلِّ أسباب النصر في الرؤية الإسلامية؛ وذلك حتى لا يلتبس على الناس الأمر، وتضيع عندهم المقاييس السليمة؛ لذلك شاء اللهُ عز وجل أن تحدث للمسلمين مصيبةٌ في غزوة أحد عندما أراد بعضهم الدنيا، كما أشار الله عز وجل في قوله: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾ [آل عمران: 152]؛ بينما نجد أن المصائب العسكرية قد لا تحدث لجيوشٍ أخرى مسلمة أعلنت بوضوح أنها تُقاتل من أجل الدنيا؛ لأنها جيوشٌ علمانيَّةٌ لا تعترف بالشريعة ولا تكترث بها؛ هذا لأن دين الله عزيز، لا ينصره إلَّا من أحاطه من جميع جوانبه؛ أما الذي رفضه وتركه فإن الله يَكِلُه إلى نفسه، فيُحقِّق النصر أو الهزيمة تبعًا لمقاييس البشر، وبعيدًا عن التأييد الرباني؛ وذلك كما قال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ﴾ [هود: 15]، ولا يخفى علينا أن مَنْ فعل هذا، وحقَّق النصر في الدنيا -مع بُعده عن الله عز وجل- سوف يخسر في الآخرة خسرانًا كبيرًا؛ فقد قال تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾ [الشورى: 20]، فليس للمؤمن أن يسعى للنصر في الدنيا على حساب دينه؛ لأنه قد يُحقِّقه فعلًا في الدنيا؛ ولكن يخسر في الآخرة، وهذا هو الخسران المبين.

هذا هو التفسير الذي أرتضيه لشرح الانتصارات العثمانية المتكرِّرة.

وعندما يُخالف العثمانيون هذه الأسباب الثلاثة سيتعرَّضون للهزائم، وعندما يُعاودون الأخذ بها سينتصرون من جديد؛ وهذا لأن ما ذكرناه هو سُنَّة من سنن الله عز وجل، وقد قال تعالى: ﴿سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا﴾ [الفتح: 23][1].



[1] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 1/ 122- 131 .