نهاية السلطان سليم الأول
12-07-2021, 11:37 AM


نهاية سليم الأول، ونظرة شاملة: (1520م)

في 22 سبتمبر 1520م وافت المنيَّة السلطان سليم الأول[1] وهو في الخمسين من عمره، بعد أن حَكَمَ الدولة العثمانية ثماني سنواتٍ فقط. كانت آثار حكم هذا السلطان أكبر بكثيرٍ من فترة ولايته! تضاعفت مساحة الدولة العثمانية في عهده أكثر من ثلاثة أضعاف! وذلك بعد أن دخلت في تبعيَّتها عدة دول كبرى دفعةً واحدة؛ فكان هذا يشمل الشام بكلِّ ولاياته (سوريا، ولبنان، والأردن، وفلسطين)، ومصر، والحجاز، والجزائر، وكذلك شرق الأناضول، وغرب أذربيچان، وغرب أرمينيا، وأجزاء من غرب إيران، وشمال العراق (خريطة رقم 25).



لا يمكن في الواقع تخيُّل هذه الزيادة في هذه الفترة الزمنيَّة المحدودة! كان قائدًا عسكريًّا فريدًا. لم يُهْزَم في حياته قط. كان حاسمًا بشكلٍ لافت. لم يتردَّد في قراراته قط. كان مهابًا وقديرًا، وكان شديدًا وكتومًا. يتميَّز بالمباغتة لأعدائه، ولا يستطيع أحدٌ أن يتوقَّع خطوته القادمة.

لم يفلت من يده معارضٌ له، وقمع في سنة حكمه الأولى المتمرِّدين عليه، ولم يقوَ أحدٌ بعدها في دولته على الوقوف في وجهه. كان عزوفًا عن الملذَّات والترف[2]، وعاش حياته في معسكرات الجيش، ولم يُضَيِّع لحظةً من عمره في لهو.

رجلٌ بهذه الصورة كان من الممكن أن يكون رمزًا إسلاميًّا تاريخيًّا لا خلاف عليه لولا أن حياته حفلت بالمواقف المثيرة التي اختلف على تحليلها وتقويمها المؤرخون، سواءٌ من المعاصرين له، أم المتأخرين عنه.

كانت في حياته مواقف جهاديَّة من الدرجة الأولى، وفي الوقت ذاته كانت له مخالفاتٌ شرعيَّةٌ جسيمةٌ لا يُقْدِم عليها إلا عتاة الجبابرة! كان سليم الأول مجاهدًا بقوَّة ضدَّ مشاريع الصفويين، ولولا وقفته الصلبة في وجوههم لجرى تشييع المنطقة بأسرها، ولم يكن يُستبعد أن يطال الأمر العراق، والشام، ومصر، والحجاز.

إن الدولة الصفوية كانت ستُعيد بنسبةٍ كبيرةٍ سيناريوهات الدول الشيعيَّة الكبرى التي آذت الشعوب السُّنِّيَّة في مراحل التاريخ السابقة، كالدولة البويهية، والعبيدية (الفاطمية)، والقرامطة.
-أيضًا- يُحْسَب للسلطان سليم الأول وقوفه الحاسم غير المتردِّد مع مسلمي الجزائر، مع أن العدو آنذاك هو الإمبراطورية الكبرى إسبانيا، وأحسب أنه لولا هذه الوقفة لالتهمت إسبانيا الشمال الإفريقي المسلم في غضون سنواتٍ معدودات، ولعلها كانت ستعيث فيه الفساد عدَّة قرونٍ كما فعلت في أميركا اللاتينية.

لكن في الوقت نفسه نجد أن هذا البطل صاحب النخوة هو الذي انقلب على أبيه، وحاربه بجيشه، وأجبره في النهاية على التخلِّي عن العرش! هذا الشهم الذي وقف إلى جوار «إخوانه في الله» في الجزائر البعيدة هو الذي دبَّر المكائد لقتل إخوانه من أبيه، وبلا رحمةٍ قَتَل أولاد إخوته كذلك! هذا المجاهد الغيور على عقيدة المسلمين من تغييرها على يد الصفويين هو الذي اجتاح أكبر دولةٍ سُنِّيَّة في هذه الحقبة التاريخيَّة، وهو الذي قتل سلطانَيْن مهمَّين من سلاطين دولة المماليك؛ قنصوة الغوري، وطومان باي، وهو الذي كان سببًا في إراقة دماء عشرات الآلاف من جيش المماليك المسلم، الذي كان درعًا للإسلام ضدَّ التتار ثم الصليبيين، وكان سببًا في قتل عددٍ كبيرٍ من العلماء في أرض مرج دابق بالشام، وهو الذي اجتاح القاهرة المسلمة ليقتل من أهلها ما لا يُحصى، وهو الذي قتل سبعةً من وزرائه لأسبابٍ واهية[3]، وهو الذي أسر خليفة المسلمين، الذي كان يحرص السلاطين العثمانيون قبله من آبائه وأجداده على أخذ «تصديقه» على سلطنتهم! إنه الرجل الذي انحرف ببوصلة الدولة العثمانية الجهادية من قتال المحاربين الأوروبيين إلى قتال إخوانه من المسلمين. إنه لم يُقاتل أيًّا من أعداء الدولة في أوروبا قط!

هذا هو لوغاريتم سليم الأول!

أعتقد أنه من لطف الله بالدولة العثمانية أن هذا الرجل لم يحكم طويلًا، ولو طال حكمه كغيره من السلاطين الكبار، فحكم ثلاثين أو أربعين سنة، لصار مستقبل الدولة العثمانية عاديًّا، وليس باهرًا كما رأيناه؛ لأن انشغال المسلمين ببعضهم البعض هو بداية التدهور والانحطاط، ولقد تولَّى بعد سليم الأول ابنُه سليمان القانوني، وكانت له نظرةٌ مختلفةٌ إلى الأمور، وعاد بالدولة العثمانية إلى سابق عهدها، ونبلها، وجهادها، ونَقَل جيوش المسلمين من أرض الأصدقاء إلى أرض الأعداء، فاستحق المجد الذي التصق به في كل كتب التاريخ، سواء المسلمة منها أم غير المسلمة[4].

[1] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م صفحة 197.
[2] جرامون، ﭼان – لوي باكي: أوج الامبراطورية العثمانية: الأحداث (1512-1606)، ضمن كتاب: مانتران، روبير: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: بشير السباعي، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة–باريس، الطبعة الأولى، 1993م. صفحة 1/207.
[3] فريد، 1981 صفحة 197.
[4] دكتورراغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 1/ 408- 410.