حصار حلب وسقوط ميافارقين
08-08-2016, 05:52 PM




أقوى المدن في الشام هما مدينتا حلب ودمشق.. ولو سقطت هاتان المدينتان فإن ذلك يعني سقوط الشام كلية، لذلك قرر هولاكو أنه من المناسب في ظل الظروف الحالية أن يتوجه مباشرة لإسقاط إحدى هاتين المدينتين: حلب أو دمشق.. فكانت الحيرة بأيهما يبدأ!

التخطيط لإسقاط حلب:
وجد هولاكو أنه لو أراد التوجه إلى حلب فعليه أن يخترق الشمال العراقي أولًا، ثم يدخل سوريا من شمالها الشرقي مخترقًا بذلك شمال سوريا، موازيًا حدود تركيا، حتى يصل إلى حلب في شمال سوريا الغربي، وهذه المناطق وإن كانت كثيرة الأنهار -والأنهار تعتبر من العوائق الطبيعية الصعبة، وخاصة في مناورات الجيوش الضخمة- فإن هذه المناطق خضراء، وفيرة الزرع، ووفيرة المياه، بالإضافة إلى أنها قريبة من ميافارقين، فلو احتاج جيش أشموط بن هولاكو لمدد من جيش التتار الرئيسي فإنه سيكون قريبًا منه.

أما إذا أراد هولاكو أن يتوجه إلى دمشق أولًا فهذا وإن كان سيمثل عنصر مفاجأة رهيبة للمسلمين في دمشق لأن هولاكو سيأتي من حيث لا يتوقعون، فإنه يتحتم على هولاكو لكي يفعل ذلك أن يجتاز صحراء بادية الشام أو صحراء السماوة بكاملها ليصل إلى دمشق، وهذه صحراء قاحلة جدًّا، والسير فيها بجيش كبير يعتبر مخاطرة مروعة، ولا يستطيع هولاكو أن يقدم على هذه الخطوة.. مع أنه لو فعلها لفاجأ جيش الناصر يوسف من حيث لا يتوقع، وقابل القوَّة الرئيسية للمسلمين في المنطقة.

وسبحان الله! قبل ذلك بأكثر من ستة قرون، وبإمكانيات أقل من ذلك بكثير اجتاز خالد بن الوليد رضي الله عنه هذه الصحراء الشاسعة بجيشه من العراق، ليفاجئ جيوش الرومان بالقرب من دمشق، ونجح في ذلك نجاحًا مبهرًا، لكن شتان بين خالد الصحابي رضي الله عنه، وهولاكو السفاح لعنه الله.

المهم.. باستقراء هذه الأمور جميعًا قرر هولاكو أن يتوجه بجيشه إلى حلب أولًا، على أن يبقى ابنه أشموط محاصرًا لميافارقين.

الطريق إلى «حلب»:
بدأ جيش التتار الجرّار في التحرك من قواعده في هَمَذَان في اتجاه الغرب، حيث اجتاز الجبال في غرب إيران، ثم دخل حدود العراق من شمالها الشرقي، ثم اجتاز مدينة أربيل، ووصل إلى مدينة الموصل الموالية له، فعبر عندها نهر دجلة، وهو العائق المائي الأول في هذه المنطقة، وهو عائق خَطر فعلًا، وكان لا بُدَّ من عبور هذا النهر في منطقة آمنة تمامًا، وذلك لخطورة عبور الجيش الكبير، ولم يكن هناك أفضل من هذه المنطقة الموالية تمامًا له! ثم سار جيش التتار بحذاء نهر دجلة على شاطئه الغربي في أرض الجزيرة ليصل إلى مدينة «نصيبين» (في جنوب تركيا الآن)، وهي مدينة تقع جنوب ميافارقين بحوالي 170 كيلو متر فقط، وبذلك اقترب من جيش ابنه أشموط، إلا أنه لم يذهب إليه لاطمئنانه لقوته.

احتل هولاكو مدينة «نصيبين» دون مقاومة تذكر، ثم اتجه غربًا ليحتل مدن «حران»، ثم مدينة «الرها» ثم مدينة «البيرة»، وكل هذه المدن في جنوب تركيا، فكان على هولاكو أن يخترق كل هذه المدن التركية لينزل على مدينة «حلب» من شمالها، وبذلك يطمئن لعدم وجود أي جيوش إسلامية في ظهره.

عند مدينة «البيرة» عبر هولاكو نهر الفرات الكبير من شرقه إلى غربه، وبذلك عبر العائق المائي الثاني في المنطقة دون مشكلات تذكر، ثم اتجه جنوبًا غرب نهر الفرات ليخترق بذلك الحدود التركية السورية متوجهًا إلى مدينة حلب الحصينة، والقريبة جدًّا من الحدود التركية (حوالي خمسين كيلو مترًا فقط[1].

استمرت هذه الاختراقات التترية للأراضي الفارسية ثم العراقية ثم التركية ثم السورية مدة عامٍ كاملٍ.. وهو عام 657 هجرية.



حصار حلب:
وصل هولاكو إلى حلب في المحرم من سنة 658 هجرية، وأطبقت الجيوش التترية على المدينة المسلمة من كل الجهات، ولكن حلب رفضت التسليم لهولاكو، وتزعم المقاومة فيها توران شاه عم الناصر يوسف الأيوبي، ولكنه كان مجاهدًا بحق وليس كابن أخيه، ونصبت المجانيق التترية حول مدينة حلب.. وبدأ القصف المتوالي من التتار على المدينة.. وبالطبع كان الناصر يوسف يربض بجيشه بعيدًا على مسافة ثلاثمائة كيلومتر إلى الجنوب في دمشق[2]!

سقوط «ميافارقين»!
في هذه الأثناء حدث حادث أليم ومفجع، إذ سقطت مدينة ميافارقين تحت أقدام التتار بعد الحصار البشع الذي استمر عامًا ونصف العام[3]!

ثمانية عشر شهرًا متصلة من النضال والكفاح والجهاد.. دون أن تتحرك نخوة قلب أمير من الأمراء أو ملك من الملوك! ثمانية عشر شهرًا والناصر والأشرف والمغيث وغيرهم من الأسماء الضخمة يراقبون الموقف ولا يتحركون!

سقطت مدينة ميافارقين الباسلة، واستبيحت حرماتها تمامًا.. فقد جعلها أشموط بن هولاكو عبرة لكل بلد يقاوم في هذه المنطقة.. فقتل السفاح كل سكانها، وحرَّق ديارها، ودمرها تدميرًا.. لكنه احتفظ بالأمير الكامل محمد حيًّا ليزيد من عذابه، وذهب به إلى أبيه هولاكو وهو في حصار مدينة حلب.

مقتل الكامل محمد الأيوبي:
استجمع هولاكو كل شره في الانتقام من الأمير البطل الكامل محمد الأيوبي، فأمسك به وقيده، ثم أخذ يقطع أطرافه وهو حي، بل إنه أجبره أن يأكل من لحمه[4]! وظل به على هذا التعذيب البشع إلى أن أذن الله عز وجل للروح المجاهدة أن تصعد إلى بارئها.

﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 169 - 171].

روى البخارى ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ لَهُ عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا إِلاَّ الشَّهِيدَ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى»[5].

وقد يقول قائل: لقد قتل الكامل محمد الذي قاوم، كما قتل الخليفة المستعصم بالله الذي سلم ولم يقاوم! ولكن أقول: شتان!

شتان بين من مات رافعًا رأسه، ومن يموت ذليلًا منكسرًا مطأطئ الرأس.

شتان بين من مات وهو ممسك بسيفه، ومن مات وهو رافع يده بالتسليم.

شتان بين من مات بسهم في صدره وهو مقبل، ومن مات بسهم في ظهره وهو مدبر.

والكامل محمد مات في الميعاد الذي حدده رب العالمين.. إنه لم يتقدم لحظة، ولم يتأخر لحظة.. وكذلك مات المستعصم بالله في الميعاد الذي حدده رب العالمين.. لم يتقدم لحظة، ولم يتأخر لحظة.

فوالله لن يُطيل الجبن عمرًا، ولن تُقصره الشجاعة.

لكن أين اليقين؟!

استشهد البطل الأمير الكامل محمد الأيوبي، والذي كان بمثابة شمعة مضيئة في عالم من الظلام، وقطع السفاح هولاكو رأسه، وأمر أن يطاف برأسه في كل بلاد الشام، وذلك ليكون عبرة لكل المسلمين، وانتهى المطاف بالرأس بعد ذلك إلى دمشق، حيث عُلِّقَ فترةً على أحد أبواب دمشق، وهو باب الفراديس، ثم انتهى به المقام أن دفن في أحد المساجد، والذي عُرِفَ بعد ذلك بمسجد الرأس[6].

ونسأل الله أن يكون من أهل الجنة.

زادت حماسة التتار بقتل الكامل محمد وسقوط ميافارقين، وفي ذات الوقت خارت قوى المسلمين نتيجة الضرب المكثف، وهبوط المعنويات لمقتل الأمير البطل الكامل محمد، واشتد القصف التتري على حلب، واستمر الحصار سبعة أيام كاملة، ثم أعطى التتار الأمان لأهلها إذا فتحوا الأبواب دون مقاومة[7]، فهل قبل الحلبيون ذلك؟، وما موقف زعيمهم توران شاه تجاهه؟

هذا ما نتعرف عليه بإذن الله تعالى في المقال القادم.

[1] المظفر قطز ومعركة عين جالوت ص111.
[2] المظفر قطز ومعركة عين جالوت ص111، 112.
[3] ابن كثير البداية والنهاية 13/249.
[4] ابن الفوطي: الحوادث الجامعة ص340.
[5] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب الحور العين وصفتهن يحار فيها الطرف شديدة سواد العين شديدة بياض العين [2642].
[6] ابن كثير: البداية والنهاية 13/249.
[7] ابن كثير: البداية والنهاية 13/253.



د/راغب السرجاني