قصة يا ليتها كانت قصيرة
08-04-2017, 11:13 AM
قصة يا ليتها كانت قصيرة
صفية محمود
تركَنا أبوانا في مالٍ ونعمة، وجاهٍ ورفعة، يَهابُنا الجيران من كل الجهات، لا لورعٍ فيهم؛ ولكن لِمَنَعَتِنا، فلا يخطر على بال أحدِهم أن يعتدي ولو على سياجِ حديقتنا، ولَمَّا كبِرْنا تعاهَدنا أنا وإخوتي على حفظ الوصية، آخر ما قال والداي: "الدار والحديقة، والمكانة الرفيعة"، لا تخونوا الأمانة، وَسِّعوا الدار، وأَعلُوا المكانة، وارفعوا للخير راية.

حاوَلْنا الوفاء، حتى عبث الشيطان وأتباعه من الجيران في رؤوسِ بعض إخوتي:(كبيرهم:"طامع"، وأوسطهم:"لاهٍ"، وصغيرهم:"غافل")، وضَموا إليهم بعضَ أولادنا وأحفادنا الصغار، أغروهم بالترفيه والمرح، والتشويق والمتع، حتى أغرَقوهم وأنسَوهم ما بيننا من صلة، فمات فيهم الانتماء، وأفقدوهم بعض الذاكرة، وملؤوا لهم بعض الأوعية بأحجار مزركشة مزينة، وقالوا بها معًا سنلعب، وَلْنُقِم مباراة، ومرماكم سياج الحديقة، والطفل ساذجٌ يرمي ويقذف، يجري ويضحك، والظن أنه يلعب، ولم يعِ يومًا نصَّ الوصية، فضاعت هباءً القضية، ورغم الدفاع منَّا والصياح، غطوا عليه بالضجيج؛ ليُغْروا فريقهم باللعب، حتى انهدم سور الحديقة!.

فبرقتْ عين أخي طامع، وهلل له لاهٍ، ومِن خلفهم صاح غافل: انتهى أول الأشواط، ومرماكم الآن أقرب الأبواب، فتوالت الأحجار، والصبيان سذج، يتمايلون ويضحكون: ظنًّا أنه إنجاز، ثم انهدم الباب، وعندها تسلل:"طامعٌ ولاهٍ وغافل" تحت لواء شيطان، وأخذوا ما طالوه من مال، تطاير بينهم دينار ومِن فوقه دينار، والأبناء أطفال صغار يضحكون للحركات، ولم يدركوا للدينار قيمة ولا مقدارًا، فلم يَعْنِهم في يومِهم غيرُ لهوٍ، وكثرة السمَّار، وشلَّة خفيفة الظل خارج الأسوار خلف الدار، فهم شباب صغار، وليس في عرف الصغار جد ولا بذل، ولكن مرح عابر وعُطل عن الأعمال!.

وهكذا بدأت الدار تنهدم، وضاعت الأموال، ومن قبلها فات الجاه والمقدار، لم يبقَ من إخوتي ناصح سوى مبحوح الصوت، ما له يدان ولا رِجْلان.

وعندما فنِيَتِ الأموال، وعُرض البيت والحديقة للبيع بالخسران، قعد طامع ولاهٍ مع الغافل، واستدعوا سائر الأعوان، وهم خلان في الأفكار، صنوان في الأغراض، فتشاوروا:" ما العمل؟"، فقالوا:" ما لنا والعجز؟، هيا نبيع الصغار، واحدٌ بدينار!!؟"، وهكذا ضيَّعنا الوصية، فما بكينا ولا تباكينا، فهل ترانا لم نزل أحياء، أم أننا أشلاء تحت أنقاض الدار!!؟.

هذه قصتي، ويا ليتَها كانت قصة قصيرة!.
أتدرون مَن والداي!!؟:" الدِّين وأمتي".
أمَّا مَن أنا!!؟، فكل غيور مريض بغم، أو ميت بسُمِّ الهمِّ، غاظه سفول الهمَّة، وكبوة الأمة!!.

وعن إخوتي الذين هانوا، وللحمِهم خانوا:" كل عابثٍ مدرسٍ خان صفَّه، أو طبيب سرق مريضه، أو مهندس في الحي خان، أو موظفٍ قد فتح للمال درجًا، أو وزير، أو غفير، أو مذيع، أو والد، أو حتى أم! مَن همه مالٌ، ولا يَعنيه إن مال!، يبيع دينه وقومَه بفَلْسٍ، لا ضير بل أقل!!؟".

وأبنائي وأحفادي، أتعرفهم؟، هم بناتي وصبياني، المستهدفون على الرصيف، أو خلف تلفاز وفن، وفيس وفون، أو حتى في لجان الامتحان، عندما يُغتال العقل بالغش، وبعدها نرضى مكانًا في أقصى الخلف وراء الوراء بصف!!؟.