معركة طلاس وفتح الصين
30-06-2019, 03:20 PM


كان المسلمون يتطلَّعون لفتح الصين، ولكنَّهم وصلوا فقط إلى حدودها وخاضوا معركةً واحدة، وعلى الرغم من انتصارهم فيها فقد قرَّروا العودة.


الفتوح الإسلامية

كانت الفتوح الإسلامية ظاهرة تاريخيَّة فذَّة ومدهشة من جوانب عدَّة، وقد طرح الناس قديمًا، ولا يزالون يطرحون -حتى الآن- أسئلتهم المندهشة حول هذه الفتوح: من حيث اتِّساع مداها الجغرافى، وقصر مداها الزمنى، وبقاء نتائجها واستمرارها طوال أربعة عشر قرنًا من الزمان؛ ففي غضون مائة سنة ونيف كانت الدولة الإسلامية قد صارت من حقائق عالم القرن (الثامن الميلادي=الثاني الهجري) الساطعة، وكانت قد وصلت إلى حدودها التي بقيت ثابتة على مدى القرون الثلاثة التالية على أقل تقدير، ولم يكن هناك في عالم القرن (الثامن الميلادي=الثاني الهجري) قوَّةٌ سياسيَّةٌ تُضاهي الدولة الإسلامية سوى إمبراطوريَّة أسرة تانج في الصين، أمَّا في عالم البحر المتوسِّط الذي كان الرومان يُسمُّونه "بحرنا"، فقد دخلت الشواطئ الشرقية والجنوبية وشبه جزيرة إيبيريا تحت حكم الدولة الجديدة، وفي الشرق كانت أراضي العراق وإيران، وبلاد ما وراء النهر والسند من أراضي هذه الدولة.



لقد كانت تلك مساحة شاسعة بلغة الجغرافيا، ووجه الدهشة أنَّ السيطرة عليها لم تتم بالمعارك المباشرة والقتال في معظم الأحيان؛ فقد كانت معظم الجيوش الإسلامية تضمُّ حوالي عشرة آلاف مقاتل، ولم تكن تزيد عن عشرين ألف مقاتلٍ إلَّا في حالاتٍ معدودة، وكانت تلك الجيوش تزحف على الطرق الرئيسة، وقد فتح المسلمون بعض المدن بالقتال، ولكنَّ الكثير من المدن التي حاصروها "فُتِحت صلحًا".



وفيما عدا ذلك كانت الفتوح "سلميَّة" إلى حدٍّ كبير؛ ففي المناطق البعيدة عن الطرق الرئيسة التي كانت تربط بين بلاد عالم ذلك الزمان، كانت هناك بالضرورة -في الجبال والوديان البعيدة- جماعات كثيرة في القرنين (الأوَّل والثاني بعد الهجرة= السابع والثامن بعد الميلاد)، لم يرَ واحدٌ منهم مسلمًا على الإطلاق، ولم يُشاهدوا جيوش الفتح من قريبٍ أو بعيد، وربَّما مرَّت على مثل هذه الجماعات شهور أو سنوات قبل أن يعرفوا أنَّ سادتهم السابقين قد خضعوا لسلطة الخليفة الأموي في دمشق، أو الخليفة العباسي في بغداد بعد ذلك. وربَّما كانت جبال أذربيجان، وجبال منطقة جنوب بحر قزوين، وتلال كردستان في الشرق مثالًا طيِّبًا على ذلك؛ فلم يظهر المسلمون في هذه المناطق إبَّان القرنين الأوَّلين إلَّا نادرًا، وفيما بعد كانت هناك أقليَّات من المسلمين -من التجَّار والدُّعاة- قد استوطنت هذه المناطق، وأخذت تنشر الإسلام بين سكَّانها، وهنا بدأ الناس يرتبطون بالسلطة السياسيَّة للخلافة القائمة.


مواجهة محتومة بين المسلمين والصين

وعلى الرغم ممَّا هو معروفٌ من أنَّ المسلمين لم يُحاولوا غزو الصين قط، فإنَّ الظروف السياسية والعسكرية المضطربة في أقاليم وسط آسيا آنذاك جعلت الاحتكاك بين الصين والمسلمين أمرًا محتومًا، ومن المؤكَّد -من ناحيةٍ أخرى- أنَّ المسلمين كانوا يتطلَّعون إلى فتح الصين، وتحكي المصادر التاريخيَّة أنَّ "الحجاج بن يوسف الثقفي" وعد أن يُعطي ولاية الصين لمن يصل إليها أوَّلًا من ولاة المشرق.



ونعرف من المصادر الصينيَّة أن وفدًا عربيًّا وصل إلى بلاط الإمبراطور الصيني من أسرة تانج، وأنَّ أفراد الوفد تسبَّبوا في مشكلةٍ دبلوماسيَّةٍ لأنَّهم رفضوا السجود للإمبراطور بالطريقة التقليديَّة عندما استقبلهم سنة (713م=94هـ)؛ في سياق محاولات كلٍّ من المسلمين وأمراء الصغد (في أوزبكستان الحاليَّة) لكسب تأييد الصين في الصراع بينهم، وقد بقيت ذكريات هذه العلاقات الدبلوماسيَّة بين الدولة الإسلامية وإمبراطورية تانج في المصادر الصينيَّة، وسرديَّات غير مألوفة في المصادر العربيَّة تُغلِّفها عناصر خياليَّة كثيرة.



وقد أورد الطبري قصَّةً طريفةً عن هذه العلاقات مؤدَّاها أنَّ "ملك" الصين -الذي لم يذكر اسمه- طلب من "قتيبة بن مسلم الباهلي" الفاتح العظيم، أن يُرسل إليه وفدًا حتى يُمكنه أن يعرف المزيد عن العرب ودينهم، واختير عشرة رجالٍ أقوياء ذوي منظرٍ حسن، وعندما وصلوا إلى بلاط الإمبراطور الصيني دخلوا الحمَّام وخرجوا وقد ارتدوا ملابس بيضاء وتعطَّروا، ثم دخلوا إلى حضرة الإمبراطور، ولم يتحدَّث أحدٌ منهم أو من الصينيِّين، ثم انسحبوا خارجين، وسأل الملك الحاضرين عن رأيهم، فأجابوه: "رأينا قومًا ما هم إلَّا نساء ...". وفي اليوم التالي لبس أعضاء الوفد العربي ثياب الوشى وعمائم الحرير، وملابس أنيقة، وقال عنهم رجال البلاط الصيني إنَّهم أشبه بالرجال، وفي اليوم الثالث ذهبوا لرؤية الملك وقد لبسوا ملابس الحرب وتقلَّدوا السيوف وركبوا خيولهم "... فنظر إليهم صاحب الصين فرأى أمثال الجبال مقبلة ..." وخاف منهم.



وفي مساء ذلك اليوم قابل الإمبراطور رئيس الوفد فسأله عمَّا حدث في المرَّات الثلاث، فقال له: إنَّهم ارتدوا في اليوم الأوَّل ما يرتدونه في بيوتهم وبين أسرهم، وفي اليوم الثاني فعلوا مثلما يفعلون عندما يحضرون مجلس الأمير، أمَّا في اليوم الثالث فإنَّهم فعلوا ما يفعلونه إذا لقوا أعداءهم. فقال الملك: "... فانصرفوا إلى صاحبكم فقولوا له ينصرف فإنِّي قد عرفت حرصه وقلَّة أصحابه، وإلَّا بعثت عليكم من يُهلككم ويُهلكه. قال له: كيف يكون قليل الأصحاب من أوَّل خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون"؟ وردَّ رئيس الوفد على تخويف الإمبراطور لهم: "إنَّهم لا يخافون الموت ولا يكرهونه". قال: "فما الذي يُرضي صاحبك"؟ فذكر له أنَّه أقسم أن يطأ أرضهم ويختم ملوكهم ويأخذ منهم الجزية". وتمضي القصة لتقول: إنَّ الإمبراطور توصَّل إلى حيلةٍ لحفظ شرف الجميع وتجنُّب القتال، فأعطاهم حفنةً من تراب بلاده، وبعض المال.


اضطرابات وقلاقل بين الطرفين

وربَّما تحمل هذه القصَّة ظلًّا من الحقيقة، ولكنَّها بالتأكيد لا تحمل الحقيقة كلِّها، وعلى أيِّ حالٍ فإنَّ المصادر التاريخيَّة الصينيَّة تتحدَّث عن أنَّ أمراء بلاد الصغد -فيما وراء نهر أموداريا (جيحون) في إقليم ما وراء النهر بأوزبكستان الحاليَّة- كانوا يُرسلون سفارات منتظمة إلى بلاط الأباطرة الصينيِّين من أسرة تانج؛ في محاولة لإقناعهم بالتدخل لمساعدتهم ضدَّ المسلمين، وعلى الرغم من أنَّ الصينيِّين لم يكونوا على استعدادٍ للتدخل المباشر في هذه المنطقة البعيدة عن مراكز قوَّتهم، فإنَّهم قدَّموا بعض التشجيع للأتراك الطورانيِّين لمساندة أمراء الصغد ضدَّ المسلمين.



ويبدو أنَّ الأمور السياسيَّة والعسكريَّة في آسيا الوسطى كانت قد تطوَّرت في (النصف الأوَّل من القرن الثامن الميلادي= النصف الأوَّل من القرن الثاني الهجري)، بحيث بات من الضروري حسم الصراع هناك، ومع أنَّ المصادر التاريخيَّة العربيَّة سكتت عن المعارك الأخيرة التي حسمت هذا الصراع بشكلٍ لافتٍ للنظر، فإنَّ الحوليَّات والمؤرخات الصينيَّة ساعدت على سدِّ بعض الثغرات في السياق التاريخي لهذه الأحداث.



فقد أدَّت التطوُّرات العسكريَّة إلى دخول القوَّات الصينيَّة إلى بلاد الشاش التي هرب أميرها طلبًا لمساعدة أبو مسلم الخراساني، الذي كان قد تمكَّن من توطيد نفوذه في "سمرقند"، فأرسل واحدًا من مساعديه هو "زياد بن صالح" لقتال الجيش الصيني وحلفائه، وفي يوليو سنة (751م=133هـ) دارت المعركة بالقرب من "تراز"، أو "تلاس"، وكان النصر حليف المسلمين، وكانت تلك المعركة الوحيدة التي اشتبكت فيها الجيوش الإسلامية مع الجيوش الصينيَّة في قتال مباشر.


معركة طلاس

وتكمن أهميَّة معركة طلاس (أو معركة تلاس) في أنَّها كانت علامةُ النهاية لحركة الفتوح الإسلاميَّة الكبرى في الشرق، فلم يحدث بعدها قط أن توغَّلت جيوش المسلمين إلى شرق فرغانة أو شمال شرق بلاد الشاش، كما لم يحدث بعدها قط أن دخلت الجيوش الإسلاميَّة على طريق الحرير الشهير عبر صحراء جوبي إلى سينكيانج داخل الأراضي الصينيَّة، ومن ناحيةٍ أخرى كانت تلك المرَّة الأخيرة التي وصلت فيها الجيوش الصينيَّة إلى هذه المسافة البعيدة شرقًا، لقد كانت معركة تلاس في الشرق شبيهة بمعركة تور- بواتييه (بلاط الشهداء) التي جرت على أرض فرنسا في الغرب سنة (732م=114هـ)، التي هزم فيها "شارل مارتل" جيوش المسلمين بقيادة عبد الرحمن الغافقي.



وعلى الرغم من أنَّ معركة تلاس كانت انتصارًا للمسلمين، على حين كانت معركة تور- بواتييه هزيمةً لهم، فإنَّهما تشابهتا في أمرين أساسين: أوَّلهما، أنَّ المصادر العربيَّة لم تتحدَّث عن كلٍّ منهما إلَّا قليلًا، وثانيهما، أنَّ كلًّا من المعركتين كانت علامةً على نهاية الدور النشيط في حركة الفتوح الإسلامية شرقًا وغربًا.


آثار معركة طلاس

ولكن معركة تلاس ارتبطت بالتراث التاريخي العربي لأسبابٍ مختلفة تمامًا؛ فقد حملت قصص ذلك التراث روايات عن أنَّ المسلمين أسروا في هذه المعركة عددًا من الصناَّع الصينيِّين الذين جلبوا معهم تكنولوجيا صناعة الورق إلى العالم الإسلامى، ومن المؤكَّد أنَّ الورق كان معروفًا في الصين قبل هذا التاريخ، بيد أنَّه لم يظهر في العالم العربي إلَّا في الربع الأخير من القرن (الثاني الهجري=الثامن الميلادي)؛ ففي سنة 178هـ أُسِّس أوَّل مصنعٍ للورق في بغداد، ليحلَّ تدريجيًّا محلَّ جلود الرَّق والبردي وغيرها من موادِّ الكتابة المعروفة آنذاك، ولم يلبث أن صار مادَّة الكتابة الرئيسة، وانتشر استخدامه بسبب رخص ثمنه وسهولة تصنيعه.

____________________

عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، يوليو 2014م.