قراءة في إيقاعات الخليل الرَّعوية
12-11-2012, 08:32 PM
قراءة في إيقاعات الخليل الرَّعوية
مهدي نصير
2012-11-11

كنتُ أتسائلُ دائماً عن سرِّ بعضِ الصِّيغ العروضية لبحور الشِّعر الخليليَّة وتصنيفها في دوائر محدودة يُفضي بعضها إلى بعض دون عناءٍ يُذكر، ولماذا أصرَّ الخليل على عزلها كبحورٍ مستقلَّة لا كصيغٍ مختلفة لدائرة شعريَّة واحدة ؟.
ولماذا إصراره على بعض التفعيلات الشَّاذة (مفاعيلُ ومفعولاتُ مثلاً ) ؟ ولماذا كانت (فاعلن ) تفعيلة أصيلة و (فَعِلن ) زحَّافاً لها مع أنها الأكثر وروداً وتكراراً في المادة الشعرية التي استقرأها الخليل وحلَّلها وأحصاها واستخرج منها نظريته الفذَّة في عروض الشِّعر العربي ؟
لماذا طوَّر صيغاً وأهمل أخرى ؟ لندرتها ؟ لشذوذها عن إيقاعٍ آلفته الأذن الصحراوية ؟ أم لغايات أسطرة النموذج وتأبيده ؟
لماذا كان في نموذجه مجزوءٌ للوافر وبحرٌ للهزج مع تداخلهما الواضح ؟ ولماذا كان النموذج شاذاً والفاعلية الشعرية المتشكِّلة معظمها زحَّافاتٍ وعلل ؟
في هذه القراءة سأقسِّم بحور الخليل إلى دائرتينِ كبيرتين وأعيد تصنيف البحور داخل هاتين الدائرتين وكما يلي، (التسميات الجغرافية التالية تسميات افتراضية وليست تسميات استقصائية وإحصائية ولغايات إضاءة البعد الجغرافي في قراءة مواطن ولادة بعض الإيقاعات العروضية الخليليَّة وتطورها ) :
أوَّلاً : دائرة جنوب الجزيرة العربية ووسطها (وهذا تصنيف يمكن التوسُّع فيه لدراسة المواطن الجغرافية لبحور الشِّعر الخليلية المختلفة لفهم تكوُّن هذه الايقاعات وارتباطها بالثقافة السائدة وارتباطها بالتحضُّر والتمدُّن ودرجاته المختلفة وإيقاعاته التي عبَّرت عن واقع الثقافة والفكر والدين والعقلية السائدة والسيكولوجيا الاجتماعية المكوِّنة لسلوك الأفراد والمجتمع )، وهذه الدائرة أقترح أن تضم الصيغ الشائعة للبحور التالية : (الطويل، الكامل، الوافر، المنسرح، المديد، البسيط، الخبب، المتقارب، الرجز، الرَّمل، المقتضب)، وهذه البحور التي ترتكز في صيغها الشائعة على تكرار وتناوب تكرار اللازمة الإيقاعية (فَعِلن ) وهي المدخل لدخول وتحوُّل هذه البحور وتداخل إيقاعاتها، واشتمام تشكيلات إيقاعية من تفعيلاتها تُبيِّن القرابة العميقة لهذه البحور وانتسابها لبعضها، فمثلاً اقرأ الرَّمل مع حذف متحرِّكه الأوَّل لتجد نفسك أمام صيغةٍ وافيةٍ من صيغ الوافر، واقرأ الكامل دائرياً ستجد أمامك مجزوء الوافر بكامل صيغته، واقرأ الطويل في بعض صيغه ستجد نفسك تقرأ إيقاعات الكامل، واقرأ في تكرارات جزء من إيقاع البسيط ستجد نفسك تقرأ مجزوء الوافر، وبعض صيغ الرجز تقرأ بها خبباً وبعض صيغ الخبب تقرأ بها المتقارب وبعض صيغ المنسرح تقرأ بها مرفَّل الكامل والمقتضب مجزوءً من المنسرح وهكذا سترى أن هذه الدائرة يُفضي بعضُها إلى بعض وسأسميها دائرة (فَعِلن ) .
ثانياً : دائرة شمال الجزيرة والشام والعراق وسأسميها دائرة (فاعلن ) وتضم البحور التي لا ترد في أيٍّ من صيغها التفعيلة (فَعِلن ) وتضم بعض صيغ البحور الواردة في الدائرة السابقة عند تحلُّلها من صيغة (فَعِلن ) كالرَّمل والطويل والبسيط والمتقارب والرجز والبحور التالية التي لا يرد بأيٍّ من صيغها (فَعِلن ) وهي : الخفيف والهزج .
أما البحر المضارع فهو بحرٌ هجين وليس له نماذج شعرية فعلية، وتفعيلته شاذَّة وغريبة (مفاعيلُ )، والمجتث يشكِّل صيغة من إيقاعات البسيط والمتدارك هو صيغة من إيقاع المتقارب .
في هاتين الدائرتين هناك عدد لا متناهي من الامكانيات الهندسية النظرية لتشكيلات إيقاعية لا نهائية والسؤال الذي ما زال يقرع ذاكرتنا ووعينا وشعريتنا العربية : لماذا تم تطوير هذه الأشكال دون غيرها من الأشكال المتاحة في إيقاعات اللغة العربية ؟.
ويمكن هنا استيعاب ما أسماه الخليل الزحافات والعلل والتي تُخرج الإيقاع من دائرة إلى دائرةٍ أخرى على أنه الصيغ الجغرافية والثقافية المختلفة لإيقاعات القصيدة العربية في تجوالها في جغرافيا ثقافية عربية شاسعة ومتنوعة دون الخروج على محدِّدات الخليل الصَّارمة.
ربما هناك إيقاع للغزو ومفرداته والثأر وحالاته والحبُّ وليونته وعذوبته والصحراء وغضبها وإيقاعها اللاهث المتسارع، كل ذلك ترجمه البدويُّ في صحرائه في غضبه وغزوه ومعاركه وقسوة الطبيعة حوله لإيقاعات تحمل النار التي تتوقَّد في قلبه ولا تنطفيء .
ولنلاحظ الترقيق في الشِّعر والذي نشأ في الحواضر العربية المُترفة ولنقرأ الإيقاعات التي طوَّروها هناك والتي كانت تُعدُّ خروجاً ومروقاً على الغضب البدويِّ الذي ظلَّ سائداً حتى في الحواضر التي نشأت حول الماء والترف والبذخ والتحضُّر .
وربَّما ساعد انتشار علوم القرآن وتلاوته وصياغاته البدوية الجزلة والتي حملت إيقاع الصحراء بصيغة مختلفة على الهيمنة التي فرضها الإيقاع العروضي لبحور الشِّعر العربي على البيئات الجديدة وأضعف من التمازج الذي كان يمكن أن يقود لإيقاعاتٍ جديدة متحوِّلة تأخذ من ثقافات وإيقاعات الجغرافيا الجديدة للمناطق والشعوب واللغات واللهجات والقبائل المنضوية تحت لواء الدولة العربية الصَّاعدة وتمزجها بثقافتها الصحراوية المنتصرة ، ولكن ربَّما كان هذا يتعارض أيضاً مع قُدسيَّة اللغة وشواهدها (والشِّعر أهمها ) التي اشتغلت عليها الثقافة العربية طوال القرون التي نسمِّيها عصور ازدهار التدوين والتأليف والتي ساعدت على تقديس اللغة وتقديس ما استُخدم منها وما أُنجز حتى لو كان من أبلهٍ أو جاهلٍ أو معتوه.
أكرِّر سؤالي الذي بدأتُ به هذه القراءة : لماذا لم يتم تطوير صيغٍ متاحةٍ أخرى غير ما تم استقراؤه من بحور، لماذا لم يتم تطوير بعض الصيغ التالية مثلاً :
1- متفاعلن فَعِلن متفاعلن فَعِلن
2- مفاعلتن فَعِلن مفاعلتن فَعِلن
3- فَعلن مستفعلن فعلن مستفعلن
4- فعلن فعلن فعلن فعولن
5- مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن
6- فعولن فعلن فعولن فعلن
7- متفاعلن مفاعلتن فعولن
أيَّةُ إيقاعاتٍ تحملها التراكيب السابقة ؟ ولماذا لم يتم استنفاذ الطاقة الهندسية الكاملة والكامنة في نموذج الخليل الفَـذِّ وغير الوحيد نظريَّاً والوحيد فعليَّاً وتم تأبيده وتأبيدُ وتصنيم واجترار ما تمَّ فعلاً في الصحراء وأغلق البابُ على ما يمكن أن يتم ؟ هل كَسرُ تلك القدسية سيدخل في باب كَسرِ القداسة عن النسق اللغوي الديني المهيمن والذي هو صيغة أخرى من تأبيد وتقديس اللغة بإيقاعاتها الصحراوية التي ولدت في لحظةٍ تاريخيَّةٍ ما ويمكن للغة الحيَّة أن تولِّد عشرات بل مئات النماذج القابلة للحياة والنمو والتطوُّر في لحظاتٍ تاريخيَّةٍ أخرى !
أسئلةٌ كثيرة ومثيرة وتفتح الباب واسعاً لدراسات مستفيضة حول جغرافية الإيقاع الشِّعري وانثروبولوجيا الإيقاع الشِّعري و سيكولوجية الإيقاع الشِّعري والبنى الفوقية والتحتية للإيقاع الشِّعري .. الخ .
ملاحظة أخيرة لا بدَّ منها متعلِّقة بالإمكانيات الهندسية التي ما زالت كامنة في نموذج الخليل ولم يتم تنميتها واستنفاذها في القرون التي ساد فيها النموذج الخليلي بكل جبروته وسلطته هل يمكن ترحيل اللحظات التاريخية وإعادة توليدها بقوَّة الوعي بعيداً عن الفاعلية العفوية للتاريخ ؟ هل يمكن الحديث الآن عن إمكانيات النموذج الخليلي التي كان يجب على الفاعلية الشعرية العربية تفجيرها قبل قرون بأنها إمكانيات قابلة للحياة بعد أن قطعت الفاعلية الشعرية العربية أشواطاً بعيداً عن هذا النموذج ؟ وهل يمكن الحديث عن إحياء المراحل كمقابل للمصطلح الماركسي حرق المراحل ؟ أم أن هذا عبثٌ يقهقه منه التاريخ ويسخر ؟.
أرجو أن أكون في هذه القراءة قد فتحتُ باباً لقراءات أكثر عمقاً لهذا الموضوع الشائك والملتبس فكرياً وايدلوجياً وثقافياً وتاريخياً وجماليَّاً.
الديمقراطيه الأمريكيه أشبه بحصان طرواده الحريه من الخارج ومليشيات الموت في الداخل... ولا يثق بأمريكا إلا مغفل ولا تمدح أمريكا إلا خادم لها !