تسجيل الدخول تسجيل جديد

تسجيل الدخول

إدارة الموقع
منتديات الشروق أونلاين
إعلانات
منتديات الشروق أونلاين
تغريدات تويتر
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية طارق زينة
طارق زينة
عضو فعال
  • تاريخ التسجيل : 14-09-2017
  • الدولة : سورية
  • المشاركات : 135
  • معدل تقييم المستوى :

    7

  • طارق زينة is on a distinguished road
الصورة الرمزية طارق زينة
طارق زينة
عضو فعال
مقالة في الدين و السياسة
16-10-2018, 12:19 PM
السياسة باختصار هي فن قيادة الدولة و المجتمع، و تنظيم علاقة الحاكم بالمحكوم و تنظيم علاقة الدولة بغيرها من الدول، أما الدين السياسي فهو الدين الذي يضفي على السياسة روحا من الأخلاق الفاضلة المرتبطة بالعقيدة الدينية من محبة و عدل و صدق و نزاهة و إخلاص ...، بعكس السياسة الدينية أو الحكم الثيوقراطي المستند إلى شرعية لاهوتية تعطي الحاكم صفة إلهية مقدسة، و تلغي الدور الإنساني الفاعل في تطور الحياة و المجتمع و التاريخ، مستغلة العاطفة الدينية الجياشة لدى جماهير الشعب لتحقيق مآربها.
هل يمكن أن يُغني الدين عالم السياسة اليوم بما يفتقر إليه من فضائل إنسانية؟
لو تفحصنا السياسة التي تقوم عليها حضارة الغرب اليوم، وتفرض نفسها على العالم سنجد أنها تحمل في طياتها بذور الانحدار و موت الحضارة للأسباب التالية:
- الغرب يعطي نفسه الحق في هدر موارد الطبيعة و إفساد البيئة الحيوية بالنفايات الناتجة عن الصناعات الملوثة التي تجتاح كوكب الأرض.
- لا رحمة في العلاقات الإنسانية للنظام العالمي الحالي القائم على تزاحم الأسواق و يأكل فيه القوي الضعيف.
- لا هدف للحياة الإنسانية يتجاوز النمو الكمي المتسارع، و لا شيء يستعلي على ذلك ليبدع معنى للحياة.
إن إرادة القوة قد أصبحت دين النمو لدى الغرب، حتى ولو قادت هذه القوة و هذا النمو إلى تدمير الطبيعة و البشر. هذا الدين المستتر، تحت اسم النمو، اللاهث و راء الثروة و تكديس الأموال لدى فئة قليلة من البشر، يزيد من قوافل الفقراء لصالح هذه الفئة لا يمكن أن يقوم إلا على حساب الدول التي يقال أنها "نامية" بنهب مواردها المادية و البشرية، و في الحقيقة فليست هناك بلاد نامية متخلفة و بلاد متطورة متقدمة، بل هناك دول قوية مستعمِرة و دول ضعيفة مستعمَرة، دول مريضة من الجوع، و أخرى مريضة بالتخمة. دول فقيرة مخدوعة بهذا النمو الانتحاري في الغرب و قد تم إقناعها بأن نجاتها من الجوع و التخلف تكمن في تقليد الدول المسيطرة و السير على منوالها.
لقد احتاج (تيمورلنك) بضعة أيام لذبح سبعين ألف شخص عند استيلائه على أصفهان، أما في عالمنا اليوم فإن ما تمتلكه بعض الدول من أسلحة نووية، يزيد على مليون قنبلة مثل قنبلة هيروشيما. هذا نمو لاشك فيه، لكنه نمو رعب للجنس البشري و تهديد بالدمار للكوكب الذي استُخلفنا للعيش عليه.
هذا المرض المستعر في الحضارة الغربية تحت اسم الحداثة أو النمو أو التطور يعكس العلاقة بين الوسائل و الغايات، فلم يعد العلم و التقانة يُكيَّفان بما يخدم البيئة و الإنسان، بل بالعكس تماما، أصبح الإنسان و بيئته خاضعين لنمو العلم و التقانة و للمستغلين الذين يقفون وراء ذلك، لقد انتقلت أوروبا بفضل ما نقلته من علوم الصين و الهند و ما طوره المسلمون من علوم الإغريق انتقلت من جهل وحشي إلى وحشية مسلحة.
دين النمو هو دين وسائل لا يُطرح فيه سؤال (لماذا)، بل سؤال (كيف) و حسب، و تستبعد فيه كل مشكلة لا يؤدي حلها إلى نتائج كمية، و تقوم طقوسه المسماة ب(المناهج) على تصور المستقبل كنتيجة للقوى و الأسباب الموجودة في الحاضر، مستقصية أي فعل إبداعي يمكن أن يغير معالم المستقبل، الأمر الذي يناقض حقائق التاريخ، فالتاريخ الإنساني تحركه طفرات إبداعية تدفعه إلى الأمام؛ اختراع العجلة مثلا كان قد سمح بزيادة المسافة المقطوعة في واحدة الزمن و أدى إلى تنشيط حركة التجارة و التعارف بين الأمم في العالم القديم، و ظهور النظرية النسبية لآينشتاين غير من نظرتنا إلى العالم التقليدي الساكن الذي وضع أسسه و قوانينه نيوتن.
ينصِّب الغرب نفسه حكما على جميع الحضارات الأخرى معتبرا أن المسار الذي يسلكه هو المثالي و الوحيد لتحقيق (النمو و التقدم)، و يقرر انطلاقا من هذه النظرة ما إذا كانت حضارة أو علما أو تقانة ما هي بدائية أو نامية أو متخلفة، أي وفق تشبهها بالغرب، تبعا لمدى هذا التقليد زاد أو نقص!
يعيد الفكر الديني المعادلة بين العلم و التقانة من جهة و البيئة و الإنسان من جهة أخرى إلى وضعها الصحيح الذي يجعل العلم و التقانة في خدمة الإنسان و البيئة عندما يوحد بين الإنسان و العالم و يجعل حركتهما و سعيهما معا من خلال التقانة و العلم في سبيل محبة الله و عبادته.
في الحالة التي تخص الإسلام نجد تكاملا مطلقا بين العقيدة و العلم و العمل، فمبدأ التوحيد يقتضي النظر إلى كل شيء في الطبيعة على أنه آية تدل على الحضور الإلهي فتصبح معرفة الطبيعة و العمل لتسخيرها في خدمة الإنسان لونا من ألوان الصلاة في مسجد حدوده تمتد إلى آفاق الكون بكل ما فيه:
"سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" فصلت- (53)
"قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" العنكبوت-(20)
"وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" الجاثية-(13)
إن العالَمَ لا يمكن أن يُرى كاملا إلا في الله، و الله يتجلى في كل شيء، فالعمل بالنسبة للإسلام هو المظهر الخارجي للإيمان الذي ينبع من عقيدة داخلية، إن الإنسان يتجه من خلال الإيمان بأفعاله و أعماله نحو الله، هذه الحركة لا تقتصر على الإنسان بل تتسع لتشمل ما في الكون جميعا بدءا من الجماد و حركة الذرات التي يتكون منها و مكونات هذه الذرات، و حتى أكبر الأجرام السماوية و هي تسبح في أفلاكها، إلى النبات ... كصلاة بذور عباد الشمس التي تتابع بمحبة حركة الشمس منذ بزوغها حتى غروبها، إلى الحيوان الذي يعبِّر عن صلاة الحب هذه بالأصوات التي يصدرها و بمحبته و تعلقه بالحياة و بصغاره، جاء في القرآن الكريم: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ۖ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ" النور- (41)،
وجاء أيضا: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6)- الرحمن
لا بل إن أوقات صلاة المسلم نفسها تنضبط وفقا للحركة الدورانية للأرض أمام الشمس، فمن خلال هذه الحركة تُحدد أوقات الصلوات الخمس، كذلك فإن حركة المسلم في صلاته من وقوف و ركوع و سجود تحاكي الحركة الإهليلجية للأرض في دورانها حول الشمس، فمن خلال هذه الحركة الإهليلجية تقترب الأرض من الشمس حتى تبلغ الحضيض، ذلك عندما تكون على أقرب مسافة من الشمس، ثم تعود و تأخذ بالابتعاد تدريجيا حتى تبلغ ذروة المدار وهو البعد الأقصى للأرض عن الشمس، فالذروة تحاكي القيام في الصلاة و الحضيض يحاكي السجود و ما بينهما من ركوع و حركة يحاكي حركة الأرض بين ذروة و حضيض.
إن رقصة المولوية (الدراويش) تعبر عن هذا التناغم الرائع بين الإنسان و العالم، فهي تحاكي حركة النجوم و الكواكب الأزلية في أفلاكها، يمد الدرويش يده بتكرار ليشير بها إلى الأعلى إلى ملكوت السماوات، ثم يعيدها لتلامس قلبه، وكأنه يقول: كل شيء يحيا في قلب الله.
رؤية العالم بهذه الطريقة تنيط بالعلوم و الفنون و بكل إنسان و بكل مجتمع مشروع بناء عالم إلهي و إنساني لا انفصام فيه بين الفرد و الجماعة، بين الغاية و الوسيلة.
إن الآثار التي خلفتها لنا الحضارة الإسلامية من الجامع الكبير في قرطبة إلى فسيفساء المساجد في تلمسان إلى جامع القرويين في فاس أو جامع ابن طولون في القاهرة ، إلى مساجد اسطنبول العملاقة، و القباب البصلية في مساجد أصفهان الساحرة كجنات الفردوس، أو المئذنة الحلزونية القائمة في سامراء، و من ضريح تيمورلنك إلى قبر تاج محل المتلألئ في الهند، و من قصور الحمراء في غرناطة إلى قصور سوطون في أصفهان كلها توحي بوحدة عقيدة من بناها تلبية لنداء الله الأحد نفسه، معبرةً عن رؤية للعالم تدل على غايته و موضوعاته و عن افصاحاته التشكيلية و وسائله التقنية.
الإسلام لا ينطوي على شمولية متجمدة تحول دون الاستفادة من تجارب الآخرين و التفاعل معها و إغنائها، هذا الفكر الانغلاقي يتعارض مع روح التعاليم القرآنية و حرفيتها، فالرسول لم يُبعث مؤسسا لدين جديد و إنما مكملا و مجددا للديانات الإبراهيمية التي سبقته، و المجتمع الإسلامي كان يقوم دائماً على التنوع، و كان المجال مفتوحا لأبنائه، من مسيحيين و يهود، كما للمسلمين، للتفوق في مجالات الحرب والإدارة والفلسفة والطب والشعر، وتبوء أعلى المناصب في الدولة الإسلامية عبر عصورها المتلاحقة.
لقد ساهم أقباط مصر بتشييد عدد من مصانع السفن، وعملوا على استخدام خبرتهم الكبيرة في هذا المجال، في صناعة الأسطول الإسلامي الأول، كما اشتركوا مع المسلمين في معركتهم البحرية الأولى المعروفة باسم ذات الصواري التي انتهت بانتصار المسلمين وهزيمة الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الثاني.
و من لا يعرف الأخطل: الشاعر المسيحي ذا الحظوة في البلاط الأموي، و حنين بن إسحاق: رائد حركة الترجمة العباسية، و آل بختيشوع: الأسرة المسيحية التي اشتهرت بالطب في العصر العباسي و ظلت الأجيال المتلاحقة منها، تتصل بعلاقات وثيقة مع خلفاء دولة بني العباس الأوائل. يذكر ابن أبي أصيبعة في كتابه: "الإنباء في طبقات الأطباء"، أن حبّ الرشيد لتلك العائلة قد بلغ إلى حد أن واظب على دعوة الله ليهدي طبيبه إلى الإسلام، وأنه كان يبرر ذلك لمن حوله بقوله "إنّ صلاح بدني وقوامه به، وصلاح المسلمين بي، فصلاحهم بصلاحه وبقائه".
في رسائله المشهورة، يصف الجاحظ وضع المسيحيين في عصر الدولة العباسية بالقول: "إن النصارى متكلمين وأطباء ومنجمين وعندهم عقلاء وفلاسفة وحكماء".
في الأندلس أيضا، كانت هناك مشاركة واسعة لليهود والنصارى في أمور الحكم والإدارة، أحد أهم الأمثلة على ذلك يأتينا من حالة الوزير اليهودي شموئيل اللاوي بن يوسف، الذي اشتهر بلقبه ابن النغريلة، فقد كان كاتباً بارعاً وشاعراً مجيداً بالإضافة إلى ملكاته العسكرية ودرايته بعلوم النحو والفلك وخبرته الواسعة بالتلمود وتفاصيل الشريعة اليهودية، حتى صار الحاكم الفعلي لمملكة غرناطة، وأضحى هو القابض على جميع أزمّة الحكم والسلطان والإدارة بها، وظل كذلك حتى توفى في عام 447هـ/1056م .
و في بلاط صلاح الدين الأيوبي كان موسى ابن ميمون الطبيب الأكبر، وقد ولد في عام 529هـ/1135م، في قرطبة، حاضرة الدولة الإسلامية في الأندلس، لعائلة يهودية كبيرة ذائعة الصيت والشهرة في شمال إفريقيا، وكان صلاح الدين حريصاً على استقدام العلماء وأصحاب الفنون والمعارف إليها، ولهذا نجده يعين ابن ميمون كطبيب خاص له، وبعد وفاة صلاح الدين في عام 589هـ/1193م، ظل موسى بن ميمون طبيباً لابنه الملك الأفضل علي.
إن قائمة مساهمة أهل الكتاب في الحضارة الإسلامية تطول و لا مجال للتوسع بها هنا ...
هل من الممكن أن يكون للدين أثر على السياسة من دون تعريض مدنية دولة ما للخطر، ومن دون أن تفقد السياسة فاعليتها، و من دون أن يحيد التعصب بالدين عن مجراه، هل من الممكن أن تتأسس دينية سياسية؟ كيف يمكن أن نقول للناس أن الله جعلكم شعوبا و قبائل لتعارفوا، و أنه لو شاء لجعلكم أمة واحدة، و لكن ليبلوكم في ما آتاكم، و أنه لا فضل لعربي على أعجمي و لا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، أو أن الله محبة وسلام و ذلك عن طريق السياسة، دون المساس بمدنية الدولة؟
من المؤكد أن تعبير الدين السياسي قد نسيناه في العالم العربي، بعد أن قامت عليه الحضارة الإسلامية، وحين نسمعه اليوم تنهض داخلنا مخاوف وشكوك، فيتبادر إلى أذهاننا ما يقوم به كثيرون من إقحام للدين في كل شيء، وسعي بعض الجماعات إلى فرض نظام حكم ثيوقراطي، يسيطر عليه رجال دين يحكمون باسم الله ويفرضون عقائدهم على الآخرين بالقوة، خلافا لما توصي به الشرائع و الأديان كافة.
لكل دين موقف وتعاليم حميدة تشمل الشؤون الاجتماعية والحياة العامة، و هي تتفق جميعا على ضرورة إحلال السلام و المسرة و العدل بين بني الإنسان إضافة إلى التعاليم المرتبطة بالعقائد الإيمانيّة و الشعائر التي تختلف من دين إلى آخر.
في المنظور القرآني، ليس الإنسان خليفة الله على الأرض و مسؤول عن الطبيعة و توازناتها فحسب ، لكن عقيدته هي مبدأ عمله و قوانين مجتمعه، فلا الاقتصاد و لا السياسة و لا العلوم و الفنون تستطيع الانفصال عن العقيدة التي تعين لها غاياتها الإلهية و الإنسانية؛ فالحياة بجميع أبعادها تجد في الله وحدتها، ف "هو الأول و الآخر و الظاهر و الباطن ..." الحديد-3.
يفضّل البعض حصر الدين في دائرة العبادة، وعدم إقحامه في مسائل الحياة العامة؛ ولكن هذا الموقف غير قابل للتحقيق، فالواقع يقتضي الاعتراف، بأن الأديان عامة مبنيّة على رؤية شاملة للوجود، تتضمّن فهمًا خاصًّا لمعنى الحياة ومسار التاريخ. كما أنّ الأديان عامة ترفض حالة الانفصام لدى المؤمن، بين إيمانه وعباداته من جهة، وحياته الشخصية والاجتماعية من جهة أخرى، بل تسعى الأديان إلى أن تكون الحياة الشخصية والاجتماعية منسجمةً ومستنيرة بالتعاليم والمبادئ الإيمانية.
الدين السياسي هو هذا الخطاب الديني، الذي يقدّم رؤية الدين، والمنظومة القيميّة المرتبطة به لتنعكس ممارسة من قبل المؤمنين على الشؤون العامة والسياسية، ممثلة بقيم مثل النزاهة والخدمة العامة والشجاعة والتضامن والتعاون وروح المبادرة والحوار والعدل والسلام والتنمية واحترام الحياة والعدالة الاجتماعية و الحفاظ على البيئة و محاربة الفساد ... وغيرها. ما يُميّز هذا الخطاب أنّه يتوجّه إلى الأفراد على تنوّعهم، وليس إلى الجماعة كجسم واحد، ويهدف إلى تعزيز الموزاييك الاجتماعي بأطيافه المختلفة من خلال التنافس الشريف بين الطوائف في سبيل المصلحة العامة بما يسمح بحرية العقيدة للجميع، بدلا من بلورة هوية دينيّة خاصة للجماعة أو الطائفة على حساب الوطن.
يقف الدين السياسي عند عتبة الضمير الإنساني، منطلقا من مبدأ المحاسبة الذاتية التي يعبر عنها القرآن بالآية الكريمة: " بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ (15)"-القيامة، و يقوم بدوره بتنشئة وعي الفرد وضميره؛ بهذا الشكل نفهم تعدّد واختلاف خيارات الأفراد، المنتمين إلى جماعة دينية واحدة، على أن الجماعة الدينية لا تتحمل مسؤولية خيارات الأفراد المنتمين إليها، فالمسؤولية الاجتماعية والسياسية تبقى مسؤولية شخصية، بالمقابل يقوم خطاب الدين السياسي على احترام التركيبة الاجتماعية بكافة أطيافها، فهي المساحة المشتركة التي لا يحق لأحد الاستئثار بها، وليس لأحد سلطة تخوِّله فرض نظام معيّن فيها، أو إضفاء هويّة خاصة عليها، بل بالعكس، تشكل التركيبة الاجتماعية بأطيافها و أعراقها المختلفة فضاء الحرية الذي يتفاعل فيه المواطنون على اختلاف انتماءاتهم الدينية وقناعاتهم السياسية مع بعضهم؛ لكي ينتج من هذا التواصل والتفاعل تجديد المصلحة العامة المشتركة وتطويرها باستمرار. يستوحي خطاب الدين السياسي شرعيته من حكمة الله تعالى في خلق الإنسان حرا سيدا على بقية المخلوقات، و تسخيره تعالى ما في السموات و الأرض لأمره، ليختار بين الخير و الشر و ليكون مسؤولا أمام الله تعالى بالنتيجة على اختياره: "إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا" مريم-93... " وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ!"- الصافات-24.
يتناقض هذا المفهوم للدين السياسي، مع “السياسة الدينية” التي تلغي حرية الفرد ومسؤوليته، وتضعه أمام منظومة دينية للسياسة والحياة العامة، يُصبح دور المؤمن فيها تنفيذا آليا لأحكام شرعيّة جامدة، وفق قرارات السلطة المتحكمة بهذه الأحكام. فالدين السياسي يعبّر عن رؤية تشمل جميع مناحي الحياة بدقائقها و كلياتها، مسقطة حرمة الفرد وضميره، وحرمة المجال العام وطبيعته المستقلة. كما تُقحِم الدين من خلال الفتاوى المتطرفة التي تصدر عن كهنة السلاطين في مجالات تعرّض الدين لتحمّل عواقب التنافس والفشل وحتى الظلم، كما حصل في الحروب الصليبية في القرون الوسطى، أو ما حصل من اغتيال للعقل بتكفير رواد الحضارة الإسلامية من أمثال ابن رشد و ابن سينا و الفارابي ... أو فرقة المعتزلة التي اتخذت العقل و العدل أساسا لقيام المجتمع.
لا ينبغي للدين السياسي أن يتحول للاشتغال بالسياسة، بل هو ضرورة أخلاقية و إنسانية، لتجاوز كثير من مظاهر اللامعقولية التي تعاني منها الأمم و الشعوب، و للوقوف في وجه العديد من المذاهب والإيديولوجيات التي تحرض على العنف والكراهية، وعودة الشعوذة والسحر و قراءة الطالع و الأبراج حتى في الدول المتقدمة، و الضياع الذي تعيشه ليس العامة و حسب، بل شخصيّات غربية كبيرة ونافذة تسافر إلى إفريقيا السوداء لدراسة السحر والانتفاع من "فضائله". لقد أصبح العالم على حافة الجنون و أصبح بحاجة للعودة إلى المبادئ الأولى الضرورية لقيام الحضارات و هي حرية الفكر والعقل و التمسك بالفضائل والقانون و العدل، والكثير من المفاهيم التي قامت عليها الأديان متصدية لجميع أشكال الشعوذة، ولكلّ ما يتنافى مع العقل، ومع المبادئ التي تدعو إلى التسامح، والتضامن بين الشعوب؟ إن حرية التفكير، أو حرية الضمير والمعتقد والكلام، لا تضرّ أبداً بالأمن العام للدولة بل هي شرط أساسي لتحقيق الأمان ولشيوع الاستقامة والنـزعة الأخلاقية في المجتمع.
لا يمكن حصر الدين في ممارسة الشعائر والطقوس، وإنما يكمن جوهر الدين في محبة الآخرين، الدين هو المعاملة، وحسن الطوية، ومساعدة الفقير، ومحبة الآخر ولو لم يكن ينتمي إلى دينك أو طائفتك.
هذا الفهم الواسع للدين، والذي هو أخلاقي بالدرجة الأولى، غريب جدا على عقلية الذين يسيّسون الدين و يختزلونه في جملة من الطقوس والشعائر و الدعوة إلى اجتياح الآخرين و سبيهم وسلب ممتلكاتهم، و هم عاجزون في الوقت نفسه عن إنتاج ولو مطوى أو دراجة عادية لاستعمالها في هذا الغزو الافتراضي، مما يدل على ضيق أفقهم و لا عقلانيتهم.
لا يوجد دين يرفض المبدأ القائل بمحبة الآخرين أو مساعدتهم ومعاملتهم بالحسنى، و هذا هو روح الدين السياسي.

مراجع:
- روجية غارودي: وعود الإسلام، ترجمة د. ذوقان قرقوط، دار الرقي-بيروت، مكتبة مدبولي-القاهرة، الطبعة الثانية 1985.
- محمد يسري، صحيفة الكترونية: رصيف22، كيف شارك اليهود و المسيحيون في تشييد الحضارة الإنسانية، 23/06/2017.
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية منير7
منير7
مشرف شرفي
  • تاريخ التسجيل : 01-01-2013
  • الدولة : الجزائر ، بسكرة
  • العمر : 29
  • المشاركات : 19,049
  • معدل تقييم المستوى :

    31

  • منير7 will become famous soon enough
الصورة الرمزية منير7
منير7
مشرف شرفي
رد: مقالة في الدين و السياسة
17-10-2018, 10:02 AM
صراحة لم أقرأ المقالة كلها، ولكن بمجرد ما رأيت أن الفيلسوف والكاتب الفرنسي المسلم روجيه غارودي ضمن المراجع، أدركت أن المقالة فيها تلك اللفتة من العدالة الاجتماعية التي لطالما تميز بها والتي كانت أحد الأسباب الرئيسية لإسلامه

شكرا لك على المقالة




  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية طارق زينة
طارق زينة
عضو فعال
  • تاريخ التسجيل : 14-09-2017
  • الدولة : سورية
  • المشاركات : 135
  • معدل تقييم المستوى :

    7

  • طارق زينة is on a distinguished road
الصورة الرمزية طارق زينة
طارق زينة
عضو فعال
رد: مقالة في الدين و السياسة
17-10-2018, 10:51 AM
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة منير7 مشاهدة المشاركة
صراحة لم أقرأ المقالة كلها، ولكن بمجرد ما رأيت أن الفيلسوف والكاتب الفرنسي المسلم روجيه غارودي ضمن المراجع، أدركت أن المقالة فيها تلك اللفتة من العدالة الاجتماعية التي لطالما تميز بها والتي كانت أحد الأسباب الرئيسية لإسلامه

شكرا لك على المقالة
شكرا على مروروك و ملاحظتك اللافتة أستاذ منير، حقا لقد كان روجيه أو (رجاء) كما سمّى نفسه بعد إسلامه، قامة شامخة بين فلاسفة القرن العشرين، و قد قدم نفسه عندما أحيل إلى المحكمة بتهمة (معاداة السامية) بالكلمات التالية:
قال جارودي في أول أيام المحاكمة متوجها لقاضيه وللجمهور الحاضر في قاعة المحكمة: “إنني أستاذ جامعي متقاعد، وكاتب ألفت 54 كتابا وترُجمت كتبي إلى 29 لغة وقدمت عني 22 أطروحة جامعية، وقد قاومت النازية في أثناء الاحتلال، ونفيت طيلة 33 شهرا في الجزائر، وكنت عضوا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، لكنني فصلت من الحزب عام 1970؛ لأنني قلت إن الاتحاد السوفيتي ليس بلدا اشتراكيا، كما عملت 14عاما كنائب في الجمعية الوطنية (البرلمان) ثم اعتنقت الإسلام”.
لخص جارودي في هذه الأسطر رحلة حوالي ثمانين عاما من البحث الفكري والعمل النضالي وفي قضية “المحاكمة بالذات” والتي انتهت بالقضاء على الصورة الإعلامية لجارودي واتهامه بمعاداة السامية.
وعند سؤاله عن أسباب نجاح الإسلام، اعتبر جارودي أن ذلك يعود إلى ثلاثة عوامل هي: التجديد الروحي والثورة الاجتماعية والتغيير الثقافي. لقد و جد (رجاء) سلامه الروحي في الإسلام بعد بحث طويل في جميع الأديان و الفلسفات الوضعية. فلروحه الرحمة و السلام.
مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع


الساعة الآن 05:06 PM.
Powered by vBulletin
قوانين المنتدى