الفتاة المسلمة ومسئولية العمران
12-11-2015, 11:28 AM
الفتاة المسلمة ومسئولية العمران

الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:



لا شك بأن الفتاة المسلمة مكلفة كأخيها الرجل بعمارة الأرض على الوجه الذي أمر به الخالق، ورضيه من خلقه المكلفين: ذكورا وإناثا، وقد صح في الحديث:" إنما النساء شقائق الرجال".
في هذا السياق: يأتي هذا المقال لإحدى الكاتبات الفاضلة توجه من خلال رسالة حضارية هامة لبنات جنسها، وهو يدل على:" سعة أفقها، وبعدد نظرها"، فقد ربط بين:" الأصالة والمعاصرة" في تناغم منطقي بين:" النقل الصحيح والعقل الصريح"، فجزى الله خيرا راقمته.

بين الاستخلاف والعمران:
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، بهذا النص القرآني المحكم يحدد الله عز وجل لنا: ما يمكن أن نصطلح على تسميته وفقا لعلوم الإدارة الحديثة بـ:(المسمى الوظيفي للإنسان)، فالوظيفة التي أراد الله للإنسان أن يعمل بها في هذه الأرض هي: الاستخلاف.
(هذه المهمة التي كلف الله بها الإنسان، وجعلها غاية لوجوده: تنبني علي قاعدة من خلافة الإنسان لله، وهو أمر يقتضي من الخليفة ترقية فعله اقتداء بمستخلفه، واقترابا منه ليحقق معني الاستخلاف علي الوجه الأفضل والأفعل‏,‏ ولذلك فإن الإنسان الخليفة يحصر همه الحضاري، وجهده واجتهاده في الاقتراب من الله مستخلفه‏,‏ وذلك بالعمل الدائب، والكدح المستديم: لترقية ذاته وتنميتها، وتأسيس علاقات تحفز دافعية هذه الحضارة وفاعليتها‏).‏
وفي وصف هذه الوظيفة ومسئولياتها والأدوار المنوطة بشاغلها من البشر يحدثنا ربنا عز وجل قائلا: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61].
فالمسلم يحيا في هذه الدنيا باعتباره مستخلفا من الله في الأرض، محملًا بالأمانة، والتي من تبعاتها: أن يعمر هذه الأرض، ويقيم فيها ما شاء الله من ألوان الحضارة والرقي، وهو ما يطلق عليه في الإسلام:" عمارة الأرض"، بكل ما تحمله كلمة "العمارة" من معانٍ، ويدخل فيها: الزراعة والغرس والبناء والصناعات المختلفة، التي اعتبر فقهاء الإسلام تعلمها وإتقانها: فرض كفاية على المسلمين، على معنى أنهم يُسألون عنها مسئولية تضامنية.
فإذا وجد في بلد من يكفي لتغطية حاجاته، وسد ثغراته، بحيث يكتفي المجتمع المسلم بأبنائه: اكتفاء ذاتيًّا، لا يجعله عالة على غيره؛ فقد سلم المجتمع كله من الإثم والحرج، وإلا أثم الجميع، كلٌّ على قدر ما أوتي من قدرة وسلطة ...
وأكتفي هنا بما ذكره الإمام:" الراغب الأصفهاني" في كتابه القيم:(الذريعة إلى مكارم الشريعة)؛ حيث اعتبر "العمارة" أحد المقاصد الأساسية من خلق الله للإنسان كالعبادة والخلافة، يقول في ذلك:
" إن كل نوع أوجده الله تعالى في هذا العالم، أو هدى بعض الخلق إلى إيجاده وصنعه، فإنه أوجد لفعل يختص به، ولولاه لما وجد، وله غرض لأجله خص بما خص به؛ فالبعير إنما خص ليحملنا وأثقالنا إلى بلد لم نكن بالغيه إلا بشق الأنفس، والفرس ليكون لنا جناحًا نطير به، والمنشار والمنحت لنصلح بهما الباب والسرير ونحوهما، والباب لنحرز به البيت، والفعل المختص بالإنسان ثلاثة أشياء:
1- عمارة الأرض المذكورة في قوله تعالى: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]، وذلك تحصيل ما به تزجية المعاش لنفسه ولغيره.
2- وعبادته المذكورة في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وذلك هو: الامتثال للباري عز وجل في أوامره ونواهيه.
3- وخلافته المذكورة في قوله تعالى: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129]، وغيرها من الآيات).
ومن هنا: يكون كل عمل لتنمية المجتمع، وزيادة إنتاجه عبادة وقربة إلى الله، فمن زرع زرعًا، أو غرس غرسًا؛ فله بكل ما يؤكل منه صدقة، ما ظل الناس ينتفعون به ...
بل إن الإتقان أو الإحسان للعمل: ليعد في نظر الإسلام فريضة مكتوبة على المسلم كما كتب عليه الصلاة والصيام، ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء)) [رواه مسلم].
يقول الدكتور:" عماد الدين خليل":{ إننا بإزاء حركة حضارية شاملة تربط ـ وهي تطلب من الإنسان أن ينظر في السموات والأرض ـ بين مسألة الإيمان ومسألة الإبداع، بين التلقي من الله، والتوغل قُدمًا في مسالك الطبيعة وغوامضها، بين تحقيق مستوى روحي عال للإنسان على الأرض، وبين تسخير قوانين الكيمياء والفيزياء والرياضيات: لتحقيق نفس الدرجة من التقدم والعلو الحضاري على المستوى المادي (المدني)، ولم يفصل القرآن يومًا بين هذا وذاك، إنه يقف دائمًا موقفا شموليًّا مترابطًا، ويرفع الفصل والتقطيع}. [التفسير الإسلامي للتاريخ، د.عماد الدين خليل، ص(214)].
وإن أمة لديها مثل هذه التعاليم: لا ترضى أن تعيش في دائرة التخلف، فترى غيرها يتقدم، وهي في ذيل القافلة، وكان ينبغي أن تكون في مأخذ الزمام، وقد بوأها الله مكانة الشهادة على الأمم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }.[البقرة: 143]).

فليغرسها ومنهج الحياة:
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها؛ فليغرسها)) [رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد]: خير دليل على أهمية العمران، وحتميته وضرورته الحضارية لكل مسلم حتى في أحلك الظروف والملابسات والقيامة على وشك أن تقوم.
إن المفهوم الأوسع لهذا الحديث: لا يقتصر على أهمية العمل وعدم التفرقة بين طريق الدنيا وطريق الآخرة فحسب، وإنما يتسع المفهوم هنا ليشمل العمران بكافة وسائله وأسبابه، وجعله طريقا هاما للفوز بالجنة والنجاة من النار.
فكأن النبي صلى الله عليه وسلم حين يخبرنا، وهو: الذي لا ينطق عن الهوى بل هو وحي يوحى: يريد أن يلف انتباهنا إلى أمر هام لن يتضح إلا بتصور المشهد كاملا، وكأنه رأي العين....
فصاحب الفسيلة هذا الذي يريد زراعتها هو: في الغالب فلاح يريد التكسب والرزق من تلك الفسيلة، ولو بعد حين، فهو يؤدي وظيفته ودوره في عمران الأرض عبر وظيفته، وهي الفلاحة والزراعة، ثم يفاجأ هذا المزارع بأشراط الساعة تبدأ حوله في الظهور، وتتشقق السماء، وتهتز الأرض والجبال، وتفور البحار والأنهار وغيرها من العلامات المذهلات، فيسترجع في ذهنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:(فليغرسها)، فيغرس الفسيلة، ثم يناله ما سينال الجميع من هلاك.
إن الملمح الأهم هنا: أن جهدك في عمران الأرض: قد يكون هو طريقك للجنة، وليس فقط: عباداتك وقرباتك إلى الله من صلاة وصيام وغيرها...
ولا شك أن صاحب نية العمران، والمتفهم لوظيفة الاستخلاف هو: محقق ولا شك للحد المطلوب من عبادة الله تعالى، والبعد عن كبائره ومعاصيه، فلا يعيش لتلك الوظيفة حقا إلا: من صلحت سريرته وعلانيته أيضا.

مقاومةالتخريب:
ومن مستلزمات مسئولية العمران هو: مقاومة التخريب والمخربين على المستوى العمران المادي أو العمران البشري، يقول تعالى:{ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (المائدة 33 ).
ويقول عز وجل: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ }.(البقرة 204،205).
فالمفسدون والمخربون في الأرض: حق على الجميع أن يقاومهم كل وفق استطاعته وقدرته، فقد تكون المقاومة: بنبذ المخربين ودعوة الناس لاعتزالهم، وعدم السماع إليهم، ثم إيجاد البدائل القوية لمواجهة تلك الأفكار الهدامة: كما في حادثة المسجد الضرار الذي أنشأه المنافقون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى واصفا حال تلك الثلة من المنافقين وكيفية التعامل الصحيح معهم: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 107، 108].
فالنهي واضح للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه من بعده:{لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا }، ثم الوصف الدقيق للطريق البديل، ألا وهو: إيجاد المسجد المؤسس على تقوى الله، ويحوي بين جدرانه:" رجالا متقين صالحين": قائمين بمهمة الاستخلاف عبر تطهير أنفسهم ومجتمعهم من المخربين:{ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ }.
إن العمران البشري والمادي: مطلب شرعي جعله الله تعالى سرًا لتميز البشر بصفة عامة والمسلمين بصفة خاصة، ومقاومة الأسباب والكيانات والأفكار التي تحاول هدم العمران، لهو مطلب شرعي أيضا حثنا عليه شرعنا الحنيف، فطوبى لمعمري الأرض من بني الإنسان، وهنيئا لمقاومي التخريب والمخربين، فالله عز وجل لا يضيع أجر من أحسن عملا.

منقول بتصرف، جزى الله خيرا كاتبته.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.