التأويل الحداثي للقرآن الكريم
22-09-2018, 10:34 AM
التأويل الحداثي للقرآن الكريم
خالد برادة


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

حاول كثيرٌ مِن المثقَّفين العرب - المتأثِّرين بالمناهج الغربية في تأويل النصوص - إسقاطَ النظرياتالمستمدَّة من التأويلية الهرمنيوطيقية على قراءةِ النص الشرعيِّ، وهذا ما عُرف بالقراءات المعاصِرةللقرآن الكريم، التي ترمي إلى استخدام مناهج حديثة في التعامل مع الوحي القرآني، كما لو أنه نصٌّ عادي!!؟، وهو في الحقيقة - التي لا مِرْيَة فيها - نصٌّ متعالٍ، غير متطامن أمام مَن أراد التعسُّف في قراءة آياته، ومهما وظَّفوا من مناهجَ متعددة ليحاولوا مِن خلالها تقديمَ تفسيرٍ تأويلي لآيات القرآن الكريم، فإن ذلك لا يُجْديهم نفعًا، ومِن بين تلك المناهج التي يحاولون التوسل بها في التأويل: توظيفهم للمنهج التاريخي، والبنيوي، والتفكيكي؛ وغيرها.

ولقد اشتطَّ مَن لم يُفرِّق بين النص البشريِّ والنص القرآني، جاعلًا إياهما في درجة واحدة من حيث القوانين[1]، رابطًا القرآنَ الكريم بالزمان والمكان والتاريخ، وهذا ما عناه أحدُ هؤلاء، وهو:( نصر حامد أبو زيد)، لَما قال بأن:"النصوص الدينية ليست مفارقةً لبِنْية الثقافة التي تشكَّلت في إطارها...، وأن المصدر الإلهيَّ لا يلغي كونَها نصوصًا لُغَوية بكل ما تعنيه اللغة من ارتباط بالزمان والمكان التاريخيِّ والاجتماعي"[2]!!؟.
وهذا ما أفضى به إلى القول بتاريخيةالقرآن - وهي دعوى زائفة - واعتباره مجرد ظاهرة.

لقد تعسَّف كثيرٌ مِن ذوي النزعة الحداثية في تعاملهم مع القرآن الكريم - ونعجب لجرأتهم على قداسته - الذي لم يتطامن أمامَهم؛ لأنه ليس كسائر النصوص، فكانوا متجاهلينلآليات الفهم الحصيف للقرآن الكريم، وقد غاب عنهم معرفةُ خطابه، والتسليم بعلوِّه على لغة البشر.

ولا بدَّ للعبد أن يصفو قلبه ويتطهَّر ليستعد لتلقِّي الفهم عن صاحب الخطاب، الذي هو الله جل في علاه؛ ذلك لأن محل فهم القرآن هو القلب، وهذا ما أكده الشيخ: أبو الحسن الحرالي638 هـ) لَمَّا ذكر هذه الحقيقةَ الناصعة عن قوانين فهم القرآن؛ حيث إنها كامنة:"في قلوب عباد اختصهم الله بالفهم، وآثَرَهم بإحاطة مِن العلم، تأمن بهم القرون، وتنجلي بهم ظُلَم الفتون، لا تخلو الأرض من قائمٍ لله بحُجة"[3].

ومن هنا، فإن المنطق السديد لفهم الكتاب المجيد هو: الولوج من باب القلبالسليم، ودراسة هذا الكتاب بمناهجَ نابعةٍ مِن القرآن الكريم ذاته، برؤيةمقاصدية، باستحضارِ نسقيَّتِه التي تجعله كالجملة الواحدة، كما يستدعي فهمه مراعاة سياقه، والنظر في مراتب خطابه إلى المتلقين، مع مراعاةمقاصده، وليس باستخدام مناهج ينزع بعضُهم إلى إسقاطها على كتاب يمتاز بعلو من الخطاب، وهو:"يعلو على كل القوانين علوَّكلام الله على خلقه"[4].

ولقد ألفينا من بين مَن تعاملوا مع القرآن الكريم تعامُلَهم مع النص العادي: الدكتور:( يوسف الصديقالذي ينادي بدراسة القرآن الكريم على أسسفلسفية، وفي ضوء العلومالحديثة؛ فهوينزعقداسةَ القرآن بعدم إقراره بقدسيته، وعدم التسليم بأنه وحي، ويعمد إلى اعتبار القرآن مجرد فكر، وقد نادى بضرورة تحريره من التقليد، ومن سلطة المفسِّرين الأوائل، الذين يحمل عليهم بأنهم كانوا مُوالين للسلاطين[5]؛ ولم يوارِ هذا التنويريُّ أو يدارِ لَمَّا أعلن في كتابه:(الآخر والآخرون في القرآن)[6] عن الخلفية التي ينطلق منها، وهي: الانتصار للعقل، كما أنه يُعلِي من القول بتاريخية القرآن، ضاربًا صفحًا عن تفاسير الأوائل للقرآن الكريم.

وممن يرفض صنيع القدماء في فهم القرآن الكريم:( أمين الخولي)، الذي يصف القرآنَ الكريم بالنص الأدبيِّ، داعيًا إلى فهمه في ضوء التفسير النفسي؛ لأن النص الأدبي - حسب تعبيره - قائمٌ على دعائمَ نفسيةٍ؛ ولذا طالب بالتفسير النفسي حتى يتم فهمه[7].

إن الحداثيِّين وأضرابَهم يحاولون قراءة القرآن الكريم بتأويلاتهم المتعسفة، متوسِّلين في ذلك بتأويلات مستمدَّة من الهرمنيوطيقا، أو البنيوية، أو التفكيكية، عامدين إلى إسقاطها على القرآن الكريم، وإخضاعه لِما أَمْلَتْه عليهم بعضُ القواعد، وهيهات أن تُسعِفهم في فهم الكتاب الخالد، فسرعان ما قُوِّضت تأويلاتهم، وهُزمت تُرَّهاتهم؛ ومَن ولَجَ إلى القرآن الكريم من غير بابه، ضلَّ الطريق القاصد إلى فهم خطابه.

هوامش:
[1] نذكر من بينها: قوانين التكوين والبناء، وإنتاج الدلالة.
[2] النص، السلطة، الحقيقة: الفكر الديني بين إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة؛ د. نصر حامد أبو زيد، ص 98.
[3] مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزل؛ أبو الحسن الحرالي، ضمن تراث أبي الحسن الحرالي المراكشي في التفسير، تحقيق: محمادي بن عبدالسلام الخياطي، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط 1، 1418هـ/ 1997م ص 27.
[4] المرجع السابق، ص 28.
[5] هل قرأنا القرآن، أم على قلوب أقفالها؟ د. يوسف الصديق، ترجمة: منذر ساسي، دار التنوير، تونس، ط 1.
[6] من إصدارات دار التنوير، تونس، ط 1.
[7] مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب؛ أمين الخولي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 256، 257 (بتصرف يسير).