الوحدة مع الشام خطوة على الطريق
22-09-2016, 05:58 AM




كانت الخطوة الأولى لقطز هي الاهتمام بالاستقرار الداخلي للبلاد، وكانت خطوته الثانية هي استقدام الفارّين من المماليك البحرية، والإفادة من طاقاتهم وإمكانياتهم، وتقوية الجيش بهم.

أما الخطوة الثالثة له فكانت -أيضًا- خطوة رائعة! بل في غاية الروعة!

الوحدة مع الشام:
بعد الاستقرار «الداخلي» في مصر حرص قطز على الاستقرار «الخارجي» مع جيران مصر من المسلمين.

فالعلاقات كانت متوترة جدًّا جدًّا مع إمارات الشام الأيوبية، وقد فكروا غير مرَّة في غزو مصر، ونقضوا الحلف الذي كان بين مصر والشام أيام الصالح أيوب، واستقطبوا المماليك البحرية عندهم عندما فروا من مصر، وهم يتربصون بمصر الدوائر في كل يوم، بل إن الناصر يوسف الأيوبي أمير دمشق وحلب كان قد طلب من التتار بعد سقوط بغداد أن يعاونوه في غزو مصر!

مع كل هذه الخلفيات المعقدة للعلاقة بين مصر والإمارات الأيوبية فإن قطز سعى لإذابة الخلافات التي بينه وبين أمراء الشام، وكان يسعى إلى الوحدة مع الشام، أو على الأقل تحييد أمراء الشام، فيُخَلُّوا بينه وبين التتار دون أن يطعنوه في ظهره كما اعتادوا أن يفعلوا.

ووجد قطز أن رأس هؤلاء والمقَدَّم عليهم هو الناصر يوسف الأيوبي صاحب إمارتي حلب ودمشق، وهو أكبرهم، ويحكم أعظم مدينتين في الشام، وكان قطز يعلم تمام العلم كراهية الناصر يوسف له، ويعلم بأنه طلب من التتار أن يساعدوه على حربه.. ومع كل هذا فقد أرسل له قطز رسالة تفيض رقة وعذوبة، وكأنه يخاطب أقرب المقربين إليه... (وأورد هذه الرسالة المقريزي في السلوك )..

وكانت هذه الرسالة قبل قدوم التتار إلى حلب، واحتمال التعاون بين التتار والناصر يوسف قائم، فأراد قطز أن يوحد بينه وبين الناصر يوسف -على ما به من عيوب وخطايا- بدلًا من أن يضطر قطز إلى مواجهة جيش الشام من المسلمين، ولكن قطز كان يعلم أن أعظم أهداف الناصر هو البقاء على كرسي الحكم، ولن يضحي به مهما كانت الظروف، لذلك فإن قطز أرسل له رسالة عجيبة فعلًا!

الناصر يوسف ملك مصر!
لقد أرسل له يعرض عليه الوحدة، على أن يكون الناصر يوسف الأيوبي هو ملك مصر والشام! لقد عرض عليه أن يكون هو -أي قطز- تابعًا للناصر يوسف، مع أن موقف قطز العسكري الآن أفضل بكثير من موقف الناصر يوسف، مع أن مصر دولة أقوى بكثير من مدينتي حلب ودمشق!

لقد قال له قطز، في رسالته: إنه لا ينازع الملك الناصر في الملك ولا يقاومه، وأنه -أي قطز- نائب عن الناصر في ديار مصر، وأن الناصر متى جاء إلى مصر أجلسه فورًا على كرسي الحكم فيها!

هذه أمور لا يتخيلها إنسان بموازين السياسة المادية، ولا يمكن أن تُفهم إلا إذا أدخلت في حساباتك البعد الإيماني الأخلاقي -لا السياسي فقط- عند قطز.

ثم إن قطز علم أن الناصر يوسف قد يتشكك في أمر الوحدة الكاملة، أو في أمر القدوم إلى مصر، فعرض عليه أن يقوم (أي: قطز) بإمداده بالمساعدة على حرب التتار، فتتحقق المصلحة المشتركة في هزيمة التتار، وإن لم تتحقق الوحدة الكاملة بين مصر والشام.

قال قطز في أدب جمّ، وخلق رفيع:

«وإن اخترتَني خَدَمْتُكَ، وإن اخترتَ قَدِمْتُ وَمَنْ معي من العَسْكر نجدةً لك على القادم عليك، فإن كنت لا تَأْمَن حُضوري سَيَّرْتُ لك العساكر صُحْبَةَ من تختاره!»[1].

فهو يعطي الناصر يوسف صلاحيات اختيار قائد الجيش المصري الذي يذهب لنجدته في الشام! لكن الناصر يوسف لم يستجب لهذه النداءات النبيلة من قطز، وآثر التفرق على الوحدة، فماذا كانت النتيجة؟!

لقد مرت الأيام، وسقطت حلب، وهُدّدت دمشق، وفرّ الناصر فراره المخزي إلى فلسطين، وعند فلسطين حدث الذي كان لا بُدَّ أن يحدث منذ زمن.. لقد خرج جيش الناصر عن طوعه، وآثر الانضمام إلى جيش مصر حيث القائد المحنك المسلم المخلص «قطز»، وحيث القضية الواضحة والهدف الثابت، وحيث الجهاد في سبيل الله، لا في سبيل الكرسيّ.

وعلى قدر نجاح القائد الفذ قطز فإن الناصر يوسف قد فشل في كل امتحاناته.. لقد فشل أمام التتار، وفشل أمام قطز، وفشل أمام جيشه، وفشل أمام شعبه، والآن اتجه جيشه إلى مصر، بينما فرّ هو وحيدًا إلى حصن الكرك بالأردن، ثم لم يطمئن هناك فترك الحصن، واتجه إلى الصحراء عند بعض الأعراب!

مصير الناصر يوسف:
عندما وصل الناصر يوسف إلى المكان الذي اختفى فيه في الصحراء في منطقة تسمى «الجفر» في جنوب الأردن إذا بالمجموعة التترية التي أرسلها هولاكو للقبض عليه تلقاه في ذلك المكان، فأمسكوا به ذليلًا هو وابنه (العزيز!)، واقتادوهما إلى هولاكو، ولكن هولاكو كان قد غادر حلب إلى تبريز في فارس كما وضحنا سابقًا، فتوجهوا به إلى هولاكو في تبريز، وهناك بعد أن استقبل هولاكو الناصر فكر في أن يبقيه على قيد الحياة ليستعمله في قيادة الشام بعد ذلك لطول خبرته، ولخسة نفسه، فلم يقتله بل رده مع جنده إلى الشام، وفي الطريق التقى الناصر يوسف ببعض التتار الفارين من الشام بعد هزيمة عين جالوت كما سيأتي فرأوا الناصر فقتلوه[2]!

لقد كانت هذه نهايات ذليلة جدًّا لأمراء كان من الممكن أن يرتفعوا فوق الأعناق، ويُخَلدوا في التاريخ، لو رفعوا راية الجهاد بصدق، ولكنهم آثروا الذل على العزة، وفضلوا الحياة التعيسة الضنك على الموت الشريف في سبيل الله.

قوة الوحدة:
وهكذا ازداد قطز قوَّة بانضمام جيش الناصر الشامي له، وبقتل الناصر الذي كان يمثل حجر عثرة في طريق المسلمين.

ولم يكتف قطز بهذه الجهود الدبلوماسية مع الناصر بل راسل بقية أمراء الشام، فاستجاب له الأمير «المنصور» صاحب حماة، وجاء من حماة ومعه بعض جيشه للالتحاق بجيش قطز في مصر.

أما المغيث عمر صاحب الكرك بالأردن فقد آثر أن يقف على الحياد، فقد كان من الذين عاونوا الناصر في حركة الجهاد المزعومة التي قام بها الناصر، ولما فر الناصر عاد المغيث عمر إلى حصن الكرك، وهو ليس من أهل الجهاد، ويكنّ كراهية كبيرة للمماليك، ولا ننسى أنه حاول مرتين قبل ذلك أن يحتل مصر، وصده قطز في المرتين، فآثر المغيث عمر أن يظل مراقبًا للأحداث للالتحاق بعد ذلك بالمعسكر الفائز سواء كانوا من المسلمين أو من التتار.. ولا يجب أن يغيب عنا في ذلك الموقف عظمة قطز الذي تناسى محاولات المغيث عمر لاحتلال مصر، ولم يجعل هذه الخلفية الكئيبة سببًا للفرقة بين المسلمين.

وأما الأشرف الأيوبي صاحب حمص فقد رفض الاستجابة تمامًا لقطز، وفضل التعاون المباشر مع التتار، وبالفعل أعطاه هولاكو إمارة الشام كلها ليحكمها باسم التتار!

وأما الأخير وهو الملك السعيد (هذا لقبه!) «حسن بن عبد العزيز» صاحب بانياس فقد رفض التعاون مع قطز هو الآخر رفضًا قاطعًا، بل انضمَّ بجيشه إلى قوات التتار يساعدهم على فتح بلاد المسلمين[3]!

وهكذا خرج قطز من علاقاته الدبلوماسية الخارجية بأمور مهمة.. فقد تحالف مع أمير حماة «المنصور».. وانضم إليه -أيضًا- جيش الناصر، وحيّد إلى حد كبير المغيث عمر صاحب الكرك.. وهذه النتائج تعتبر نتائج مهمَّة جدًّا ومؤثرة للغاية، وحتى الانضمام السافر للأمير الأشرف الأيوبي والملك السعيد بن عبد العزيز إلى التتار كان مهمًا، حيث إنه كشف أوراقهما بجلاء، وبُنيت خطة قطز على أساس وضوح الرؤية تمامًا.

ونعود لنرتب الأوراق مع قطز:

أولًا:
الوضع الداخلي مستقر، والحكومة الجديدة تدين بالولاء التام لقطز.

ثانيًا:
المهمة الأولى للدولة في تلك الآونة واضحة ومعلنة، وهي إعداد جيش قوي لمقابلة التتار في معركة فاصلة (وضوح الهدف).

ثالثًا:
العفو عن المماليك البحرية أشاع جوًا من الهدوء النفسي والراحة القلبية عند عموم شعب مصر وليس عند المماليك البحرية فقط، فمن المؤكد أن جو المشاحنات يترك آثاره السلبية ليس على القادة والجيش فقط وإنما على الشعب كله، ولا شك -أيضًا- أن الجيش المصري قد ازداد قوَّة باتحاد طرفيه الكبار المماليك البحرية والمماليك المعزية.

رابعًا:
انضمَّ إلى جيش مصر الكثير من الجنود الشاميين.. وهؤلاء هم معظم جيش الناصر يوسف صاحب دمشق وحلب، وجيش حماة وعلى رأسه المنصور أمير حماة.

كان هذا هو الوضع السياسي والعسكري لمصر في أوائل سنة (658هـ= 1260م)، وقد سقطت في ذات الوقت حلب ودمشق وكل فلسطين حتى غزة تحت حكم التتار، والمعروف أن غزة قريبة جدًّا من الحدود المصرية (أقل من خمسة وثلاثين كيلومترًا).

بينما كان قطز في إعداده المتحمس، وفي خطواته السريعة، جاءته رسل هولاكو يخبرونه أن اللقاء سيكون أسرع مما يتخيل، وهذا ما سنتعرف عليه في المقال القادم بإذن الله.

[1] المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك 1/508.
[2] ابن كثير: البداية والنهاية 13/255.
[3] المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك 1/431.



د.راغب السرجاني