مدخل إلى الإعجاز الزمني في القرآن والسنة
28-02-2009, 09:15 AM
المصدر: www.veecos.net


الكاتب: الدكتور محمد بن موسى باباعمي..

تمهيد



بادئ ذي بدء أشكر جامعة جيجل، قسم اللغة العربية وآدابها، على تنظيم هذا الملتقى العلمي، في موضوع جدير وخطير، هو موضوع الإعجاز في القرآن الكريم والسنة الشريفة؛ وتأتي أهمية الموضوع من قداسة المصدرين (القرآن والسنة)؛ ومن الرسالة التي يؤديها الإعجاز إذا ما بحث بحثا جادا وعميقا.
والحق أنني منذ البداية شرعت في إعداد المحاضرة على أن تتحول إلى كتاب، ذلك أنَّ الموضوع مندرج ضمن اهتماماتي المنهجية والأكاديمية؛ فالله تعالى أدعو أن يوفقنا لما فيه خير الأمة وصلاحها.
ولقد قسمت المداخلة إلى ثلاثة عناوين:
- مدخل في المنهج
- الإعجاز الزمني في القرآن الكريم
- الإعجاز الزمني في السنة النبوية

ما الإعجاز؟

إنَّ مدلول كلمة الإعجاز في الاصطلاح هو: "أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدِّي، سالم من المعارضة"، ويعرِّف الزنداني الإعجاز العلميَّ بأنـَّه «إخبار القرآن الكريم أو السنة النبوية بحقيقة أثبتها العلم التجريبيُّ، وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية زمن الرسول ص، وهذا مما يظهر صدق الرسول ص فيما أخبر به عن ربه»[1].

غير أنَّ قَصر الإعجاز العلميِّ في مجال العلوم التجريبية خطأ واضح، فمن أنواع الإعجاز ما هو تاريخي، ثبت بالمعاينة والمشاهدة وليس بالتجربة، ومنه ما هو منطقي ثبت بالبحوث في مجالات المنطق، ومنه ما هو رياضي ثبت بالحساب… ولذا فالأصوب أن يعرف الإعجاز العلمي بأنه "إخبار القرآن الكريم أو السنة النبوية بحقيقة أثبتها العلم، وصحَّ عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية زمن الرسول ص، إظهارا لصدق الرسول ص".

وإعجاز القرآن الكريم مجال خصب للبحث، لا يتوقَّف عن العطاء والتجديد، ما دامت ثمة عقول تفكِّر، وبحوث تنجز، ومن أبرز المجالات: الإعجاز اللغوي والبلاغي، والإعجاز الكوني، والإعجاز الطبي والدوائي، والإعجاز العددي، والإعجاز التشريعي… غير أنَّ هذه المجالات لا حصر لها ولا نهاية، فكلما ظهر نوع من أنواع الإعجاز إلاَّ وأضيف إلى القائمة، ومنه مثلا: الإعجاز في الذرة، والإعجاز في الحشرات، والإعجاز النبات، والإعجاز في المياه…

وقد ذكر بعض العلماء أنَّ معجزات الرسول ص الباهرة بلغت ألفا؛ «هذه المعجزات بمجموعها الكلي ثابتة قطعية كقطعية ثبوت دعوة النبوة»[2]، غير أنَّ إحصاءها في تقديرنا لا يليق وفيه الكثير من التكلُّف، ذلك أنها تتجدَّد في كلِّ زمان وعصر، ثم إنَّ قوله تعالى في هذا الشأن "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنـَّه الحق" دالَّ – باستعمال فعل المضارع – على التجدد والتواصل، لا على الحصر والثبات. قال النورسي: «وعلى الرغم من أنًّ العلماء المحققين قد ذكروا ما يقارب الألف من دلائل نبوته ومعجزاته، فإنَّ هناك ألوفا منها، بل مئات الألوف…» [3].

غير أنيِّ مع طول البحث في مواقع الأنترنات، وفي مصادر الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية الطاهرة، لم أتوصل إلى بحوث أو دراسات، أو كتب أو موسوعات، اهتمت بالإعجاز الزمني من جميع مداخله وجوانبه، وإن عرض البعض أوجها منها، وبخاصة في بحوث علم الفلك، لما لها من علاقة وثيقة بالزمن، وكذا فيما عرف بالإعجاز الغيبي والتاريخي، وما اندرج ضمنه من عناوين مثل: الإخبار بالمستقبل… وهذا ما دفعني إلى التفكير مليا في صياغة مدخل جديد من مداخل الإعجاز، ومحور له مكانته في القرآن الكريم، ألا هو: الإعجاز الزمني.

مفهوم الإعجاز الزمني

الإعجاز الزمني هو كل ما ورد معجزا في القرآن أو السنة، مما له علاقة بالعلوم الزمنية، مثل: علم إدارة الوقت، وعلم اجتماع الفراغ، وعلم نفس الزمن، وعلم الساعة البيولوجية، وعلم قياس الزمن، وعلم النوم والأرق، وميزانية الوقت، وعلم الشيخوخة، وعلم الفلك، والكسمولوجيا، وبحوث النسبية، والإيقاع، وعلم الصيدلة الزمني… الخ

ولا يمكن أن نغفل بعض المجالات التي لا تندرج بالضرورة تحت هذه العناوين، مثل: تاريخ المستقبل، ونهاية العالم، وزمن اليوم الآخر، حتى وإن عجزنا عن التثبت من صحتها بوسائلنا البشرية القاصرة، غير أنَّ ثمة مناهج وطرق يمكن أن ثبتها بها، ونتحقق من وقوع هذه الأمور: مثل مبادئ المنطق، والمشاهدة العينية، والأنتروبي، والتواتر…
ومن جهة أخرى توجد علوم لها علاقة غير مباشرة بالزمن، وبالخصوص ما يعرف بعلوم الإدارة والتخطيط، من مثل: علم الأهداف، وعلم الأولويات، وعلم التخطيط والتخطيط الاستراتيجي؛ فإنَّ مجرَّد استجلائها بوضوح في القرآن إعجاز، ذلك أنَّ الإنسان في عصر الرسالة لم يكن قادرا على فهم هذه الأمور، بله تطبيقها في حياته اليومية، وفي بنائه للدولة… فما له علاقة بهذه العلوم يندرج كذلك ضمن مباحث الإعجاز الزمني، الذي ننظِّر له في محاضرتنا هذه.

بحثا عن الإعجاز الزمني

بما أنَّ الباحث صاغ مصطلح "الإعجاز الزمني" لأول مرَّة بهذا المدلول الواسع، كنوع من أنواع الأعجاز التي يجب التركيز عليها، فإنـَّه بات لزاما عليه أن يبحث ضمن المصادر والمراجع، وفي مواقع الأنترنات، وفي ثنايا موسوعات الإعجاز العلمي العديدة، حتى يكون الحكم الذي أصدره صادقا بنسبة عالية، وهذا ما حاول القيام به.
*ففي الكتب المتخصصة في الإعجاز، التي بين يديَّ، لا أجد ذكرا لمصطلح "الإعجاز الزمني"، سواء في ذلك المصادر القديمة، أم المراجع الحديثة.
*وفي الموسوعات كذلك، لا أجد ذكرا للمصطلح، أو لمصطلح قريب منه، إلاَّ ما كان عبر الأنترنات.

*أما في الأنترنات فقد أجريت البحث في أفضل المحركات، "google"، و"ayna" و"raddadi"، و"islamweb".. فوجدت أنَّ المصطلح قد استعمل مرَّتين:
أولاهما- في مقال للمهندس عبد الدائم الكحيل؛ الذي كتب عن التناسق البياني لكلمات القرآن، وتعرَّض لموضوع "التدرج المنطقي واللغوي في القرآن الكريم"، فأعطى نموذجا واحدا[4]، ثم وصف هذا التدرج بأنه من قبيل "الإعجاز الزمني".

وبالتالي يكون المصطلح في هذا المقال مرادفا لمدلول "التدرج المنطقي واللغوي" ولا يعني أيَّ مفهوم آخر مما ذكرناه في أنواع ومجالات الإعجاز الزمني.

أمَّا الاستعمال الثاني، فنقرأه ضمن إشارة إلى عمل علمي للدكتور طارق سويدان، بعنوان "نماذج من الإعجاز العددي في القرآن الكريم"، ومن أمثلته "الإعجاز الزمني"، الذي لا يخرج من دائرة الإعجاز العددي، وما تسميته بالزمني إلاَّ لأنـَّه يتناول كلمات في الزمن والوقت، يلاحَظ التناسب بين عدد مرات ذكرها في القرآن، وعدد تطبيقها في الواقع[5].

وبهذا يمكن أن نقول: إنَّ مصطلح "الإعجاز الزمني" بمدلوله الواسع، غير متداول في البحوث والدراسات السابقة، فهو مصطلح جديد، والبحث فيه جدير، وفي الإمكان أن يستقلَّ كحقل قائم بذاته، ذلك أنَّ الدراسات الزمنية في مختلف العلوم لها أبعاد واسعة، وهي لأهميتها تستقلُّ كعلوم ذات منهج وموضوع أصيل، مثل: علم اجتماع الفراغ، الذي هو فرع من علم الاجتماع[6]؛ وعلم نفس الزمن، الذي هو فرع من فروع علم النفس[7]؛ وكذا تاريخ الزمن، وفلسفة الزمن، والساعة البيولوجية، … الخ.

ولعلَّ أوضح مثال على أهمية الدراسات الزمنية المنبثقة من مختلف العلوم، ما كان من نشأة علم "الصيدلة الزمنية" (chronopharmacologie) الذي يدرس أزمنة استخدام الأدوية، ولا يكتفي بالحقن والمقادير، بل يتجاوز كلَّ ذلك إلى "أفضل وقت لتناول دواء معيَّن"[8]. والباحثون اليوم يسعون إلى تأسيس "علم طب الزمن" ((chronothérapeutique؛ الذي لا يقتصر على مراعاة الزمن في استخدام الأدوية فقط، بل يعنى بمراعاة الزمن في كل أنواع المداواة، سواء في ذلك الزمن اليومي، أم الفصلي، أم عمر الإنسان… الخ


مَلاحظ في المنهج

لا بدَّ أن نشير إلى أنَّ البحث في الإعجاز الزمني، لا يعني البتة أنَّ كلَّ ما يدرج ضمنه جديد غير مسبوق، بل إنَّ الكثير من النماذج قد سبق إليها العلماء والدارسون من قبل، وإن صنَّفوها في نوع من أنواع الإعجاز المعروفة من قبل، وبالتالي فالعمل يقتضي أن تجمَّع هذه النماذج تحت عنوان واحد، وتصاغ صياغة متناسقة، وقد ترد بعض النماذج الجديدة، التي يسعى الباحثون إلى فهمها، واستجلاء كنهها، وسبر غورها.

ثم إنَّ المقترح لا يدرس دائما النتائج المتوصل إليها، لكنه أحيانا يطرح "أسئلة"، ويبني "إشكالات"، ويضع "افتراضات"من منطلق قرآنيٍّ، ثم يستحثُّ الهمم للتعمُّق فيها، والغوص في تحليلها، بروية وحكمة، مع احترام التخصص والتعمُّق، في جميع الحالات.

وترد في معرض الإعجاز النبوي أحاديث نبوية منها الصحيح ومنها الضعيف؛ فما صحَّ منها يثبت على أنـَّه إعجاز زمني عن النبي عليه الصلاة والسلام، وما ضعف يناقش وينبَّه إلى ضعفه أو كونه موضوعا، فكلُّ هذه الأحاديث – ما دامت تحوم حول الزمن من مختلف مداخله – تندرج ضمن مباحث "الإعجاز الزمني".

ما ورد في القرآن هو الأصل

نعتقد أنَّ ما كلَّ ما ورد في القرآن الكريم حول الزمن هو الحقيقة التي لا مراء فيها، وغيره من الحقائق العلمية والنظريات قد تصيب وقد تخطئ، مهما كان مستواها؛ ولذا فإسقاط ما في القرآن على ما وصلت إليه العلوم المعاصرة ما هي إلاَّ مرحلة لتخطي الضعف الذي بلغه المسلمون اليوم؛ وإنَّما الصواب أن ينطلق المسلمون من القرآن الكريم لصياغة فرضيات ومنها إلى اختبارها والوصول إلى حقائق علمية جديدة.

ولذا فنحن نتفق مع الباحثين ميموني وقسوم في نقطة منهجية ونختلف معهما في نقطة أخرى.

أمَّا التي نختلف معهما فيها فقولهما: «أقلُّ ما يمكن أن نقول إذن إنَّ القرآن طرح جملة من الأفكار لا تزال غامضة وصعبة الفهم والتفسير، وتحتاج إلى الدراسة والتعمق، الشيء الذي لا زلنا ندعو إليه، فمن الواضح أنَّ على المفسرين – أو الباحثين المسلمين عموما – التعرف على ما وصلت إليه العلوم الدقيقة الحديثة من مفاهيم ونتائج جديدة وبالغة الأهمية والتأثير والاستعانة بها قصد استخراج صورة الكون في القرآن»[9].

فالخطأ واضح في مصطلح "الأفكار"؛ ذلك أنَّ القرآن الكريم إنـَّما جاء بحقائق ربانية صادقةٍ ومطلقةٍ، ولم يأت بأفكار غامضة وصعبة الفهم والتفسير؛ والذي يوصف بالأفكار هو فهوم المفسرين والعلماء؛ التي تحتمل الخطأ والصواب؛ والذي يشفع لهما أنَّهما أخطآ في المصطلح، والفكرة واضحة.

*أمَّا ما نتفق فيه كلية مع الباحثَين فقولهما: «إنَّ القرآن الكريم أحدث ثورة أو على الأقل منعرجا في المنهجية، وذلك بكيفية تطرقه إلى عالم الطبيعة، إذ فصل بوضوح بين الطبيعة (عالم الشهادة كما سماها) وبين الإلهيات (عالم الغيب) … ولكن يبدو أنَّ العديد من العلماء المسلمين غفلوا عن هذا الفصل المنهجي والعلمي الأساسيِّ، وأخذوا ينظرون إلى الكون بتصور موحَّد، وذلك تأثرا بالحضارات والنماذج القديمة»[10].

فالإعجاز عموما، والإعجاز الزمني بالخصوص، ليس موضوعا معيَّنا فحسب، بل هو منهج قبل ذلك، والثورة الحقيقية في القرآن ثورة في المنهج ثم يأتي الموضوع في الدرجة الثانية؛ غير أنَّ اهتمام الدارسين في كثير من الأحيان انصبَّ على الموضوع، وغفل المنهج.

وبالتالي فإنَّ الجهود يجب أن تنصبَّ على استجلاء معالم هذا المنهج لا على تعداد أنواع الإعجاز فقط؛ وهذا عمل جليل يحتاج إلى اجتهادا فرديٍّ في المرحلة الأولى، ثم اجتهاد جماعيٍّ في المرحلة الثانية، أي يحتاج إلى مؤسسات بديعة ومبدعة تعنى بمنهج القرآن والسنَّة في تناول القضايا المعجزة، بكلِّ أنواعها وحيثياتها.

دليل للإمكان العقلي

قد يستغرب الإنسان عند مقارنته لإمكانية صعود الإنسان إلى السماء، وامتطاء الطائرة، فما نقرأه في القرآن الكريم في هذا الشأن، يعدُّ بحقٍّ ثورة معرفية، وإعجاز في فتح الآفاق أمام الإنسان، وأمام عقل الإنسان؛ ولا نقارن النصوص القرآنية مع ما جاء في التورات والإنجيل، ولا مع ما جاء في التراث اليوناني، ولا ما كان يفكِّر فيه العرب في قريش أوان نزول الوحي… ذلك أنَّ مجرَّد التفكير في امتطاء عنان السماء لم يكن واردا في الذهن؛ بله القول بإمكانيته؛ وأكثر من ذلك أن يدَّعى وقوعه. وإنما سنقارن ما ورد في القرٍآن الكريم مع ما كتب في القرنين الماضيين، من اعتقاد الناس استحالة الطيران، وهذا بحدِّ ذاته إعجاز زمني خارق.

*اعتبر الطيران «ولزمن طويل مستحيل التحقيق؛ لأنَّ ذلك يعني طيران أجهزة أثقل من الهواء بكثير، وهذا شيء مستحيل. وفي سنة 1903 كتب أحد الفلكيين: الطيران في الهواء شيء ليس في مقدور الإنسان تحقيقه أبدا… وبعد بضعة أشهر طار أورفيل رايت لأول مرَّة بطائرة تسير بمحرِّك، في البداية لم تنشر الصحف شيئا حول هذا الموضوع، ورفض المحررون الكتابة عن هذه القصَّة المضحكة. وبعد مرور بضعة أسابيع تحققوا من أنَّ رايت طار فعلا في السماء بطائرة يسيرها محرك، فصرح أحد المسؤولين: إنَّ الطائرة سوف لن ترتفع من الأرض إذا ركب مسافر واحد فقط إلى جانب قائدها. وعليه اصطحب أورفيل أخاه كمسافر في الرحلة الثانية…
أثارت مشاريع الرحلات الفضائية سخرية مشابهة عند كثير من الناس» [11].

إنَّ ما أوردناه في هذه الفقرات ممَّا تحفل به كتب تاريخ الاختراعات، من عقلية الرفض للجديد، بناء على معتقدات لا أساس لها، يبين أنَّ ما جاء في القرآن الكريم من إشارات صريحة إلى إمكانية الصعود في السماء، إنما هو من قبيل المعجزات الربانية.
قال تعالى:
*"سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا…"

*حنفاء لله غير مشركين به، ومن يشرك بالله فكأنما خرَّ من السماء فتخطَّفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق" (الحج: 31)

*وأدل آية على هذه الإمكانية قوله تعالى: "يا معشر الجنِّ والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلاَّ بسلطان" (الرحمن: 33)

فالآية لم تنف إمكانية النفاذ والسفر عبر السموات والأرض، لكن ربطته بالاستطاعة، وهذه الاستطاعة سرها "سلطان العقل والعلم"، فلو أنَّ كتابا آخر كتبه بشر في عهد النبوة لسارع إلى نفي الإمكانية، بل إنَّ القرآن الكريم فتح عقول البشر إلى آفاق علمية رحبة، وهذا منهج القرآن في تناول المواضيع الكونية والغيبية.

المسلَّمات والبديهيات

إنَّ مما يشمئزُّ منه العقل أن يعتبر وضع المسلمات والبديهيات في بداية البحث نوعا من "المصادرة على المطلوب"، مع أنَّ كلًَّ العلوم تفترض وجود مسلمات لا يمكن البرهنة عليها، وإنما تؤخذ كما هي، ثم تصاغ الفروض على هذا الأساس، ولا تسثنى أدق العلوم من ذلك مثل: الرياضيات، والفزياء، وعلوم الطبيعة، والأنتروبولوجيا[12]… وبالتالي، فليس من الإنصاف أن تمنع الدراسات القرآنية من وضع مسلمات، قد تكون واردة في القرآن نفسه، من هنا تأتي ضرورة إيراد أبرز هذه المسلَّمات والبديهيات في معرض التأسيس للإعجاز الزمني في القرآن الكريم، وهي:

أنَّ الله تعالى لا يتزمَّن، فهو خالق الزمن، وهذا ما تدلُّ عليه الآيات والأحاديث المتواترة، وهو جزء من عقيدة المسلم؛ ثم إنَّ أحدث الدراسات الفزيائية تقرُّ بذلك دون تردُّد.

أنَّ الله تعالى يحيط بالمخلوقات كلِّها في أزمنتها مهما دقَّت، سواء أكانت متناهية أم غير متناهية «فسبحان من لا يشغله آن عن آن، ولا شأن عن شأن»[13].
أنَّ كلَّ المخلوقات تخضع للزمن مهما عظمت أو حقرت، وهذا بصريح آيات القرآن الكريم.
أنَّ الإعجاز الزمني في القرآني الكريم لا يدرك إدراكا شاملا من قبل البشر، وإنما تتفتح في كلِّ عصر من العصور نافذة من نوافذه، لتكون آية من آيات الله تعالى، وحجة للعالمين، حتى يتبينوا أنـَّه الحق.


——————————————————————————–
1- الزنداني، عبد المجيد: تأصيل الإعجاز في القرآن والسنَّة؛ موقع: مكنون (www.maknoon.com ).
2- النورسي، بديع الزمان سعيد: المكتوبات؛ ضمن رسائل النور؛ تحقيق إحسان قاسم الصالحي؛ نشر دار سوزلر، استانبول، تركيا؛ 1413هـ/1992م؛ ص114. وقد أحال إلى ابن حجر العسقلاني: فتح الباري؛ ج6/ص582-583.
3- النورسي: نفسه.
4- ونص النموذج: التدرج اللغوي والمنطقي في الآيتين
1- الآية الأولى بدأت بوقوفهم على النار (إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ)، ثم الآية الثانية بعد أن دخلوا في النار أصحبَ تُقَلَّب وجوههم فيها (تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) ، وهكذا التدرج من الوقوف خارج النار إلى الدخول إليها.
2- في الآية الأولى بدؤوا بقولهم أول شيء (فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ)، أي إلى الدنيا، فهذا أول مطالبهم، ثم تمنوا ألاَّ يكذبوا بآيات الله (وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا) ثم تمنوا بأن يكونوا من المؤمنين(وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ): أي العودة إلى الدنيا… ثم التصديق بآيات الله… ثم الإيمان.
3- ولكن في الآية الثانية عندما دخلوا إلى النار وقُلِّبت وجوهُهم فيها، لم يعد لديهم أمل بالعودة إلى الدنيا. وأدركوا مدى أهمية طاعة الله وطاعة رسوله فانتقلوا من مرحلة الإيمان إلى مرحلة الطاعة لله ورسوله، لذلك يقولون عندها: (يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) إذن نلخِّص هذا النظام البلاغي باختصار:

1- وقوفهم على النار…. ثم الدخول فيها لتُقَلَّب وجوههم في النار.
2- وتأمل معي التدرج الزمني للآيتين: فالآية الأولي جاء فيها قولهم بصيغة الماضي (فَقَالُواْ)، ولكي لا يظنّ أحد أن هذا القول وهذه الحسرة انتهت، أو ستنتهي، يأتي قولهم في الآية الثانية على صيغة الاستمرار (يَقُولُونَ)، ليبقى الندم مستمراً.
إن هذا النوع من الإعجاز الزمني لاستخدام كلمات القرآن، ألا يدل على أن هذا القرآن كتاب مُحكَم؟
ينظر- مقال: التناسق البياني لكلمات القرآن؛ في العديد من المواقع منها موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، موقع أنترنات، بعنوان: http://www.55a.net
وموقع أرقام، بعنوان: http://www.alargam.com
5- يقول سويدان: «ذكرت كلمة الصلاة خمس مرات والفرائض اليومية خمس فرائض. وذكرت الشهور 12 مرة والسنة12 شهراً. وذكر اليوم 365 مرة وعدد أيام السنة 365 يوماً».
ينظر – مثلا – موقع المركز الإسباني العربي بمدريد، وعنوانه: http://www.hispanoarabe.org
وموقع جبيل نات دوت كوم، بعنوان: http://www.jubailnet.com
6- تأسس هذا العلم على يد العالم جوفر ديمازدييه، أب علم اجتماع الفراغ؛ وانظر كتابه نحو حضارة الفراغ: vers une civilisation du loisire.
7- برز هذا العلم بفضل جهود "جون بياجي"، وبخاصة في كتابه "تصور الزمن عند الطفل": la conception du temps chez l’enfant.
8- انظر- Schwob M. : être au top á chaque heure ; ed. Hachette, paris, 1998 ; pp151-198
9- ميموني وقسوم: قصة الكون؛ ص65-66.
10- نفس المرجع.
11- الخفاجي طالب: البعد الرابع؛ الدار العربية للعلوم؛ ص150-152.
12- بدأت الباحثة الاجتماعية مارجريت ميد (Margaret Mead) بحثها حول "التنشئة في غينيا الجديدة" بوضع مسلمة واحدة، ثم صاغت الفروض بناء على هذه المسلمة. وانظر- أحمد بدر: أصول البحث العلمي ومناهجه؛ المكتبة الأكاديمية، القاهرة؛ 1996م؛ ص99.
13- ابن العربي: رسائل، رسالة أيـَّام الشأن، كلّها.