الحركى... لعنة التاريخ والجغرافيا
31-10-2015, 09:50 PM

عبد الحميد عثماني
رئيس تحرير التحقيقات والحوارات الكبرى بجريدة الشروق
في كل الثورات التحرّرية التي عرفتها البشرية ضد الاحتلال الغازي، كان الأشراف البواسل يتصدرون ميادين الكفاح والمقاومة، دفاعا عن حريّة الوطن، ينافحون أصالة عن ضمائرهم الحيّة، ونيابة عن القاعدين والمتفرّجين والمرجفين في جدوى العمل المسلح، وعلى هامش هؤلاء وأولئك، تشكّل الطابور الخامس، من الخونة الذين باعوا أنفسهم للاستعمار، فتجنّدوا لخدمة أهدافه وجيوشه ومصالحه، بعضهم مستلب وجدانيا وعقليا، وأكثرهم باحثون عن لقمة خبز يأكلونها بجبن العار.
هذا الفريق الثالث، بين العدّو المبين، وفدائيي الأرض والعرض، هي الفئة الممقوتة من الطرفين، والتي تنال حقّها من الإهانة والاحتقار، يوم تبزغ شمس الحريّة فوق سماء الوطن، فلا هي تحتفل بنصر الأشقاء، ولا الأعداء يقلّدونها وشاح الاعتراف بالفضل، فتعيش ما بقي من موتها ذليلة ومكسورة الجناح، تطاردها وصمة الخزي والخيانة الكبرى.

ذلك هو حال "الحركى" في الجزائر، فشارل ديغول راهن على إجهاض المـسار الاستقلالي للثورة التحريرية، حيث جنّد حشود العملاء بمختلف أنواعهم (حركة، مخازنية، دفاع ذاتي، شرطة متنقلة)، حتى بلغ عددهم أكثر من نصف مليون، زيادة على 61 ألف جندي إضافي، هذا فضلا عن المتعاونين من المدنيين الذين يمارسون وظائف إدارية والنخب الجزائرية، ومن ورائهم عائلات قدّرتهم المصالح الفرنسية وقتها بمليون و600 ألف فرد.

ديغول سعى لتوظيف تلك "القوة الثالثة"، لتكون على نفس المسافة بين المدافعين عن الاستقلال، والذين يريدون الجزائر فرنسية، لترجيح كفة الاندماج أو الحكم الذاتي أو الشراكة على الأقلّ، لكنّ الرجل اقتنع في النهاية، بأن الرهان على هؤلاء العملاء لا طائل منه، بل يشكل أعباء مالية مكلفة، فصرّح في أفريل 1961 "يجب التخلص من الجنود الإضافيين الذين لا يصلحون لشيء"، وفي الشهر الموالي بتاريخ 30 ماي 1961 قال عنهم في مجلس الوزراء "لنتخلص من علبة الغم والأحزان التي لا تفيد في شيء وإذا انقلبت الأمور على حالها فليتولى العفريت أمر الجزائر".

هكذا بدأت فرنسا الغاصبة تتخلّى عن خونة لم يفيدوها في شيء، بل رأت فيهم عبئا دون جدوى، ليصدر وزير الخارجية الأسبق، لوي جوكس قراره الشهير، بعد أن وقّعت حكومة الاحتلال على وقف إطلاق النار، إذ يأمر الضباط الفرنسيين بأن لا يصطحبوا معهم أيّ حركيّ في طريق عودتهم إلى فرنسا، تطبيقا لسياسة الجنرال ديغول، الذي كان يرى أنّ على الحركى تحمّل خياراتهم لوحدهم، غير أن كثيرا من الضباط اصطحبوا معهم الآلاف من الحركى، بحجّة أن جيش التحرير الجزائري سيقتل هؤلاء إن لم يفرّوا، وحذّروا حكومة بلادهم بأن مصيرهم سيكون الموت إن هُم بقوا في الجزائر.



ديغول: "أنا أكره الخونة..."

كلّ ما قدّمته فرنسا لعملائها بعد 19 مارس 1962، هو محاولة حمايتهم من الانتقام، عن طريق إعفائهم من المتابعات، من خلال ما جاء تحت طائلة الأحكام العامة التي وردت في الفصل الأول من اتفاقية ايفيان، التي تنص على أنه: (لا يمكن أن يتعرض أحد للإزعاج أو الطلب، أو الملاحقة، أو الإدانة أو الحكم عليه بقرار جزائي، أو عقوبة تأديبية بتدبير تميز ما بسبب أعمال ارتكبت بمناسبة الأحداث السياسية التي جرت قبل وقف إطلاق النار) أي شأنهم في ذلك شأن عامة الناس، في حين آوت فرنسا كلّ الفارّين من الأقدام السوداء.

ولكن ذلك لم يمنع من حدوث الكثير من التصفيات بين الحركى المجردين من السلاح بعد توقيف القتال، وطالت حتى بعض الأقدام السوداء على نطاق وطني، ولم ينج منهم سوى الأبرياء من المآسي التي لحقت بالمواطنين، ورغم عدم إسناد مسؤولية الأمن لجيش التحرير وفق بنود إيفيان، فإن هناك اتهامات صدرت عن بعض الرسميين الفرنسيين تحمّل الحكومة الجزائرية مسؤولية المجازر المرتكبة في حق الحركى.

وأمام تكاثر تلك التصفيات، ناقش بعض أعضاء الجمعية الوطنية الفرنسية المشكل أثناء انعقاد الجمعية، فرد عليهم ديغول بتهكم: (هل هؤلاء فرنسيون! بطرابيشهم وجلابيبهم)!.

لم يبق أمام هؤلاء الحركى من ملاذ سوى الترحيل إلى فرنسا، لكن القيادة الفرنسية لم تقبل من المرحلين سوى 5٪ منهم في قائمة محددة سلفا، ويسجل التاريخ لديغول مقولته الشهيرة "أنا أكره الخونة".

ولهذا لا يزال المعنيون "يتحدثون إلى اليوم عن سياسة المجازر والمحتشدات والعزل والاحتقار التي شنتها عليهم حكومات فرنسا المتعاقبة، منذ خروج آبائهم معها من الجزائر في جويلية 1962، مضيفين بأنهم يعيشون منذ ذلك الحين في المجهول على الأرض الفرنسية".

ولا تزال قضية هؤلاء الخونة تثير الجدل في فرنسا، فالجيل الجديد من أبنائهم أصبح مهيكلا، ويتحرك لافتكاك الاعتراف من "الأم" غير الشرعية، ويحتجّ ضدّ ما يصفه بـ"تنكّر فرنسا لهم ولآبائهم ونسيانها إياهم في المحتشدات التي رمتهم فيها إثر التحاقهم بأراضيها"، قائلين بأن الديغوليين "هم الذين رموا آباءهم في محتشدات النسيان، وأنهم تلقوا وعودا من سياسيين فرنسيين مناهضين للتيار الديغولي تعِدهم بتسوية وضعيتهم فور رحيله من السلطة، لكنّ شيئا من هذا لم يحدث"، بل يتهمون ساركوزي باستعمالهم كورقة انتخابية في الرئاسيات التي فاز فيها، دون أن يروا منه شيئا إلى أن غادر الإليزي، وأقصى ما فعله هو تصويت مجلس الشيوخ الفرنسي (الغرفة العليا للبرلمان) بالأغلبية الساحقة على مشروع قانون تقدم به اليمين الحاكم بهدف إلى تجريم إهانة "الحركى"، وقد أثار وقتها جدلا كبيرا، لأنه جاء قبل أربعة أشهر من الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي خسرها أمام فرانسوا هولاند، بل اعتبر البعض أنه من "الفضيحة أن يستغل ساركوزي وحزبه الحركى لأغراض انتخابية".

وقد واصل عملاء الاحتلال مطالبة الرئيس هولاند، بالاعتراف بدورهم في خدمة المصالح الفرنسية الاستعمارية أثناء حرب التحرير المباركة، واتهموا جيش التحرير الوطني مجدّدا بتصفيتهم غداة الاستقلال، "في حملة جديدة تسعى لعرقلة مساعي الجزائر لإقناع فرنسا بتعويض ضحايا التجارب النووية في الجنوب".

وإلى اليوم، يظلّ ملف الحركى في غاية الحساسية لدي البلدين، يراوح مكانه، حيث ترفض الجزائر أي نقاش حول إمكانية عودتهم إليها، بالنظر إلى جريمة خيانة للوطن، في حين يطالب أبناؤهم بأحقية العودة، يضاف إلى ذلك، "مطالب المعمرين الفرنسيين والأقدام السوداء التي ما فتئت تمرر ملف الحركى في كل مناسبة يزور فيها مسؤول فرنسي رفيع الجزائر".

وبعيدا عن الخلاف الفلسفي والنقاش الإنساني حول مصير الأجيال القادمة من ذوي الحركى، فإنّ ما يواجهه هؤلاء من رفض الوطن، وما يعانونه من لفض العدّو الذي آزروه يوما ضد شعبهم وأهلهم، هو الضريبة المزدوجة التي يدفعونها عن جدارة، فخائن أمته لن يجد تقديرا لدى غيرها، لتلاحقه لعنة التاريخ والجغرافيا.