دلَائِلُ القُرآنِ المجِيد عَلى تَوحِيدِ رَبِّ العَبِيدِ وَإِبطَالِ الشِّركِ وَالتَّندِيد
20-12-2017, 09:42 AM
دلَائِلُ القُرآنِ المجِيد عَلى تَوحِيدِ رَبِّ العَبِيدِ وَإِبطَالِ الشِّركِ وَالتَّندِيد


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على عبده و رسوله نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، و بعد:
فإنَّ أعظم مطلبٍ اشتمل عليه القرآن الكريم هو: توحيد الله تعالى، وقد بيَّن الله تعالى في كتابه الكريم بأنَّ هذا المطلب العظيم، هو الحكمة التي من أجلها خلق العباد وأوجدهم، فقال تعالى:{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، و معنى يعبدون: « يُوحِّدون » [ثلاثة الأصول].
و لأجل إقامة التوحيد و تعليمه و الدعوة إليه و التحذير مما يُضادُّه أرسل الله الرُّسل و أنزل الكتب، قال تعالى:{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ }، و قال جلَّ شأنه:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: « أصل دعوة جميع المرسلين عليهم السلام، قولهم: { اعبدوا الله مَالَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ }» .
و من هنا؛ يتَّضح أن المقصود الأعظم من دعوة الرُّسل عليهم الصلاة و السلام، هو تحقيقُ توحيد الألوهية الذي هو: إفراد الله تعالى بالعبادة، يتلخَّص في خطاب الرُّسل لأقوامهم: {اعبدوا الله مَالَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ}، فقد كان هذا الخطاب أوَّل ما يقرع به الأنبياء و الرسل عليهم الصلاة و السلام أسماع أقوامهم.
إذا عرفنا هذا، وعرفنا أنَّ التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد الألوهية، و توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء و الصفات، ظهر لنا شرف توحيد الألوهية وعظم شأنه من بين بقية أقسام التوحيد، فهو لبُّ دعوة الرُّسل، و مفتاحها، و أُسُّها وأساسها، وهو موضوع الصِّراع و ميدان الخصومة و محلُّ النِّزاع بين الرُّسُل و أقوامهم! و ذلك أن المشركين الذين بُعث فيهم الأنبياء و الرسل عليهم الصلاة و السلام كانوا مُقرِّين لله تعالى بالوحدانية في ما سوى توحيد العبادة و الألوهية، كما أخبر الله بذلك عنهم في آيات كثيرة، منها قوله تعال: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ }.
قال العلامة ابن باز رحمه الله كما في:( مجموع فتاويه:2/42):
« .. هذه دعوة الرسل كل واحد يقول لقومه وأمته : { اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ }، المعنى : وحِّدوا الله ، لأنَّ الخصومة بين الرُّسل والأمم في توحيد العبادة، وإلَّا فالأمم تُقرُّ بأنَّ الله ربها وخالقها ورازقها، وتعرف كثيرًا من أسمائه وصفاته، ولكن النِّزاع والخصومة، من عهد نوح إلى يومنا هذا في توحيد الله بالعبادة »انتهى .
إذا تقرَّر هذا؛ علمنا أنَّ الإيمان بربوبية الله تعالى و أسمائه و صفاته، بمُجرَّدِه من غير توحيدٍ لله تعالى في الألوهية، و من غير إفرادٍ له بالعبادة، لا يُخرِج المُكلَّف من دائرة الشِّرك و الكُفر!، و لا يصير صاحبه بذلك مُسلمًا و لا مُؤمنًا مُوحِّدًا! كما أنَّه لا يكفي لعصمة الدَّم و المال و النَّفس، و لا يُنجي من العذاب، حتَّى يأتيَ المُكلَّف بلازم ذلك و هو توحيد العبادة الذي من أجله خلق الله الخليقة و عليه قام سوق الجنَّة و النَّار .
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في رسالته " القواعد الأربع ": « القاعدة الأولى: أن تعلم أن الكافرين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، مُقرُّون بأنَّ الله تعالى هو الخالق الرازق المدبر، وأن ذلك لم يدخلهم في الإسلام » انتهى .
و قال شيخ الإسلام: ابن تيمية رحمه الله في:( درء تعارض العقل و النقل:8/7):
« والمقصود هنا أن السلف والأئمة متَّفقون على أنَّ أوَّل ما يُؤمر به العباد الشهادتان ..،والشهادة تتضمن الإقرار بالصانع تعالى و برسوله، لكن مجرَّد المعرفة بالصانع لا يصير به الرجل مؤمنًا، بل ولا يصير مؤمنًا بأن يعلم أنه ربُّ كل شيء،حتى يشهد أن لا إله إلا الله ولا يصير مؤمنًا بذلك حتى يشهد أن محمدًا رسول الله »انتهى.
إلَّا أنَّ الذي ينبغي أن يُعلم، أنَّ الإيمان بربوبية الله تعالى و صفاته ! و إن لم يكن موجبًا للهدى بمُجرَّدِه و لا مُنجيًا من الرَّدى بمُفرَده دون توحيد الألوهية، فإنَّه هو الحجَّة البالغة على من أقرَّ به و جحد توحيد العبادة و الألوهية .
قال العلامة ابنُ القيِّم رحمه الله:
«والإلهية التي دعت الرسل أُممَهم إلى توحيد الربِّ بها هي العبادة والتأليه، ومن لوازمها توحيد الربوبية الذي أقرّ به المشركون فاحتجَّ الله عليهم به، فإنَّه يلزم من الإقرار به الإقرار بتوحيد الإلهية ».( إغاثة اللهفان:٢/ ١٣٥).
و من القواعد المُقرَّرة في علم التَّوحيد: أنَّ توحيد الربوبية و الأسماء و الصفات يستلزمان توحيد الألوهية، و توحيد الألوهية مُتضمِّنٌ لهما، فمن أقرَّ بربوبية الله تعالى و صفاته لزِمه توحيد الله في ألوهيته و إفراده سبحانه بالعبادة، و إلَّا كان مُتناقضًا، و محجوجًا بما أقرَّ به على ما أنكره!
قال العلامة: ابن عثيمين رحمه الله في تفسير قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
قوله تعالى:{ فلا تجعلوا } أي لا تُصَيِّروا { لله أنداداً } أي نظراء، ومشابهين في العبادة { وأنتم تعلمون } أنه لا نِدَّ له في الخلق، والرزق، وإنزال المطر، وما أشبه ذلك من معاني الربوبية، ومقتضياتها؛ لأن المشركين يقرُّون بأن الخالق هو الله، والرازق هو الله، والمدبر للأمر هو الله إقرارًا تامًّا، ويعلمون أنه لا إله مع الله في هذا؛ لكن في العبادة ينكرون التوحيد: يشركون؛ يجعلون مع الله إلهًا آخر..، وإقرارهم بالخلق، والرزق أن الله منفرد به يستلزم أن يجعلوا العبادة لله وحده؛ فإن لم يفعلوا فهم متناقضون..».(تفسير سورة البقرة:1/43).
فالمستحقُّ للعبادة هو الرَّب المُتَّصف بصفات الكمال و نعوت الجلال و الجمال، فمن عرِيَ عنها و عدمها لم يصلح أن يكون معبودًا للناس و لا إلهًا لهم .
قال العلامة: ابن القيم رحمه الله:
« وهذا أمرٌ معلومٌ بالفطر والعقول السليمة والكتب السماوية: أن فاقد صفات الكمال لا يكون إلهًا ولا مدبِّرًا ولا ربًّا، بل هو مذمومٌ معيبٌ ناقص ».( مدارج السالكين:1/35).
و بهذا نخلُص إلى أنَّ الألوهية الحقَّة تدور مع صفات الكمال و الربوبية وجودًا و عدما!، فإلهُ الناس و معبودُهم بحقٍّ هو ربهم الذي خلَقَهم، الموصوف بصفات الكمال و الجلال، فمن فقدها كان ذلك هو العنوان الأكبر على بطلان إلهيته، و عدم استحقاقه للعبادة، فإن عُبِد من دون الله تعالى و حالُه ما ذُكِر فهو معبودٌ بالباطل، قال تعالى:{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}.
فأثبتت الآية أنَّ الله تعالى هو الحق، أي: المعبود بحقٍّ المستحقُّ للعبادة، و أنَّ ما يُعبدُ من دونه هو الباطل، أي: المعبود بالباطل، لعُريِه عن صفات الكمال و الربوبية، و لو سُمِّي مِثلُ هذا إلها و ادُّعِيت فيه الألوهية فإنَّه لا حقيقة لها فيه و لا حظَّ له منها إلَّا مجرَّ الاسم! لكونه ليس له شيءٌ من خصائص الربوبية و لا الإلهية، قال تعالى:{ إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَ آبَآؤُكُم مَّآ أَنَزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ }، و قال تعال: { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ }.
قال العلامة: ابن القيم رحمه الله:
« هي مجرَّد أسماء كاذبةٍ باطلةٍ لا مسمَّى لها في الحقيقة، فإنَّهم سمَّوها آلهة وعبدوها لاعتقادهم حقيقة الإلهية لها، وليس لها من الألوهية إلا مجرَّد الأسماء لا حقيقة المسمى..».(بدائع الفوائد: 1/24).
و إذا تأمَّلنا في القرآن و تدبَّرنا في آياته نجد أنَّ الله تعالى يُدلِّل على إلهيته الحقة، و على استحقاقه للعبادة بوصفه لنفسه بصفات الكمال و الربوبية و إثباتها لذاته و إضافته إليه، على الوجه الأكمل، كما أنَّه سبحانه يُدلِّل على إبطال إلهية ما سواه من المعبودات، و عدم استحقاقهم للعبادة بسلب صفات الكمال و الربوبية عنهم .
قال العلامة: ابن القيم رحمه الله:
« ولهذا ذمَّ الله تعالى آلهة الكفار وعابها بسلب أوصاف الكمال عنها، فعابها بأنَّها لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم ولا تهدي ولا تنفع ولا تضر..، وهذا أمرٌ معلومٌ بالفطر والعقول السليمة والكتب السماوية: أن فاقد صفات الكمال لا يكون إلهًا..».(مدارج السالكين:1/34).
و قال العلامة: ابن باز رحمه الله:
«..وهذا المعنى في كتاب الله كثير جدًّا، يُبين الله سبحانه وتعالى لعباده أنه المستحق للعبادة لكماله وقدرته العظيمة، وأنه المالك لكل شيء والقادر على كل شيء، الذي يسمع دعاء الداعين، ويقدر على قضاء حاجتهم، ويجيب مضطرَّهم، ويملك الضَّر والنَّفع..».(مجموع الفتاوى و الرسائل: 2/60-61).

* و من هذه المواضع التي جاء فيها تقرير هذا المعنى قوله تعالى في آية البقرة السابق ذكرها:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
قال العلامة: الشنقيطي رحمه الله في كتابه العظيم:( أضواء البيان) في تفسير هذه الآية:
« ومن كثرة الآيات القرآنية، الدالة على إقامة هذا البرهان، القاطع المذكور، على توحيده جل وعلا، عُلم من استقراء القرآن، أن العلامة الفارقة من يستحقُّ العبادة، وبين من لا يستحقُّها، هي كونه خالقًا لغيره، فمن كان خالقًا لغيره، فهو المعبود بحقٍّ، ومن كان لا يقدر على خلق شيءٍ، فهو مخلوقٌ محتاجٌ، لا يصحُّ أن يُعبد بحال .
فالآيات الدالة على ذلك كثيرة جدًّا كقوله تعالى في البقرة المذكورة آنفا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}.
فقوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ} يدل على أن المعبود هو الخالق وحده، وقوله تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}، يعني وخالق كل شيء هو المعبود وحده.
وقد أوضح تعالى هذا في سورة النَّحل، لأنه تعالى لما ذكر فيها البراهين القاطعة، على توحيده جل وعلا، في قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} إلى قوله: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}، أتبع ذلك بقوله: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}.
وذلك واضح جدًّا في أنَّ من يخلق غيره هو المعبود وأنَّ من لا يخلق شيئًا لا يصحُّ أن يعبد.
ولهذا قال تعالى بعده قريبًا منه: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ}، وقال تعالى في الأعراف: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ}، وقال تعالى في الحج: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ}، أي ومن لم يقدر أن يخلق شيئًا لا يصحُّ أن يكون معبودًا بحالٍ، وقال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى, الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى}.
ولمَّا بيَّن تعالى في أول سورة الفرقان، صفات من يستحق أن يعبد، ومن لا يستحق ذلك، قال في صفات من يستحق العبادة: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً}، وقال في صفات من لا يصح أن يعبد: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ}، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدًّا »انتهى .
فرَبُّ النَّاس هو خالقهم، فمن لم يكن خالقًا موصوفًا بصفة الخلق، لم يكن ربًّا للناس، و من لم يكن ربًّا لم يكن و لا و لن يكون إلهًا لهم مستحقًّا لعبادتهم له، لأنه إن لم يكن خالقًا فهو مخلوق، و المخلوق لا يكون معبودًا! بل ليس له إلا أن يكون عبدًا ذليلًا لخالقِه.
* و من صفات الإله الحق و خصائصه الدالة على استحقاقه للعبادة: الملك التام، و كذا تدبيره لشؤون خلقه من رزقٍ و إحياءٍ و إماتةٍ و ملك الضرِّ و النفع لهم، و غير ذلك من صفات الكمال و الربوبية، فمن فقد هذه الصفات فلا يصلح أن يكون معبودًا تألهه الخلائق! و لا تصحُّ عبادته بحال .
و قد جاء تقرير هذه المعاني في آيات كثيرةٍ من القرآن الكريم، و لعلَّ من أصرحها في البيان و أوضحها في الدلالة على ذلك آية سورة " سبأ " التي وُصفت بأنها الآية القاطعة لعلائق الشرك، و هي قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ، وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}، فقد أبطل الله في هذه الآية الكرية العظيمة كلَّ سببٍ يتعلَّق به المشركون بمعبوداتهم، و اجتثَّت شجرة الشِّرك الخبيثة من جذورها .
و في بيان ذلك يقول الإمام: ابن القيم - رحمه الله تعالى – في:( الصواعق المرسلة:1/98):
« فتأمَّل كيف أخذت هذه الآية على المشركين بمجامع الطُّرق التي دخلوا منها إلى الشِّرك وسدَّتها عليهم أحكم سدٍّ وأبلغه، فإنَّ العابد إنَّما يتعلَّق بالمعبود لما يرجو من نفعه، وإلَّا فلو لم يرج منه منفعةً لم يتعلَّق قلبه به، وحينئذٍ فلا بدَّ أن يكون المعبودُ مالكًا للأسباب التي ينفع بها عابدَه، أو شريكًا لمالكها، أو ظهيرًا أو وزيرًا و معاونًا له، أو وجيهًا ذا حرمةٍ وقدرٍ يشفع عنده، فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كلِّ وجهٍ و بطلت، انتفت أسبابُ الشِّرك وانقطعت موادُّه .
فنفى سبحانه عن آلهتهم أن تملك مثقال ذرة في السموات والأرض، فقد يقول المشرك: هي شريكة لمالك الحق، فنفى شركتها له، فيقول المشرك: قد تكون ظهيرًا ووزيرًا ومعاونًا فقال: { وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} .
فلم يبق إلا الشَّفاعة فنفاها عن آلهتهم، وأخبر أنَّه لا يشفع عنده أحدٌ إلَّا بإذنه، فهو الذي يأذن للشَّافع، فإن لم يأذن له لم يتقدَّم بالشَّفاعة بين يديه، كما يكون في حقِّ المخلوقين، فإنَّ المشفوع عنده يحتاج إلى الشَّافع ومعاونته له فيقبلُ شفاعته وإن لم يأذن له فيها .
وأمَّا من كل ما سواه فقيرٌ إليه بذاته، وهو الغنيُّ بذاته عن كلِّ ما سواه فكيف يشفع عنده أحدٌ بدون إذنه »انتهى .
و قال رحمه الله في:( مدارج السالكين:1/601):
« وَقَدْ قَطَعَ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا الْمُشْرِكُونَ جَمِيعًا، قَطْعًا يَعْلَمُ مَنْ تَأَمَّلَهُ وَعَرَفَهُ أَنَّ مَنِ اتَّخَذَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا، أَوْ شَفِيعًا، فَهُوَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ، فَقَالَ تَعَالَى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ - وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}.
فَالْمُشْرِكُ إِنَّمَا يَتَّخِذُ مَعْبُودَهُ لِمَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ بِهِ مِنَ النَّفْعِ، وَالنَّفْعُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِمَّنْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعِ:
1_ إِمَّا مَالِكٌ لِمَا يُرِيدُهُ عِبَادُهُ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا.
2_ كَانَ شَرِيكًا لِلْمَالِكِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرِيكًا لَهُ.
3_ كَانَ مُعِينًا لَهُ وَظَهِيرًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعِينًا وَلَا ظَهِيرًا.
4_ كَانَ شَفِيعًا عِنْدَهُ.
فَنَفَى سُبْحَانَهُ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَ نَفْيًا مُتَرَتِّبًا، مُتَنَقِّلًا مِنَ الْأَعْلَى إِلَى مَا دُونَهُ، فَنَفَى الْمِلْكَ، وَالشِّرْكَةَ، وَالْمُظَاهَرَة َ، وَالشَّفَاعَةَ، الَّتِي يَظُنُّهَا الْمُشْرِكُ، وَأَثْبَتَ شَفَاعَةً لَا نَصِيبَ فِيهَا لِمُشْرِكٍ، وَهِيَ الشَّفَاعَةُ بِإِذْنِهِ.
فَكَفَى بِهَذِهِ الْآيَةِ نُورًا، وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً، وَتَجْرِيدًا لِلتَّوْحِيدِ، وَقَطْعًا لِأُصُولِ الشِّرْكِ وَمُوَدَّاهُ لِمَنْ عَقَلَهَا، وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ أَمْثَالِهَا وَنَظَائِرِهَا »انتهى .
و من أمثال هذه الآية و نظائرها قوله تعالى:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}.
قال العلامة: سليمان بن عبد الله في تفسيرها كما في:( تيسير العزيز الحميد: ص177):
« حاصل كلام المفسرين كابن كثير وغيره، أنه تعالى يخبر عن حال المدعوين من دونه من الملائكة والأنبياء والأصنام وغيرها بما يدل على عجزهم وضعفهم وأنهم قد انتفت عنهم الشروط التي لا بد أن تكون في المدعو وهي الملك، وسماع الدعاء، والقدرة على استجابته، فمتى عدم شرط بطل أن يكون مدعوًّا فكيف اذا عدمت كلها؟! »انتهى .
و نظيرها قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
قال العلامة: ابن القيم رحمه الله في تفسيرها:
« حقيقٌ على كلِّ عبدٍ أن يستمع قلبه لهذا المثل و يتدبَّره حقَّ تدبُّره؛ فإنَّه يقطع موادَّ الشِّرك من قلبه، وذلك أنَّ المعبود أقل درجاته أن يقدر على إيجاد ما ينفع عابده وإعدام ما يضرُّه، والآلهة التي يعبُدها المشركون من دون الله لن تقدر على خلق الذُّباب ولو اجتمعوا كلُّهم لخلقه! فكيف ما هو أكبر منه؟! ولا يقدرون على الانتصار من الذُّباب إذا سلبهم شيئًا مما عليهم من طيبٍ ونحوه فيستنقذوه منه، فلا هم قادرون على خلقِ الذُّباب الذي هو من أضعف الحيوانات، ولا على الانتصار منه واسترجاع ما سلبهم إيَّاه .
فلا أعجزَ من هذه الآلهة، ولا أضعفَ منها فكيف يستحسنُ عاقلٌ عبادَتها من دون الله؟! ».(إعلام الموقعين:1/214).
« ولهذا ذم الله تعالى آلهة الكفار وعابها بسلب أوصاف الكمال عنها، فعابها بأنَّها لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم ولا تهدي ولا تنفع ولا تضر..، فقال تعالى حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام في محاجته لأبيه:{يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً}، فلو كان إله إبراهيم بهذه الصِّفة والمثابة لقال له آزر: وأنت إلهك بهذه المثابة فكيف تنكر عليَّ؟..، وكذلك كفار قريش كانوا مع شركهم مقرين بصفات الصانع سبحانه وعلوه على خلقه، وقال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ}، فلو كان إله الخلق سبحانه كذلك لم يكن في هذا إنكار عليهم واستدلال على بطلان الإلهية بذلك.
وقال تعالى في سورة طه عن السامري: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ، أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً}، ورجعُ القول: هو التَّكلم والتَّكليم .
وقال تعالى:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، فجعل نفيَ صفةِ الكلام موجبًا لبطلان الإلهية . وهذا أمرٌ معلومٌ بالفطِر والعقول السَّليمة والكتب السماوية: أنَّ فاقدَ صفاتِ الكمال، لا يكون إلهًا ولا مدبِّرًا ولا ربًّا، بل هو مذمومٌ معيبٌ ناقصٌ، ليس له الحمد لا في الأولى ولا في الآخرة، و إنما الحمد في الأولى والآخرة لمن له صفاتُ الكمالِ، ونعوتُ الجلالِ التي لأجلها استحقَّ الحمد ».(مدارج السالكين :34-35).
و من هنا نقِف على سفاهة المشركين و ضعفِ عقولهم:{ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ}، حيث سوَّوا في العبادة و الألوهية، بين الرَّب الخالق ذو الكمال المطلق من جميع الوجوه، و بين معبوداتهم الناقصة المربوبة، التي لا تملك لنفسها و لا لغيرها ضرَّا و لا نفعًا، و لا موتًا و لا حياةً و لا نشورًا، فلا أجهل منهم، و لا أضعف عقولًا منهم، قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ}، و قال تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}، و قال جلَّ شأنه: { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً }.
قال العلامة: ابن القيم رحمه الله عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ }:
« وهذا المثلُ من أبلغِ ما أنزل الله سبحانه في بطلان الشِّرك وتجهيلِ أهله وتقبيحِ عُقولهم والشَّهادة على أن الشَّيطان قد تلاعبَ بهم أعظم من تلاعُبِ الصِّبيانِ بالكرة! حيث أعطوا الإلهية التي من بعض لوازمها القُدرةُ على جميع المقدورات، والإحاطةُ بجميع المعلومات، والغنى عن جميع المخلوقات، وأن يصمد إلى الرِّب في جميع الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللَّهفات، وإجابة الدَّعوات، فأعطوها صُورًا وتماثيل يمتنع عليها القدرة على أقلِّ مخلوقات الإله الحق وأذلِّها وأصغرِها وأحقرِها ولو اجتمعوا لذلك وتعاونوا عليه.
فمن جعل هذا إلها مع القوي العزيز فما قدره حق قدره ولا عرفه حق معرفته ولا عظمه حق تعظيمه».( إعلام الموقعين:1/214).
و قال العلامة: الشنقيطي رحمه الله في تفسيره العظيم:( أضواء البيان :2/155):
« ومعلومٌ أنَّ تسوية ما لا يضرُّ ولا ينفع ولا يقدرُ على شيءٍ، مع من بيده الخيرُ كلُّه المتصرِّفُ بكلِّ ما شاء، لا تصدر إلا ممَّن لا عقلَ له، كما قال تعالى عن أصحاب ذلك:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}».انتهى .

فما أقبح الشِّرك و التَّنديد، و ما أعظمه من جرم، و ما أشنعه من ذنب! كيف لا؟! و هو « تنقُّصٌ لربِّ العالمين ، وصرف خالص حقِّه لغيره، وعدل غيره به كما قال تعالى: { ثمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُون }؛ ولأنه مناقضٌ للمقصود بالخلق والأمر، منافٍ له من كلِّ وجهٍ، وذلك غاية المعاندة لرب العالمين ، والاستكبار عن طاعته، والذُّلِّ له، والانقياد لأوامره الذي لا صلاح للعالم إلا بذلك، فمتى خلا منه خرِبَ وقامت القيامة..؛ ولأنَّ الشِّرك تشبيهٌ للمخلوق بالخالق ـ تعالى وتقدَّس ـ في خصائص الإلهية من ملك الضرِّ والنَّفع، والعطاء والمنع الذي يوجب تعلق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل وأنواع العبادة كلها بالله وحده، فمن علَّق ذلك بخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل من لا يملك لنفسه {ضرًا ولا نفعًا ولا... موتًا ولا حياةً ولا نشورًا}... فضلًا عن غيره، شبيهًا بمن {لَهُ الْخَلْقُ}كلُّه، {وَلَهُ الْمُلْكُ} كلُّه وبيدِه الخيرُ كلُّه، {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ}، فأقبح التَّشبيه تشبيه العاجز الفقير بالذَّات، بالقادر الغني بالذات، ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجه، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلُّها له وحده..، و غايةُ الحبِّ مع غاية الذُّل، كلُّ ذلك يجب عقلًا وشرعًا وفطرةَ أن يكون لله وحده، ويمتنع عقلاً وشرعًا وفطرةً أن يكون لغيره، فمن فعل شيئًا من ذلك لغيره، فقد شبَّه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا مثل له ولا ندَّ له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله، فلهذه الأمور وغيرها أخبر سبحانه أنه لا يغفره مع أنه {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}».( تيسير العزيز الحميد115).
و العلم عند الله تعالى، و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

منقول، جزى الله كاتبه خير الجزاء.