السلطان مراد الثاني (1421-1451م)
30-03-2021, 12:40 PM


كان مراد الثاني Murad II هو الحاكم السادس للدولة العثمانيَّة، وهو من الحكَّام المتميِّزين الذين ساعدوا في استقرار وضع الدولة العثمانيَّة بعد كارثة أنقرة، ودور الفترة، وبذلك كان مكمِّلًا لدور أبيه في إعادة بناء الدولة العثمانيَّة. ومع أنه كان عند توليه الحكم يبلغ سبعة عشر عامًا فقط إلا إنه كان قائدًا حكيمًا موهوبًا، وكان؛ كما وصفه المؤرِّخ الأميركي ول ديورانت بقوله: «كان قائدًا كأحسن ما يكون القادة»[1]. أمَّا القرماني فقد قال عنه: «كان ملكًا، عالمـًا، عاقلًا، شجاعًا، وكان يُبدي العناية بالعلم والعلماء»[2].

لم تكن التحدِّيَّات التي واجهت هذا السلطان الشاب عند استلامه للحكم بعد وفاة أبيه المفاجئة سهلة؛ إنما كانت في الواقع بالغة التعقيد، وكان صغر سنِّه دافعًا لأطماع أعداء الدولة أن تتزايد، فبرز من هؤلاء الأعداء الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني، وبرز كذلك الأمراء الأتراك في الأناضول، كما برز بوضوح عدَّة قادة أوروبيين؛ في المجر، والإفلاق، والبوسنة، واليونان، وصربيا، وألبانيا، والبندقية، ويبدو أن فترة السلام النسبي التي عاشتها هذه الدول في أثناء فترة حكم محمد الأول كانت سببًا في إعطائهم الفرصة لتقوية جيوشهم، وتنمية أطماعهم في التخلُّص من كابوس الدولة العثمانية.

حَكَم مراد الثاني الدولة العثمانيَّة ثلاثين سنة، من عام 1421م إلى 1451م، ويُمكن لنا -لسهولة فهم هذه الفترة الطويلة- أن نقوم بتقسيمها إلى أربع مراحل، تتميَّز كلُّ مرحلةٍ منها بصفاتٍ خاصَّة:

المرحلة الأولى: سبع سنوات من سنة 1421م إلى سنة 1428م، وكانت معنيَّةً بتثبيت الأقدام، واستقرار الأمور، وتقليص أطماع الأعداء في الدولة.

المرحلة الثانية: أحد عشر عامًا بدايةً من عام 1428م حتى عام 1439م، وفيها ستبدأ الدولة في التوسُّع واستعادة أملاكها المفقودة.

المرحلة الثالثة: مرحلة صعبة وخطرة، وتمتدُّ لخمس سنوات؛ من 1439م إلى 1444م، وفيها ستتعرَّض الدولة لبعض الأزمات السياسيَّة والعسكريَّة، التي ستُمثِّل تهديدًا حقيقيًّا لاستقرارها.

المرحلة الرابعة والأخيرة: سبع سنوات من عام 1444م إلى 1451م، وفيها ستعود الأمور إلى الاستقرار، ويستعيد السلطان بعضًا ممَّا فقدته الدولة في المرحلة السابقة.

المرحلة الأولى: مرحلة تثبيت الأقدام: (1421- 1428م)
يمكن الحديث عن هذه المرحلة تحت أربعة عناوين رئيسة:

أولًا: الدولة البيزنطية: كان السلطان مراد الثاني راغبًا في الاطمئنان على الوضع الداخلي في الدولة، خاصَّةً في الأناضول؛ لذلك سعى إلى تجديد الصلح الذي قام به أبوه قبل ذلك مع الإمبراطور البيزنطي؛ ولكن الإمبراطور أراد استغلال الظرف الصعب الذي تمرُّ به الدولة العثمانية، فقرَّر الضغط على السلطان الشاب بطلب تسليم اثنين من إخوته رهينة لديه لضمان تنفيذ الصلح، وإلا سيُطْلِق عمَّ السلطان، وهو الأمير مصطفى بن بايزيد الأول[3]، والمأسور في الدولة البيزنطية منذ عام 1416م، وقد وجد السلطان مراد الثاني في طلب الإمبراطور إهانةً له وللدولة فرفضه، ومِنْ ثَمَّ أطلق الإمبراطور الأميرَ مصطفى، ودعمه بالسلاح، وسرعان ما بدأ هذا العمُّ في تجميع الأنصار، وحقَّق بعض الانتصارات، وهزم جيشًا عثمانيًّا كان بقيادة الوزير الأول في الدولة، فاضطرَّ السلطان مراد الثاني إلى أن يواجهه شخصيًّا بحملةٍ كبيرةٍ كان النصر حليفه فيها، وقُبِض على المتمرِّد مصطفى ثم أُعدِم؛ وذلك في عام 1422م[4].

لم يكتفِ السلطان مراد الثاني بما حقَّقه من نجاحٍ في وأد الفتنة التي أشعلها إمبراطور بيزنطة، إنما أراد أن يستغلَّ هذا النجاح في تقليص خطر الدولة البيزنطية إلى أكبر درجةٍ ممكنة، فحاصر مدينة القسطنطينية في عام 1422، وقذفها بالمدافع الناريَّة[5]. يُحْتَمل أن تكون هذه هي المرَّة الأولى التي يستخدم فيها الجيش العثماني هذه المدافع. -أيضًا- حاصر السلطان مدينة سالونيك المهمَّة في عام 1423م[6]. كانت النتيجة أن أذعن الإمبراطور للسلطان، وطلب الصلح على أن يدفع جزيةً سنويَّةً إلى الدولة العثمانية قيمتها ثلاثمائة ألف أقجة فضية، وكانت هذه المعاهدة في 1424م[7]. مات الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني في 21 يوليو 1425، وخلفه ابنه الإمبراطور چون الثامن John VIII على الحكم[8]. لم يحدث تغيير سياسي في ظلِّ الولاية الجديدة لچون الثامن، ومِنْ ثَمَّ ساد الهدوء على الجبهة البيزنطية لمدَّة خمس عشرة سنةً كاملة!

ثانيًا: الإمارات التركية في الأناضول: كانت هذه الإمارات تابعةً للدولة العثمانية أيام بايزيد الأول؛ ولكن خلال موقعة أنقرة انضمت أثناء القتال إلى تيمور لنك فحدثت الكارثة العسكريَّة المشئومة، ومن يومها وهم مستقلون، ولقد اكتفوا أيام محمد الأول بالتوازن مع الدولة العثمانية، أمَّا الآن، وفي وجود السلطان صغير السنِّ فقد زادت الطموحات، ورغبوا في التوسُّع على حساب العثمانيين. كانت البداية في إمارة قرمان، المنافس التقليدي للعثمانيِّين، وقامت ثورةٌ ضدَّ الدولة العثمانية؛ لكنها انتهت بمقتل أمير قرمان محمد بك الثاني[9].

لتهدئة الأوضاع في قرمان -وهي أخطر الولايات في الأناضول- دَعَم السلطانُ إبراهيم بك بن القتيل محمد الثاني في الوصول إلى حكم الإمارة في عام 1424م؛ وذلك بعد حربٍ داخليَّةٍ فيها، على أن يكون تابعًا له[10]. لضمان هذه التبعيَّة زوَّج السلطان أخته لإبراهيم بك؛ بل زوَّج أختين كذلك لابنين آخرين من أبناء محمد الثاني، ثم أرسلهما ليكونا قادة بعض المناطق في الروملي (أوروبا)[11]، وقد آثر أن يُفَرِّق أولاد أمير قرمان في أماكن مختلفة في الدولة حتى لا تتجمع لهم قوَّةٌ في قرمان يمكن أن تُحْدِث خطرًا مستقبليًّا. كان هذا نجاحًا كبيرًا للسلطان الجديد، وكان لا بُدَّ له أن يستثمر هذا الحدث في تثبيت قدمه في الأناضول. التفت السلطان فورًا إلى إمارة چاندار (قسطموني)، التي دعمت الثورة ضدَّ الدولة، وقد رضخ أميرها بسرعةٍ لضغط السلطان، وتنازل عن نصف أراضيه له؛ بل زوَّجه من ابنته لتأكيد الولاء[12].

كان من نتيجة هذا النجاح أن رضخت كذلك إمارات منتشه، وتكة، وآيدن، ودخلت كلُّها في الدولة العثمانية عام 1425[13]. وبعد هذه الأحداث بثلاث سنوات؛ أي في سنة 1428، تُوفِّي أمير إمارة كرميان دون عقب، فأوصى بالإمارة إلى السلطان مراد الثاني، فدخلت بذلك في حدود الدولة العثمانية[14]، وبذلك يكون مراد الثاني قد استردَّ تقريبًا جميع ما فصله تيمور لنك عن الدولة العثمانية عقب موقعة أنقرة، باستثناء المناطق الشرقية الجنوبية من الأناضول، التي كانت تدين بالولاء لدولة المماليك في مصر؛ فقد آثر السلطان مراد الثاني أن يتعامل معها دبلوماسيًّا ليضمن حسن العلاقة مع الدولة المصرية، وهذا في الواقع من حسن تدبيره، وسموِّ أخلاقه.

ثالثًا: البندقية: مرَّ بنا أن السلطان مراد الثاني حاصر مدينة سالونيك عام 1423م، وكان السلطان يرى أن هذه المدينة تابعةٌ للمسلمين وليس للدولة البيزنطية؛ لأنها كانت قد ضُمَّت للعثمانيين عام 1387م، واستردَّها البيزنطيون في عام 1403م بعد كارثة أنقرة[15]. في هذه العشرين سنة حصلت سالونيك على حكمٍ ذاتيٍّ في ظلِّ الإمبراطورية البيزنطية[16]، وكان حاكمها في الفترة من 1408 إلى 1423م هو أندرونيكوس Andronikos، ابن الإمبراطور مانويل الثاني[17].

لم تكن لهذا الأمير قدرةٌ على مقاومة الحصار العثماني الذي بدأ في عام 1423م، فسلَّم مدينته للبنادقة أعداء العثمانيين، نظير مبلغ خمسين ألف دوقيَّة ذهبيَّة، ليضمن عدم ذهاب المدينة للدولة العثمانية[18]. كان هذا استفزازًا للدولة العثمانية التي تجهَّزت لحرب البنادقة، فأسرعت الجمهوريَّة بإرسال مبعوثٍ للتفاوض؛ ولكن السلطان ردَّ عليه بحسم قائلًا: «هذه المدينة جزء من الدولة العثمانية منذ عهد جدِّي بايزيد الذي فتحها من أيدي البيزنطيين، فما لكم أنتم أيها الإيطاليون اللاتين بهذه المناطق من بلادنا؟»[19]. أدَّى فشل المفاوضات إلى حربٍ بين العثمانيين والبنادقة؛ ولكنها لم تكن حربًا على نطاقٍ واسع؛ إنما أخذت شكل المناوشات العسكريَّة؛ سواء حول سالونيك التي يحاصرها العثمانيون منذ 1423م، أم في بحر إيجة في عدَّة نقاطٍ حربيَّةٍ أخرى[20].

تخلَّل هذه الحرب اتفاقات سلمية قَبِل فيها البنادقة بدفع جزية إلى الدولة العثمانية في مقابل حكم سالونيك؛ ولكن سرعان ما كانت تنهار هذه الاتفاقات وتعود المناوشات[21]. من الجدير بالذكر أنه أثناء هذا الصراع البندقي العثماني كان كثيرٌ من سكان سالونيك اليونانيين يُفَضِّلون التسليم للعثمانيِّين على البقاء تحت حكم اللاتين البنادقة؛ بل كان بعضهم يهرب من المدينة بالفعل إلى جانب العثمانيِّين[22]. انتهى الصراع بنصرٍ كبيرٍ للدولة العثمانية على البنادقة، ودخل السلطان مراد الثاني مدينة سالونيك فاتحًا في 29 مارس 1430م[23]، واضطرَّت البندقية إلى طلب الصلح حرصًا على مصالحها التجارية في المنطقة، فعُقدَت معاهدة جاليبولي في يوليو 1430م، وتمَّ التصديق عليها في 4 سبتمبر 1430م، وفيها أقرَّت البندقية بامتلاك الدولة العثمانية لسالونيك[24].

رابعًا: المجر: عقد السلطان مراد الثاني فور توليه الحكم معاهدة هدنة مع دولة المجر القويَّة لمدَّة خمس سنوات[25][26]. عندما اشتعلت الصدامات بين الدولة العثمانية والبندقية أراد ملك المجر سيجيسموند اللكسمبورجي Sigismund of Luxemburg استغلال انشغال العثمانيِّين في هذه الحروب، في محاولة توسيع النفوذ المجري في صربيا، فحاصر في ربيع عام 1428م قلعة جلوباك Golubac التابعة للدولة العثمانية (في صربيا على بعد مائة كيلو متر شرق بلجراد، على نهر الدانوب) وقذفها بالمدافع.

لم تكن المدافع آنذاك متطوِّرةً بالدرجة التي يمكن أن تُدمِّر أسوار جلوباك الحصينة؛ لكنها كانت إشارةً إلى حرص المجر على الوصول إلى أعلى التقنيَّات العسكريَّة آنذاك. يُعتبر الملك سيجيسموند هو الأوَّل من ملوك المجر استخدامًا للمدافع الناريَّة، وهو أوَّل من أنشأ ترسانةً عسكريَّةً في العاصمة بودا[27]. يُذْكَر أن الدولة العثمانية أدخلت المدافع النارية قبل المجر بسنوات؛ حيث وردت بعض التقارير تفيد أنه من المحتمل أن العثمانيِّين استخدموا المدافع في معركة كوسوڤو الأولى عام 1389م، وفي معركة نيكوبوليس عام 1396م[28]، غير أنه من المؤكَّد أن مرادًا الثاني استعملها في حصار القسطنطينية عام 1422م كما مرَّ بنا.

صمدت الحامية العثمانية في جلوباك، وأرسل إليها السلطان مراد الثاني فرقةً تمكنت من رفع الحصار عن القلعة، ثم أتى بنفسه، وحقَّق النصر الحاسم على الجيش المجري عند مدينة ڤيدين Vidin البلغارية[29]. كان من نتيجة المعركتين؛ جلوباك وڤيدين، أن طلبت المجر الهدنة من جديد مع العثمانيِّين، فوُقِّعَت لمدَّة ثلاث سنوات[30]. كانت للمعركة نتائج كبرى أخرى؛ إذ كانت الدولة العثمانية والمجر متصارعتين دومًا على صربيا، وكلٌّ منهما يسعى لجعلها تابعةً له؛ ولكن بعد هذا الانتصار الأخير أعلن چورچ برانكوڤيتش George Brankovic أمير صربيا ولاءه الصريح للدولة العثمانية، وقَبِل بدفع جزيةٍ سنويَّةٍ قدرها خمسون ألف دوكا ذهبية، وتنازل للعثمانيين عن مدينة كروشيڤاتس Kruševac المهمَّة لتكون قاعدةً عسكريَّةً لهم، وقطع علاقاته الدبلوماسيَّة مع المجر، وفوق ذلك زوَّج ابنته مارا Mara من السلطان مراد الثاني[31]! وبذلك تكون الدولة العثمانية قد وضعت قدمًا راسخة في جنوب صربيا، وهو ما سيُؤثِّر إيجابيًّا لصالحها في السنوات القادمة.

هذه هي المرحلة الأولى في فترة حكم السلطان مراد الثاني، وقد كانت مفاجِئةً للجميع؛ حيث تحقَّق فيها من النجاح أضعاف ما كان يتوقَّعه أشدُّ المتفائلين؛ إذ استقرَّت الأوضاع في الأناضول، وانضوت تحت جناح الدولة العثمانيَّة معظم الإمارات التركيَّة، وتحقَّق النصر في أكثر من معركةٍ على قوى عالميَّةٍ مهمَّة مثل المجر، والبندقية، والدولة البيزنطية، وأقرَّت صربيا بالتبعيَّة للدولة العثمانية، وصار الطريق مفتوحًا لإنجازاتٍ أخرى على الساحة الأوروبية، والأهم من كلِّ شيءٍ هو عودة الهيبة للدولة؛ فقد صار لها من الرصيد في قلوب الأوروبيين ما كان لها في أيَّام بايزيد الأول.

المرحلة الثانية: مرحلة الاستقرار والتوسُّع النسبي: (1428-1439م)
أدرك الجميع أن الدولة العثمانية صارت ثابتةً ومستقرَّةً بعد ولاية السلطان مراد الثاني؛ لذلك فبداية من عام 1428م والأحداث هادئة إلى حدٍّ كبيرٍ في الأناضول والروملي، ولا يمنع ذلك من حدوث بعض الاحتكاكات العسكريَّة هنا أو هناك، فمنها ما مرَّ بنا قبل ذلك في الصدام الذي حدث مع البندقية في سالونيك عام 1430م، وتبعه عقد معاهدةٍ سلميَّةٍ في السنة نفسها، وهي المعاهدة التي حافظت على الهدوء على جبهة البندقية لمدَّة ثلاث عشرة سنةً كاملة. أمَّا بالنسبة إلى المجر فهي لم تكن راضيةً عن التقدُّم الذي حقَّقته الدولة العثمانية في البلقان، ولم تكن قانعةً بمعاهدة الهدنة التي تمَّت بين الفريقين؛ لذلك فقد كان سعيها حثيثًا لإيجاد الفرص للتمدُّد في الأقطار البلقانيَّة، وأهمها صربيا، والبوسنة، وألبانيا، والإفلاق، ولقد نتج عن هذه التحرُّشات عدَّة صداماتٍ عسكريَّةٍ في هذه الفترة، وكانت في مجملها لصالح الدولة العثمانية، ويمكن أن نرصد بعض النتائج لهذه الصدامات على النحو التالي:

أولًا: في الجانب الروماني، ونتيجة الأطماع المجريَّة في إقليم الإفلاق، اضطرَّ مراد الثاني إلى الردِّ على تعديات المجر في هذه المنطقة بغزو الإفلاق؛ بل تجاوزها عام 1432م إلى ترانسلڤانيا Transylvania شمال رومانيا، ومرَّةً أخرى عام 1437م، وفي هذه المرَّة الأخيرة بقي السلطان مراد الثاني بنفسه في ترانسلڤانيا مدَّة خمسة وأربعين يومًا[32]، وهذا تحدٍّ كبيرٍ للمجر؛ حيث كان قريبًا منها وبعيدًا عن عاصمته إدرنة. تزامن مع هذا الغزو الأخير موت سيجيسموند ملك المجر (9 ديسمبر 1437م)، وهذا أدَّى إلى ضعف المجر نسبيًّا، ممَّا دفع أمير الإفلاق آنذاك، وهو ڤلاد دراكول Vlad Dracul، الذي كان مواليًا للمجر، إلى قبول التبعيَّة للدولة العثمانية، ودفع الجزية السنوية إليها[33].

ثانيًا: اكتسح الجيش العثماني ألبانيا في 1431م وثبت أقدامه هناك، وضمَّ مدينة يانيا Ioannina[34]، وبذلك عادت ألبانيا إلى التبعيَّة العثمانية كسابق عهدها أيام بايزيد الأول.

ثالثًا: تكرَّرت المحاولات المجريَّة لوضع قدمٍ في البلقان، وكانت هذه المرَّة في البوسنة، وكانت النتيجة حدوث صراعاتٍ أهليَّةٍ في البوسنة بين ملكها تڤرتكو الثاني Tvrtko II، ومنافسه راديڤوي Radivoj، بدايةً من عام 1430م، وقد استعان الأول بالمجر، والثاني بالدولة العثمانية؛ ومع ذلك، وبعد تقلبات سياسيَّة كثيرة، غيَّر الفريقان البوسنيَّان ولاءهما، وصار تڤرتكو الثاني مواليًا للعثمانيِّين في عام 1436م، الذين ثبَّتوه مَلِكًا على البوسنة، ومِنْ ثَمَّ قَبِل بالتبعيَّة الكاملة، ودفع الجزية السنويَّة إلى الدولة العثمانيَّة[35][36].

على الرغم من هذه الانتصارات العسكرية فإنَّ التوسعات العثمانية لم تكن كبيرة في عهد السلطان مراد الثاني؛ وذلك أنه لم يكن حريصًا -على الرغم من تفوُّقه العسكري- على توسيع رقعة الدولة، ولم يكن حريصًا على تحيُّن الفرص للصدام مع الأعداء، والسِّرُّ في ذلك يرجع إلى أمرين:

أمَّا الأول فهو أنه كان بطبيعته يُؤْثِر السلم على الحرب؛ ومع أنه حارب في معارك شتى في حياته، إلا أنه لم يسعَ إلى القتال في أيٍّ من معاركه، إنما فُرِض عليه الصدام فرضًا، حتى عندما كان يُهاجم فإن ذلك يكون من منطلق الدفاع، فالهجوم في رؤيته خير وسيلةٍ للدفاع؛ ولكنه لم يكن يفعل ذلك إلا مع مَنْ هاجموه مرارًا قبل ذلك. ولقد شهد بسلميَّته هذه المؤرِّخون البيزنطيون النصارى الذين عاصروه؛ ومع أنهم ينتمون إلى دولةٍ معاديةٍ لمراد الثاني إلا أنهم شهدوا له شهاداتٍ عجيبة! يقول المؤرِّخ البيزنطي لاونيكوس تشالكوكونديليس Laonikos Chalkokondyles، الذي كان يعيش في أثينا في زمان مراد الثاني: «كان مراد الثاني رجلًا يُحبُّ العدل والقانون، وكان موفَّقًا تَسِيرُ الأمورُ إلى جانبه. كان يُقاتل للدفاع فقط، ولم يبدأ أيَّ أعمالٍ عدائيَّة، لكنَّه كان يُقاتل فورًا مَنْ قاتله. إذا لم يَتَحَدَّه أحدٌ للحرب فإنَّه لا يكون متحمِّسًا أبدًا للحملة العسكريَّة؛ ومع ذلك فهو لم يكن يخشى الحرب إذا حدثت. إذا قرَّر القتال فإنَّه يستطيع أن يفعل ذلك في الشتاء، وفي أسوأ الأحوال، ولا يهتمُّ حينئذٍ بالتعب أو المخاطر»[37]. ويقول المؤرِّخ البيزنطي دوكاس Doukas، الذي كان يعمل لدى حكومة چنوة الإيطاليَّة، التي أرسلته أكثر من مرَّة في مباحثاتٍ دبلوماسيَّةٍ مع البلاط العثماني[38]؛ وذلك في عهد مراد الثاني: «أعتقد أنَّ اللهَ عاملَ الرجل بحسب الأعمال الصالحة التي قام بها من أجل مصلحة الشعب، وبحسب الشفقة التي أبداها للمعوزين، ليس فقط لأولئك المحتاجين من أمَّته وأبناء عقيدته؛ ولكن للنصارى كذلك. المعاهدات التي عقدها وأقسم عليها بالأيمان المقدَّسة كان لا ينقضها أبدًا حتى النهاية. لو أنَّ بعض النصارى انتهكوا المعاهدات ونقضوا الأَيْمَان فإنَّهم كانوا لا يفلتون من عقاب الله. لقد كانوا يُعَاقَبون بعدالةٍ من المنتقم. لم يكن غضب مراد الثاني مُفْرِطًا. بعد النصر لم يكن يشرع في مطاردةٍ حاميةٍ للجيش الهارب؛ بل أكثر من ذلك لم يكن متعطِّشًا للتدمير الكامل للأمم المهزومة؛ ولكن بمجرَّد أن تتقدَّم الأمَّة المغلوبة بطلب السلام فإنَّه يقبل عرضها بشغف، ويُعيد سفراءهم في سلام. لقد كان بحقٍّ يزدري الحرب، ويُحبُّ السلام، ولهذا فقد منحه الله موتًا سِلْمِيًّا بدلًا من أن يموت بالسيف»[39]!

وأمَّا السبب الثاني في قلَّة فتوحات مراد الثاني بالقياس إلى أسلافه من السلاطين هو أنه كان شخصيَّةً متكاملةً تهتمُّ بكلِّ جوانب الدولة، ولقد حاول أن يُحقِّق التوازن في شكل دولته، فلا تكون دولةً جهاديةً فقط تعتمد على الحرب في وجودها؛ إنما أراد أن يستكمل بقيَّة الأوجه الحضاريَّة للدولة الجيِّدة، فكان يُفرِّغ من وقته وجهده ما يدعم استكمال النهوض بالمجالات الاقتصادية، والعلمية، والاجتماعية، والعمرانية، وغير ذلك من مجالات، ولقد كان السلطان مراد الثاني على سبيل المثال من أكابر المهتمِّين بالإعمار؛ فالجوامع والكليات الموجودة في بورصا وإدرنة من إنجازاته، وكذلك دار الحديث التي أسَّسها في عام 1435م، و-أيضًا- الجامع ذو الشرفات الثلاثة وكلِّيَّاته، وقد تأسَّست عام 1447م، وجسر أوزون (Uzunköprü أي الجسر الطويل باللغة التركية) على نهر أركنه Ergene River الذي استغرق تشييده ستَّة عشر عامًا، وافتُتح في عام 1443م[40]. لهذا يقول المؤرِّخ الأميركي چاستين مكارثي Justin McCarthy: «يُمكن اعتبار مراد الثاني رجل سلامٍ دُفِعَ إلى الحروب. على المستوى الشخصي كان اهتمامه الأكبر بالإصلاحات الداخليَّة وبلاط الحكم، وتحت قيادته بدأ البلاط العثماني يُشبه البلاطات العظيمة لحكَّام الشرق الأوسط السابقين، وزادت إدرنة بشكلٍ كبيرٍ في الحجم والقوَّة الاقتصاديَّة، وأخذت المدينة شكل العاصمة الإسلاميَّة على الرغم من النسبة العالية للسكَّان النصارى. بنى مراد الثاني مدارس عظيمة ومبانيَ إسلاميَّة أخرى متميِّزة. كان مراد الثاني مهتمًّا بالبنية التحتيَّة الاقتصاديَّة للدولة»[41]. من الواضح إذن أن السلطان العظيم كان يُفَضِّل أن يُوَجِّه طاقاته إلى بناء الدولة واستقرارها؛ بل كان يبذل جهده الأعظم في بناء الإنسان، وهذا عاد على الدولة العثمانية بأفضل الآثار.

لم تشهد هذه المرحلة الثانية من حياة السلطان مراد الثاني أحداثًا مؤسفةً اللهم أمرين، وكلاهما كان في عام 1437م؛ أمَّا الأول فهو تمرُّد إبراهيم بك والي قرمان، وزوج أخت مراد الثاني، وقد واجه السلطان هذا التمرُّد بقوَّةٍ وقَمَعَه؛ ومع ذلك أبقى إبراهيم بك في منصبه! وأمَّا الحدث الثاني فكان وفاة الأمير أحمد وليِّ العهد، وابن السلطان مراد، عن عمرٍ يقلُّ عن ثمانية عشر عامًا، وكانت صدمةً كبيرةً للسلطان وللدولة، وصار الابن الأوسط علاء الدين وليًّا للعهد وهو في الثانية عشرة من عمره[42].

المرحلة الثالثة: مرحلة الاضطراب (1439-1444م)
مع أن بداية هذه المرحلة كانت انتصارًا كبيرًا للعثمانيين على الجيوش الأوروبية إلا أن تداعيات هذا النصر كانت وخيمةً على الدولة العثمانية؛ وذلك لتزامن عدة أحداث مع بعضها البعض أدَّت إلى هذا التطوُّر. تبدأ القصة بخيانة أمير صربيا چورچ برانكوڤيتش لعهده مع السلطان مراد الثاني مستغلًّا انهماك السلطان في قمع التمرُّد القرماني الذي أشرنا إليه آنفًا، فتعدَّى الأمير الصربي على الأراضي العثمانية، وتواصل مع المجريين لأجل دعمه، متجاهلًا معاهدته مع السلطان العثماني، والتي دعمها قبل ذلك عن طريق تزويج ابنته مارا من السلطان! كان ردُّ السلطان حاسمًا على هذه الخيانة، فقام بحملةٍ عسكريَّةٍ كبرى على بلاد الصرب، وضرب الحصار على مدينة سمندرية Smederevo في يونيو 1439م، وهذه من أهمِّ المدن في صربيا بعد بلجراد، ثم أسقطها في أغسطس من السنة نفسها، ممَّا دعا برانكوڤيتش إلى الهروب إلى المجر لطلب المساعدة[43]. تبع هذا التفوُّق موتٌ فجائيٌّ لملك المجر ألبرت King Albert في أكتوبر 1439م، وقيام حربٍ أهليَّةٍ في المجر للتَّصارع على الحكم[44]، واستغلَّ مراد الثاني هذه الأحداث ليُحاصر بلجراد في أبريل عام 1440م[45]، وبلجراد عاصمة الصرب هي مدخل وسط أوروبَّا، وبوابة الدخول إلى العالم الكاثوليكي، ولهذا فقد سبَّب حصارها حركةً نشيطةً في الأوساط الأوروبِّيَّة، وبالتالي تداعياتٍ كبرى على الدولة العثمانيَّة؛ ومع أنَّ الأحداث التي ذكرناها في عام 1439م وبدايات 1440م كانت في صالح العثمانيِّين إلَّا أنَّ التطوُّر السياسي والعسكري في السنوات الأربع التالية -أي من سنة 1440م إلى سنة 1444م- كان في صالح الأوروبيين؛ وذلك نتيجة تزامن بعض الأمور، ومنها ما يلي:

أوَّلًا: على عكس ما كان متوقَّعًا من حدوث أزمةٍ في المجر نتيجة الصراع على كرسي الحكم بعد وفاة الملك ألبرت، دعا مجلس الشيوخ في المجر ملكَ بولندا ڤلاديسلاڤ الثالث Vladislav III لحكم المجر وكرواتيا بالإضافة إلى حكم بولندا[46]، وكان ذلك في 8 مارس 1440م[47]. كانت النتيجة تكوُّن دولةٍ كبيرةٍ تصل من الشمال الغربي للبحر الأسود إلى بحر البلطيق في الشمال، وتضمُّ عدَّة جيوشٍ قويَّةٍ في كيانٍ واحد، ولا شَكَّ أنَّ هذا لم يكن في صالح الدولة العثمانيَّة.

ثانيًا: تعرَّضت الجيوش العثمانيَّة لهزيمةٍ قاسيةٍ في عام 1440م عند أسوار بلجراد بعد حصار ستَّة أشهرٍ كاملة، وبينما لم تذكر المصادر العثمانيَّة شيئًا عن خسائر مراد الثاني في المعركة ذكرت المصادر الغربيَّة أنَّ القتلى المسلمين تجاوزوا سبعة عشر ألف مقاتل[48]، وسواءٌ صحَّ هذا الرقم أم لم يصح فإنَّ السلطان مرادًا الثاني أعلن الرحيل في أكتوبر 1440م، ولم ينجح في فتح المدينة، وكان من الواضح أنَّ الأزمة كبيرة؛ لأنَّ العثمانيِّين لم يُفكِّروا في غزو المدينة مرَّةً أخرى إلَّا بعد ست عشرة سنةً متتالية في زمن السلطان محمد الفاتح عام 1456م[49].

ثالثًا: ظهرت شخصيَّةٌ عسكريَّةٌ قويَّةٌ في المجر في ذلك الوقت، وهو العسكري القدير چون هونيادي John Hunyadi، وهو أحد أبرز العسكريِّين في تاريخ المجر، وكذلك في تاريخ رومانيا، التي كان شمالها يتبع المجر آنذاك، ويُعدُّ من الأبطال القوميِّين في هذه البلاد إلى زماننا الآن[50]، وقد أيَّد هذا العسكري الملكَ ڤلاديسلاڤ الثالث للتثبيت في حكم المجر وكرواتيا، ممَّا جعل الملك يُعطيه في فبراير 1441م ولاية إقليم ترانسلڤانيا الروماني[51]، وهذا جعله مواجِهًا للحدود العثمانيَّة، ومِنْ ثَمَّ صار مسئولًا عن حرب العثمانيِّين في هذه المرحلة، وهذا سبَّب أذًى كبيرًا للجيوش العثمانيَّة.

رابعًا: لم تكن هذه هي الهزيمة الوحيدة للجيوش العثمانيَّة؛ بل تعرَّضت لعدَّة هزائم أخرى في عامي 1441م و1442م، وكانت في معظمها على يد چون هونيادي ممَّا جعل له شهرةً واسعةً في أوروبَّا كلِّها، وأثَّر سلبًا على معنويَّات العثمانيِّين[52].
خامسًا: حمَّست هذه الانتصارات البابا أوچين الرابع Eugene IV على تجميع العالم النصراني في حربٍ صليبيَّةٍ ضدَّ الدولة العثمانيَّة، فبدأ بخطوة الإصلاح بين المتخاصمين في مملكتي المجر وبولندا؛ وذلك عن طريق إرسال الكاردينال چوليانو سيزاريني Giuliano Cesarini إلى المجر لعقد الصلح بين ڤلاديسلاڤ الثالث والمتنافسين معه على حكم المجر[53]، كما توسَّط الكاردينال نفسه لعقد معاهدةٍ بين ڤلاديسلاڤ الثالث وفريدريك الثالث Frederick III إمبراطور النمسا وألمانيا لضمان تفرُّغ ڤلاديسلاڤ لحرب العثمانيِّين بعد أن يأمن جانب النمسا وألمانيا[54].

سادسًا: في يناير 1443م أعلن البابا أوچين الرابع حملةً صليبيَّةً على الدولة العثمانيَّة تهدف إلى إخراجها بالكلِّيَّة من البلقان، وتفاعلت المجر وبولندا تمامًا مع الحملة، وكذلك عدَّة ممالك أوروبِّيَّة أخرى[55]. هذه الحملة هي نتاج دراسةٍ كبيرةٍ للموقف من البابا الكاثوليكي، الذي كان يُفكِّر في أمر هذه الحملة منذ أربع سنوات كاملة؛ أي من أوائل عام 1439م؛ وذلك حين جاء الإمبراطور البيزنطي چون الثامن إلى إيطاليا طالبًا الدعم من الغرب الأوروبي ضدَّ العثمانيين، وعُقِد حينها مجمعٌ كنسيٌّ مهمٌّ في فلورنسا Council of Florence، وأُخِذ فيه القرار بدمج الكنيستين الأرثوذكسية البيزنطية مع الكاثوليكية في نظير تقديم الغرب للمساعدة العسكريَّة للدولة البيزنطية[56]، والآن حان الوقت للقيام بالحملة العسكرية، وتحقيق الحلم البابوي بالسيطرة على الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية معًا.

سابعًا: في هذه الأثناء -أيضًا- انقلب حاكم قرمان المسلم إبراهيم بك مرَّةً جديدةً على الدولة العثمانيَّة، وتعاون مع ملك بولندا والمجر، بغية تقسيم الدولة العثمانيَّة بينهما[57]!

بإعادة تحليل هذه النقاط مجتمعة نعلم أنَّ وضع الدولة العثمانيَّة في هذه الحقبة التاريخيَّة صار خطرًا للغاية؛ فالأمم الصليبيَّة مجتمعةٌ عليها بشكلٍ لافت، والحرب دينيَّةٌ في المقام الأوَّل، وهناك رموزٌ عسكريَّةٌ قويَّةٌ في الجانب الصليبي يُمكن أن تُحقِّق انتصاراتٍ كبرى، بالإضافة إلى اضطراب الوضع الداخلي نتيجة التعاون السافر بين إمارة قرمان والأعداء الصليبيِّين.

مع هذا الوضع المتأزِّم الذي كانت الدولة العثمانيَّة تُعاني منه تلقَّت العائلة العثمانيَّة صدمةً جديدةً كبيرةً بوفاة وليِّ العهد علاء الدين بن مراد في مارس 1443م عن عمرٍ يُناهز ثمانية عشر عامًا[58]!

كانت وفاة علاء الدين كارثةً كبيرةً أصابت مرادًا الثاني بشدَّة، فهذا هو الابن الثاني الذي يفقده، ومن جديد فَقَدَه بعد أن كان قد تدرَّب على أمور القيادة في هذه الظروف الصعبة التي تمرُّ بها الدولة، وصار بذلك الأمير محمد -وهو أصغر الأخوة- وليًّا للعهد، وهو في الحادية عشرة من عمره، وهذا الأمير الأخير هو الذي سيصير لاحقًا محمدًا الفاتح.

لم يعد الأمر متعلِّقًا إِذَنْ بهزيمةٍ أو عدَّة هزائم ضدَّ الجيوش الأوروبِّيَّة؛ إنَّما صار الأمر متعلِّقًا بمستقبل الدولة ووجودها من الأساس، فالأوضاع الخارجيَّة والداخليَّة تُنذر بشرورٍ كثيرة، وهذا كلُّه أحبط نفسيَّة مرادٍ الثاني بشكلٍ كبير.

استمرَّت الأزمة العسكريَّة التي تُعاني منها الدولة العثمانيَّة في التفاقم، وأعلنت المجر وبولندا الحرب على الدولة العثمانيَّة في ربيع 1443م[59]، وأخذت في تجميع الجيوش من هنا وهناك، ثم بدأت الحرب في أكتوبر 1443م، وحقَّقت عدَّة انتصارات، كان أهمُّها انتصار نيشNish في 3 نوفمبر 1443م، وهي مدينةٌ في جنوب صربيا، وكان الانتصار كبيرًا بحيث إنَّه أدَّى إلى انسحاب الجيش العثماني وسقوط صوفِيا Sofia -وهي أهمُّ مدينةٍ عثمانيَّةٍ في هذه المنطقة- في يد چون هونيادي[60].

تداركت الجيوش العثمانيَّة عافيتها نسبيًّا، وحقَّقت نصرًا على جيوش أوروبَّا عند مدينة زلاتيتسا Zlatitsa، وهي مدينةٌ بلغاريَّةٌ على بُعْد حوالي خمسةٍ وستين كيلو مترًا شرق صوفِيا العاصمة، وكان هذا النصر في ديسمبر 1443م، وهو ما أوقف الجيوش الأوروبِّيَّة عن التقدُّم إلى إدرنة عاصمة الدولة العثمانيَّة[61].

كانت تداعيات هذه الحملة الصليبيَّة كبيرةً على الدولة العثمانيَّة، ويُمكن حصر الآثار السلبيَّة لهذه الحملة في النقاط التالية:

أوَّلًا: فَقَدَت الدولة العثمانيَّة معظم إمارة صربيا في هذه الحملة؛ وذلك بعد سيطرة المجريِّين على نيش.

ثانيًا: دُمِّرَ غربُ الدولة العثمانيَّة تمامًا؛ فقد أُحْرِقت صوفِيا وتحوَّلت المزارع الكثيفة في هذه البقاع إلى مناطق متفحِّمة تمامًا؛ وذلك أنَّ الأراضي كانت تُحْرَق من الطرفين؛ فكان المجريون يحرقونها بدافع التدمير، وكان العثمانيُّون يحرقونها عند انسحابهم لكيلا يستفيد المجريُّون منها[62].

ثالثًا: كانت هناك خسائر بشريَّة ضخمة في الجيش العثماني، كما كانت هناك خسائر كبرى كذلك في الجيوش المجريَّة والبولنديَّة[63]؛ لكن خسائر الجيش العثماني في رأيي كانت أخطر؛ لأنَّها أوَّلًا أكثر، وثانيًا من الجيش النظامي الرئيس؛ بينما كان المجريُّون والبولنديُّون يعتمدون على المرتزقة.

رابعًا: حدث اضطرابٌ إداريٌّ كبيرٌ في الجيش العثماني، وتبادل القادة الاتهامات نتيجة الهزائم، وقد فسَّر بعضهم الهزائم العثمانيَّة أنَّها نتيجة خلافاتٍ بين قادة الجيش، مثل ذلك الخلاف الذي حدث بين قاسم باشا وتوراهان بك[64]؛ بل وصل الأمر إلى اتِّهام توراهان بك بأخذ الرِّشوة من الزعيم الصربي برانكوڤيتش لكي لا يشترك في القتال، ولعلَّه نتيجة هذا الاتهام سَجَنَ مرادٌ الثاني توراهان بك في سجن توقات Tokat. ومع ذلك فقد أُطْلِق سراح القائد بعد قليل، وأُعيد إلى منصبه[65][66]، ممَّا يُوحي أنَّ الأمر لم يكن يعدو إشاعاتٍ غير صحيحة، وأيًّا كان الأمر فإنَّ هذا يدلُّ على مدى الاضطراب الذي كان يُعانيه الجيش العثماني.

خامسًا: أمَّا أخطر الآثار السلبيَّة لهزائم العثمانيِّين في هذه الفترة فكانت حادثة ارتداد أحد القادة العثمانيِّين عن الإسلام بعد هزيمة موقعة نيش (1443م)، وهو القائد الألباني إسكندر بك Scanderbeg، وكان نصرانيًّا قبل ذلك ثم أسلم، وترقَّى في مناصب الجيش العثماني على مرِّ السنوات[67]، ثم انتهى به المطاف إلى أن يكون أحد القادة في موقعة نيش، فلمَّا حدثت الهزيمة انسحب هو وثلاثمائة من الجنود الألبان من أرض القتال، ثم انطلقوا إلى ألبانيا معلنين رِدَّتهم عن الإسلام، وقد استطاع هذا القائد أن يحتلَّ كرويه Krujë، عاصمة ألبانيا في ذلك الوقت، وأن يُجمِّع حوله الأنصار لينفصل بذلك بإقليم ألبانيا التابع للدولة العثمانيَّة منذ عام 1385م[68]. في أوَّل مارس عام 1444م جمع إسكندر بك نبلاء ألبانيا في مدينة ليزهي Lezhë ليُكوِّن اتِّحادًا يُدير ألبانيا تحت قيادته عُرِف باتحاد ليزهي League of Lezhë[69]، وسوف يستمرُّ هذا الاتِّحاد بقيادة إسكندر بك في مقاومة الدولة العثمانيَّة لمدَّة أربعٍ وعشرين سنةً كاملة؛ أي إلى وفاة إسكندر بك عام 1468م؛ بل ستستمرُّ مقاومة الألبان إلى ما بعد موته إلى عام 1479م.

إنَّه حدثٌ فارقٌ في تاريخ الدولة العثمانيَّة في هذه الحقبة.

بجمع كلِّ النقاط السابقة نفهم أنَّ مرادًا الثاني أدرك أنَّ الدولة العثمانيَّة ستدخل بعد شهورٍ قليلةٍ في منعطفٍ خطر جدًّا؛ فالأعداء في قوَّةٍ متزايدة، والأحوال الداخليَّة مضطربة، وبعض الولايات تسعى إلى الاستقلال، وبعضها -كصربيا وألبانيا- قد استقلَّ بالفعل، وسيأتي فصل الربيع وأوائل الصيف بحملةٍ صليبيَّةٍ جديدةٍ قد تُؤثِّر في الوجود العثماني بالبلقان. كلُّ هذا دفعه إلى اختيارٍ لم يكن يُحبِّذه في السنوات الماضية، وهو عرض اتِّفاقيَّة سلامٍ مع المملكة المتَّحدة للمجر وبولندا؛ ومع أنَّ مرادًا الثاني كان يُؤثر السلام في حياته على الحرب، إلَّا أنَّه لم يكن يرغب في أن يعرض هو السلام في مثل هذه الظروف؛ لأنَّ ڤلاديسلاڤ الثالث سيُملي شروطه في هذه الفرصة، وقد تكون الشروط قاسيةً وغير عمليَّة؛ ومع ذلك فقد كان هذا هو الحلُّ الأفضل، وعلى كلٍّ فإنَّ مرادًا الثاني سيشتري الوقت بهذا العرض الذي سيُقدِّمه، فحتى في حال رفض ڤلاديسلاڤ الثالث لعرض مراد الثاني فإنَّ الشهور التي سيتبادل فيها القائدان الرسائل ستكون فرصةً لمراد الثاني في إعادة تهيئة جيشه للقتال.
من هذا المنطلق تقدَّم مراد الثاني بطلب السلام مع الدول الأوروبِّيَّة موسِّطًا في ذلك زعيم الصرب برانكوڤيتش، ويبدو أنَّ المجر وبولندا كانا يُعانيان كذلك من الحرب مع الدولة العثمانيَّة، فقُبِلَت فكرة السلام، ودارت المباحثات بين الطرفين في شهور الصيف عام 1444م[70]، وزاد من رغبة مراد الثاني في إنجاح عمليَّة السلام حدوث هزيمةٍ للجيش العثماني في يوم 29 يونيو 1444م في مدينة تورڤيول Torvioll الألبانية أمام المتمرِّد إسكندر بك، وكانت ضحايا الجيش العثماني يزيدون على ثمانية آلاف جندي[71] ممَّا جعل رغبة مراد الثاني كبيرةً في تحييد الجبهة الأوروبِّيَّة بالسلام؛ وذلك للتفرُّغ إلى التمرُّدات التي ظهرت في دولته، سواءٌ في ألبانيا، أم في قرمان، أم في غيرهما.

بعد جدالٍ طويلٍ توصَّل الطرفان -العثماني والأوروبي- إلى معاهدة سلامٍ بين الطرفين، وكان توقيعها في مدينة سسيچيد Szeged المجريَّة؛ لذلك عُرِفَت المعاهدة باسم «سلام سسيچيد» «Peace of Szeged»، وتمَّ الحلف على بنودها في يوم 15 أغسطس 1444م، وكانت بنودها قاسيةً على الدولة العثمانيَّة؛ إذ تضمَّنت استقلال صربيا وعدم تبعيَّتها لأيٍّ من الدولتين العثمانيَّة أو المجر، لتبقى منطقةً عازلةً (Buffer State) بينهما، كما تضمَّنت المعاهدة تسليم ألبانيا بالإضافة إلى أربعٍ وعشرين قلعةً إلى المجر، مع دفع الدولة العثمانيَّة لمائة ألف فلورين ذهبي إلى المجر كتعويضٍ عن خسائر الحرب، و-أيضًا- إطلاق سراح ابنين لبرانكوڤيتش كانا أسيرين عند العثمانيِّين، وفي المقابل تتعهَّد المجر بعدم عبور الدانوب، وعدم التعدِّي على بلغاريا، مع استمرار هذه المعاهدة لمدَّة عشر سنواتٍ من تاريخ توقيعها[72][73][74].

بالنظر إلى بنود هذه المعاهدة يتَّضح لنا أنَّ الهمَّ الأوَّل لمراد الثاني في هذه المعاهدة كان الحفاظ على ما في يديه من بقاع، والتضحية بالأجزاء التي فُقِدت بالفعل، مع التأكيد على أنَّ هذه المعاهدة ليست مطلقةً بلا تحديد؛ بل لها أجلٌ زمنيٌّ معروف، وهو عشر سنوات، وبالتالي يُمكن للدولة العثمانيَّة في هذه الفترة أن تستعيد عافيتها، وتسترجع ما خسرته عند تحسُّن الظروف، أمَّا استمرار القتال في هذه الظروف فسيعني خسارةً أكبر، وقد تُفْرَض عليه شروطٌ أقسى.

هذا ما دعا مرادًا الثاني إلى أن يقبل في واقعيَّة هذه المعاهدة القاسية، واستراح نسبيًّا من تهديدات الجبهة الأوروبِّيَّة. ثم إنَّه عقد معاهدة سلام في الشهر نفسه -أي أغسطس 1444م- مع إمارة قرمان، أقرَّ فيها أمير قرمان إبراهيم بك الثاني من جديد بالتبعيَّة للسلطان مراد الثاني، وكان هذا بعد تعرُّضه لهزيمةٍ من الجيش العثماني، وبذلك يكون مراد الثاني قد أمَّن -أيضًا- الجبهة الشرقيَّة المتمثِّلة في هذه الإمارة المتمرِّدة دومًا[75].

هكذا ظنَّ مراد الثاني أنَّ الأمور صارت على ما يرام، وأنَّ الهدوء السياسي والعسكري سيسود البلاد لفترةٍ طويلة؛ لذلك، وبنفسيَّةٍ مرهقة، أخذ قرارًا هو من أعجب قراراته مطلقًا؛ بل من أعجب القرارات في تاريخ الدولة العثمانيَّة، إن لم يكن في التاريخ العالمي كلِّه!

كان القرار الذي أخذه السلطان مراد الثاني في أغسطس 1444م، بعد معاهدات السلام التي عقدها مع القوى الصليبية وإمارة قرمان، هو التنازل عن الحكم لابنه الأمير محمد وليِّ العهد، وهو البالغ من عمره آنذاك اثني عشر عامًا ونصف[76][77][78]!!

كان القرار صادمًا لكلِّ رجال الدولة، ومفاجِئًا لكلِّ المتابعين للأحداث، خاصَّةً أنَّ السلطان مرادًا الثاني لم يبقَ في العاصمة إدرنة بعد قرار التنازل؛ إنَّما انسحب إلى مانيسا بعد أن أعطى العرش لابنه الصغير[79].
والحقُّ أنَّ القرار عجيبٌ من أكثر من وجه!

الوجه الأوَّل: أنَّ السلطان مرادًا الثاني -المتنازل عن العرش- كان يبلغ من العمر حين تنازل إحدى وأربعين سنةً فقط؛ أي في عنفوان شبابه، ولم يكن مريضًا أو مصابًا؛ كما يدلُّ على ذلك سياق الأحداث.

الوجه الثاني: أنَّ المتنازَل له -وهو الأمير محمد- لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره!

الوجه الثالث: أنَّ الظروف السياسيَّة والعسكريَّة التي تمرُّ بها الدولة العثمانيَّة في غاية الصعوبة؛ فهناك كتلةٌ كاثوليكيَّةٌ كبرى قد تكوَّنت في شمالها، وهي اتِّحاد المجر وبولندا تحت قيادة ڤلاديسلاڤ الثالث، وهي كتلةٌ تُمثِّل تهديدًا خطرًا للدولة العثمانيَّة، خاصَّةً مع وجود بابا متحفِّز للحروب الصليبيَّة كالبابا أوچين الرابع، ناهيك عن خطورة استقلال إمارة صربيا، ورغبة الدولة البيزنطيَّة في الاستعانة بالكاثوليك، وتمرُّد قرمان المتكرِّر.

الوجه الرابع: هو توقيت التنازل؛ فالمعاهدة مع المجر وبولندا لم يمضِ عليها إلا أيَّام، ولا يُستبْعَد أن يغدروا في عهدهم عند تبدُّل الظروف في الدولة العثمانيَّة، حتى في حال عدم غدرهم فإنَّ التطوُّرات المستقبليَّة في المنطقة غير معلومة، خاصَّةً مع اضطرابات ألبانيا، بالإضافة إلى الاضطرابات الداخليَّة في الجيش العثماني.

الوجه الخامس والأخير في هذا التحليل: هو أنَّ العائلة العثمانيَّة صغيرةٌ للغاية؛ فليس هناك إلى جوار الأمير محمد أعمامٌ أو أولاد أعمامٍ يُمكن أن يقفوا معه في هذه المهمَّة؛ إنَّما أوكل الأمر إلى رجال الدولة المختلفين، وكلهم من عائلاتٍ تركيَّةٍ غير عثمانيَّة، وكان على رأسهم الصدر الأعظم خليل باشا چاندرلي Çandarli Halil Pasha، وهو من عائلة چاندرلي التركيَّة المرموقة، وكان قد تولَّى رئاسة الوزراء منذ عام 1439م[80]؛ ومع كونه شخصيَّةً مأمونة، إلَّا أنَّ عائلة چاندرلي عائلةٌ كبيرة؛ بل لعلَّها أكبر من العائلة العثمانيَّة نفسها، وقد تولَّى أفرادها رئاسة الوزراء في الدولة العثمانيَّة عدَّة مرَّات بدايةً من سنة 1380م[81]؛ أي قبل هذه الأحداث بأكثر من ستِّين سنة، وهذا كلُّه قد يُنذر بحدوث فتنةٍ في داخل الدولة العثمانيَّة إذا ما فكَّر أفراد هذه العائلة في الانفراد بالحكم؛ وذلك في ظلِّ وجود طفلٍ صغيرٍ على العرش.

هذه كلُّها وجوهٌ تدعو للعجب من هذا القرار المفاجئ؛ فالأمر كان متعلِّقًا بأمن دولةٍ كبيرةٍ واستقرارها، ولهذا تحيَّر المؤرِّخون في هذا القرار وأسبابه، خاصَّةً أنَّ مرادًا الثاني لم يُعلن بنفسه تفسيرًا واضحًا لهذا الفعل؛ إنَّما ترك الأمر لتكهُّنات المؤرِّخين!
والذي يبدو لي أنَّ سبب هذا القرار لم يكن أمرًا واحدًا؛ كما يفترض بعض المؤرِّخين؛ إنَّما هو تفاعل مجموعةٍ من الأسباب، التي يُمكن أن تُفسِّر حدوثَ مثل هذه المفاجأة، ويدخل في هذه الأسباب ما يلي:

أوَّلًا: أشارت بعض المصادر إلى شعور مراد الثاني بالتعب[82]، ولم تُفسِّر نوع التعب الذي شعر به، ويُمكن أن يكون قد غلب على ظنِّه أنَّ هذا التعب قد يُفْضِي إلى الموت المفاجئ، خاصَّةً وأنَّ حوادث موت أفراد العائلة العثمانيَّة في شبابهم متكرِّرة، فكما مرَّ بنا مات السلطان محمد چلبي والد السلطان مراد الثاني في التاسعة والثلاثين من عمره، و-أيضًا- مات السلطان بايزيد الأوَّل جدُّ السلطان مراد الثاني في الرابعة والأربعين من عمره[83]، ولا ننسى موت ابنين من أبناء مراد الثاني نفسه في سنِّ الثامنة عشرة، فهذا كلُّه يجعل مرادًا الثاني متوقِّعًا للموت، خاصَّةً إذا ما كان تعبه هذا كبيرًا، فلعلَّه أراد استخلاف ابنه محمد قبل أن يموت، حتى لا تتَّجه الأمور إلى غير ما يُريد، فكان وكأنَّه يُسابق الزمن في هذا التنازل.

ثانيًا: أعتقد أنَّ السلطان مرادًا الثاني كان يُعاني في هذه الفترة من حالةٍ من حالات «الاكتئاب النفسي»، وهي حالةٌ مَرَضِيَّةٌ وليست مجرَّد حالة حزن، ومن أهمِّ علاماتها فَقْدُ الرغبة في العمل، وحبُّ الانعزال عن الناس، فالسلطان فَقَدَ «الرغبة» في إكمال عمله كقائدٍ للدولة، وقد يكون فَقَدَ «القدرة» على ذلك، ومِنْ ثَمَّ كان انسحابُه حادًّا، ومفاجئًا، وسريعًا، وبلا تمهيدات، وصَاحَبَ ذلك انعزالٌ عن المجتمع بالذهاب إلى مانيسا دون النظر إلى عواقب هذا الانعزال. وهذا الاكتئاب يأتي أحيانًا في صورةٍ مؤقَّتةٍ ثم يتعافى منه المريض، وأعتقد أنَّ هذا الوضع المؤقَّت هو الذي كان عليه مراد الثاني؛ لأنَّنا رأيناه بعد هذا الانعزال بأسابيع أو شهور يعود إلى شبه طبيعته، فيعمل من جديد؛ ولكن ليس بحماسته الأولى نفسها.

أمَّا أسباب هذا الاكتئاب فكثيرة، ويأتي في مقدِّمتها فقدان أشخاصٍ محبوبين للإنسان، وقد فَقَد مراد الثاني ولدين من أبنائه تتابعًا، كما أنَّ الظروف التي مرَّت بها الدولة العثمانيَّة في هذه الفترة كانت استثنائيَّة، وفقدت الدولة في غضون ثلاث سنوات ما اجتهدت في فتحه خلال عشرات السنين، وأُجْبِر السلطان على عقد معاهدةٍ مُذِلَّةٍ نسبيًّا لم تعقد الدولة العثمانيَّة مثلها قبل ذلك، فكلُّ هذه الأمور تقود إلى الاكتئاب.

ثالثًا: لا يُستبعد أن تكون التربية الصوفيَّة الروحيَّة لها أثرٌ في هذا القرار؛ فقد يتملَّك الفرد حينئذٍ رغبة في الانعزال عن الحياة بكلِّ لذَّاتها ومُتَعِها، وقد يترك مسئوليَّاتٍ جسامًا ملقاةً على كتفيه لزهده في الدنيا برمَّتها، وبالطبع ليس هذا سلوكًا سليمًا، خاصَّةً إذا كان تركه للدنيا سيُوقع مجتمَعَه وأمَّته في أزمة؛ بل ينبغي له أن يُرتِّب الأمور بشكلٍ جيِّدٍ قبل أن ينعزل، وقد كان رسول الله ﷺ أعظم الزاهدين في الدنيا ولكنَّه كان يقوم بكامل أعماله تجاه نفسه، وأسرته، وأصحابه، وأمَّته، دون تقصيرٍ أو إهمال، ومِنْ ثَمَّ فزهْدُ السلطان مراد الثاني ليس مسوِّغًا بمفرده في منح العذر له، وإن كان يؤخذ في الاعتبار إلى جوار الأسباب الأخرى.

رابعًا: أمَّا السبب الرابع فهو مهمٌّ جدًّا، ويكمن في إحساس مراد الثاني بأنَّ مستقبل الدولة العثمانيَّة صار في خطرٍ كبيرٍ بعد فَقْد وليِّ العهد الثاني، فلم يبقَ إلَّا الأمير محمد، فلو مات مراد الثاني لأيِّ سببٍ عارضٍ فإنَّ انهيار الدولة سيكون متوقَّعًا جدًّا؛ لذلك من الممكن أن يكون تنازل مراد الثاني للأمير الصغير هو نوعٌ من دعم استقرار الدولة مستقبلًا، على أساس أنَّه يفعل ذلك في حياته، فحتى لو انسحب إلى مانيسا فهو يراقب الأمر من بعيد، وسيكون جاهزًا للظهور في أيِّ لحظةٍ تحتاجها الدولة، وسيقف إلى جوار ابنه إذا ما تطلَّب الأمر ذلك، وعلى ما أعتقد أنَّ مرادًا الثاني كان يرغب في القيام بهذه الخطوة منذ أكثر من عام عندما مات علاء الدين وليُّ العهد؛ ولكن ظروف الدولة العسكريَّة والسياسيَّة لم تكن تسمح بذلك، فلمَّا عقد السلطان معاهدتين مع المجر وقرمان، حان وقت تنفيذ الرغبة المؤجَّلة، ولهذا كان الأمر سريعًا بهذه الصورة، ممَّا قد يعني أنَّ الترتيب له كان معدًّا من قبل، وليس مستبعدًا أن يكون الأمر مرتَّبًا من قبل مع الصدر الأعظم خليل چاندرلي، أو مع بعض القادة في الجيش.

إنَّ مراجعة تاريخ مراد الثاني يُؤكِّد أنَّ هذا السبب الرابع له مكانٌ في قصَّتنا؛ لأنَّه مرَّ بصراعاتٍ كثيرةٍ عندما تسلَّم الحكم عام 1421م، ولولا توفيق الله  له ما وصل إليه الحكم قط، ولولا لطف الله بالدولة العثمانيَّة لانقسمت في هذه الصراعات عدَّة أقسام، فأراد مراد الثاني أن يُجَنِّب دولته مثل هذا المصير بالاطمئنان على مستقبلها تحت قيادة وليِّ العهد، ويُؤخَذ في الاعتبار -أيضًا- أنَّ مرادًا الثاني أدار الدولة بكفايةٍ من أوَّل يومٍ تسلَّم فيه الحكم، وقد كان حينئذٍ في السابعة عشرة من عمره، ولم يكن أبوه السلطان محمد چلبي إلى جواره لموته المفاجئ، أمَّا الوضع الآن فأفضل؛ إذ إنَّ أمارات النجابة والذكاء عند الأمير محمد أعلى منها عند السلطان مراد الثاني يوم أن تولَّى الإمارة، والتربية التي تلقَّاها هذا الأمير الصغير أفضل من التربية التي تلقَّاها مراد الثاني في طفولته، بالإضافة إلى أنَّ السلطان نفسه سيكون موجودًا إلى جوار ولده إذا احتاج إليه؛ بينما كان مراد الثاني وحيدًا حين تولَّى العرش. كلُّ هذه عوامل شجَّعت مرادًا الثاني على الإقدام على أخذ هذا القرار الجريء في وقتٍ سريع.
هل كان هذا القرار صائبًا إِذَنْ؟!

لا يُمكن الجزم بذلك! بل إنَّني أميل -على الرغم من كلِّ هذه المسوِّغات- إلى قول: إنَّ هذا القرار كان متسرِّعًا، ولم يكن سليمًا فيما أعتقد، وكان الأَولى أن يستمرَّ الأب في قيادة الدولة مع إعطاء مساحةٍ أكبر للأمير محمد، كأن يأتي به من مانيسا إلى إدرنة ليكون إلى جواره، كأن يُوكِل إليه بعض مهامِّ الدولة الكبرى تحت إشرافه، فيكون الأمر متدرِّجًا بشكلٍ طبيعي؛ وذلك منعًا لحدوث فتنة، ولقطع رغبات الطامعين في الدولة، الذين يُمكن أن يسعوا لإصابة الدولة في مقتلٍ عند رؤية طفلٍ صغيرٍ يعتلي عرش البلاد في هذه الظروف الاستثنائيَّة.

أيًّا ما كان الأمر فإنَّ الأمير محمدًا صار سلطان البلاد، ومن هذا اليوم عُرِف «بمحمد الثاني»؛ لأنَّ محمدًا الأوَّل هو جدُّه محمد چلبي، الذي حكم من عام 1413م إلى عام 1421م، وهذا هو اللقب الذي اشتهر في المراجع الأجنبيَّة (Mehmed II)، ويُكتب كذلك (Mehmet II)، وهو الذي سيُعرَف لاحقًا بعد فتحه للقسطنطينيَّة بمحمد الفاتح (The Conqueror)، فهذه كلُّها ألقابٌ للشخص نفسه.

هل مرَّ الأمر بسلام؟!

على المستوى الداخلي لم يحدث ما يُزْعِج، ممَّا يُوحِي أنَّ الأمر كان معدًّا له في الخفاء، ولم يُعلَن إلَّا في هذه اللحظة.

لكن على المستوى الخارجي كان تطوُّر الأحداث نتيجة هذا الخبر أكبر من كلِّ التوقُّعات!

لقد أثلج الخبر صدور المجريِّين والبولنديِّين والبابا في روما، وتحرَّك مبعوث البابا چوليانو سيزاريني لإقناع ڤلاديسلاڤ الثالث ملك بولندا والمجر، وكذلك چون هونيادي الزعيم المجري الكبير، لقطع معاهدة سسيچيد مع الدولة العثمانيَّة، وتحريك حربٍ صليبيَّةٍ كبرى لإخراجهم من البلقان[84]، وأكَّد لهم سيزاريني أنَّه يجوز الحنث باليمين إذا كان هذا اليمين مع الكفَّار «Infidel»، خاصَّةً إذا لم يكن هذا اليمين مؤكَّدًا من البابا[85]، وجاء التأكيد من البابا أوچين الرابع بأنَّه لم يكن موافقًا على السلام مع المسلمين[86]!

هكذا يفعلون بالوعود!

هكذا يفعلون بالمواثيق التي أقسموا عليها بالأيمان!

هكذا هي دبلوماسيَّتهم!

نذكر هذا الموقف للأوروبِّيِّين، وإلى جواره نذكر شهادة المؤرِّخ الأميركي ذي الأصول المجريَّة بيتر شوجر Peter Sugar وهو يقول في حقِّ العثمانيِّين: «ومن الملاحظ أنَّ العثمانيِّين تمسَّكوا بما عقدوا من مواثيق واتفاقيَّات طالما حَفِظَ الأمراء الأوروبِّيُّون تلك المواثيق»[87]!

وهذه شهادةٌ تأتي في موضعها التاريخي المهم؛ حيث إنَّها أتت من عالِمٍ ذي أصولٍ مجريَّة؛ أي ينتمي إلى تلك الدولة التي حاربت العثمانيِّين طويلًا، وغدرت بهم في هذه المعاهدة.

لم يأخذ الأوروبِّيُّون وقتًا كبيرًا في التفكير؛ فقد عبرت الجيوش الأوروبِّيَّة الدانوب بالقرب من بلجراد في الفترة ما بين 18 و22 سبتمبر 1444م[88]، فمعنى هذا أنَّ قرار نقض المعاهدة لم يأخذ إلَّا أيَّامًا قليلة بعد وصول خبر تنازل مراد الثاني عن العرش لابنه محمد الثاني.

اتَّحدت في هذه المعركة جيوش المجر وبولندا، مع فِرَقٍ عسكريَّةٍ من الإفلاق، وكذلك مع بعض المتمرِّدين من بلغاريا[89] مع العلم أنَّ الإفلاق وبلغاريا كانتا تابعتين للدولة العثمانيَّة، ممَّا يعني أنَّ هذا انشقاق داخلي في الدولة. انضمَّت إلى هذه القوَّات مجموعةٌ من السفن البحريَّة التابعة لغرب أوروبَّا على النحو التالي: ثمانية سفن باباوية، وثمانية أخرى من البندقية، مع أربع سفنٍ من بورجاندي Burgundy الفرنسيَّة، وكذلك سفينتان من جمهوريَّة راجوزا Ragusa الإيطاليَّة، وانضمَّت إلى هذه القوَّات البحريَّة سفن الدولة البيزنطيَّة، وكان غرض هذه القوَّة البحريَّة هو غلق مضيق الدردنيل لمنع قوَّات الدولة العثمانيَّة من العبور من الأناضول إلى البلقان؛ وذلك لإعطاء الجيوش الأوروبِّيَّة الفرصة للتقدُّم السريع نحو العاصمة العثمانيَّة إدرنة، بغية استئصال الوجود العثماني من أوروبا بالكلِّيَّة[90].

تتفاوت المصادر بشدَّة في تحديد عدد الجيوش الصليبيَّة؛ تذكر المصادر التركيَّة أنَّ الجيوش الصليبيَّة تجاوزت المائة ألف مقاتل[91]؛ بينما تُؤكِّد المصادر الأوروبِّيَّة أنَّ العدد كان عشرين ألف مقاتلٍ[92]، وعادةً ما يكون هناك مبالغاتٌ بالزيادة والنقصان من كلِّ طرف، وقد تكون حقيقة الأعداد بينهما!

اختارت الجيوش الأوروبِّيَّة أن تتَّجه مباشرةً إلى ساحل البحر الأسود الغربي لتتجاوز القلاع العثمانيَّة في بلغاريا، وبذلك ستسير جنوبًا حتى تصل إلى إدرنة العاصمة، وستكون المباغتة بذلك كبيرةً جدًّا للدولة العثمانيَّة؛ إذ سينتقل القتال إلى عقر دارها.

وصلت الأنباء المفزعة إلى السلطان الجديد محمد في إدرنة!

لم تكن الأمور أصلًا مستقرَّةً في قصر الحكم في إدرنة؛ فقد كانت هناك عداواتٌ بين رجال الدولة في القصر الحاكم. كان الصدر الأعظم خليل چاندرلي يُمثِّل حزبًا من كبار الشخصيَّات؛ بينما يُمثِّل زاجانوس باشا وشهاب الدين باشا -وهما من كبار رجال الجيش- حزبًا آخر، وهذان الأخيران كانا من المربِّين الشخصيِّين للأمير الصغير[93]. كان هذا الصراع الداخلي متوقَّعًا في ظلِّ غياب السلطان الكبير مراد الثاني، وإذا كان كلُّ حزبٍ من الحزبين يُريد فرض هيمنته فهذا هو الوقت المناسب!
في الحقيقة لم تكن الدولة العثمانيَّة بحاجةٍ لكلِّ هذه التداعيات في هذا التوقيت؛ ولكن هكذا سارت الأمور، نتيجة تنازل السلطان مراد الثاني لابنه الصغير محمد.

من ناحيةٍ عمليَّةٍ وَجَد السلطان الجديد نفسه أمام أزمةٍ قد تعصف بالدولة كلِّها.

لم يكن هناك بُدٌّ من الاستعانة بالسلطان المتقاعد مراد الثاني! رفض مراد الثاني القدوم أوَّل الأمر لكيلا يكسر ابنه، لكنَّ ابنه أرسل إليه رسالةً ذكيَّةً لم تجعل هناك خياراتٍ كثيرةً أمام السلطان صاحب الخبرة. قال محمد الثاني في أوَّل رسالةٍ يكتبها كسلطان: «إنْ كنَّا نحن البادشاه -أي السلطان بالتركيَّة- فإنَّنا نأمرك: تعالوا على رأس جيشكم، وإن كنتم أنتم فتعالوا دافعوا عن دولتكم»[94]!.

جاء السلطان مراد الثاني على رأس جيشٍ كبيرٍ من الأناضول، ولكنَّه فوجئ بالقوَّات البحريَّة الأوروبِّيَّة تقطع عليه طريق الدردنيل؛ ومع ذلك فقد وُفِّق لعبور المضايق عن طريق التعاون مع بعض سفن چنوة[95]، وچنوة كانت معادية دومًا للبندقيَّة، وحيث إنَّ البندقية كانت في الحلف الصليبي وقفت چنوة إلى جوار مراد الثاني مع كونه مسلمًا! وهذا من لطف الله بالدولة العثمانية والمسلمين.

كانت الجيوش الصليبيَّة قد اقتربت من مدينة ڤارنا Varna البلغاريَّة على ساحل البحر الأسود الغربي، فأسرع مراد الثاني بجيشه بعد عبوره المضايق، ومرَّ على إدرنة العاصمة، والتقى وولده في لقاءٍ سريع، ثم تركه في القصر الحاكم، وانطلق مسرعًا ليُقابل الجيوش الصليبيَّة قبل أن تتوغَّل أكثر في الأراضي العثمانية، ووصل بالفعل إلى جنوب ڤارنا في 7 نوفمبر 1444، وضرب معسكره هناك[96].

في يوم (10 نوفمبر 1444م الموافق 28 رجب 848هـ) دارت موقعة ڤارنا، وهي واحدةٌ من أهمِّ المعارك في التاريخ الأوروبي كلِّه[97][98][99][100].

مع أنَّها كانت معركة يومٍ واحدٍ إلَّا أنَّ نتائجها كانت حاسمةً للغاية؛ في هذه المعركة قُتِل ملكُ بولندا والمجر ڤلاديسلاڤ الثالث، وقُتِل كذلك الكاردينال چوليانو سيزاريني، ومُزِّق الجيش الصليبي، وصار بين قتيلٍ وأسير، وبصعوبةٍ هرب چون هونيادي القائد المجري الشهير[101].

هناك تفاصيلٌ كثيرةٌ ذُكِرت عن هذه الموقعة الكبيرة؛ كتب عنها المؤرِّخ الأميركي كينيث سيتون خمسًا وعشرين صفحةً في كتابه عن الباباوات وحروبهم في الشرق[102]، وكتب عنها المؤرِّخ البولندي چون چيفرسون John Jefferson أكثر من ثمانين صفحةً في كتابه عن الحروب المقدَّسة بين الملك ڤلاديسلاڤ والسلطان مراد الثاني[103]؛ بينما كتب المؤرِّخ الإنجليزي كولن إمبر Colin Imber كتابًا كاملًا عن هذه المعركة[104]!

أجمع المؤرِّخون على فداحة الخسارة الأوروبِّيَّة في هذه المعركة، والأجمل هو أنَّ الكثير منهم ربط هذه الخسارة بالغدر الذي ارتكبه القادة الصليبيُّون في عهدهم مع الدولة العثمانية!

يقول المؤرِّخ الألماني الشهير فرانز بابينجر Franz Babinger: «هكذا انتهت معركة ڤارنا، واحدةٌ من أكثر الأحداث حسمًا، ليس في التاريخ العثماني فقط؛ ولكن في التاريخ الغربي كلِّه. لقد وُجِّهت ضربةٌ شديدةٌ للآمال النصرانيَّة في طرد العثمانيِّين من أوروبا. لمدَّة سنواتٍ قادمةٍ سيطر الإحباط على أوروبَّا النصرانيَّة. كان يُنْظَر إلى هزيمة الجيش الصليبي على أنَّها عقابٌ ربَّانيٌّ (Divine punishment) نتيجة الانتهاك لليمين المقدَّس الذي أقسمه الملك على الإنجيل في معاهدة سسيچيد»[105]!

ويقول المؤرِّخ والقس التشيكي فرانسيس دڤورنيك Francis Dvornik: «عُوقِب الكاردينال سيزاريني على غدره بأنْ مُزِّق جيشه إلى قِطَع (Cut to pieces) في معركة ڤارنا عام 1444، وفَقَدَ الملك ڤلاديسلاڤ، وممثِّل البابا (سيزاريني نفسه) حياتهما في ساحة القتال»[106]!

هكذا كان نصر ڤارنا العظيم!

إنَّه يومٌ من أيَّام الله حقًّا!

لقد أدَّت هذه الموقعة إلى آثارٍ مهمَّةٍ للغاية، يمكن رصد بعضها على النحو التالي:

الأثر الأوَّل: أحدثت المعركة دويًّا كبيرًا في أوروبَّا. يقول المؤرِّخ الألماني بابينجر: «أُصيبت الولايات الأوروبِّيَّة الملاصقة للدولة العثمانيَّة بالشلل من الخوف»[107]. ويتجاوز المؤرِّخ والقس الإنجليزي مانديل كريتون Mandell Creighton الولايات الأوروبِّيَّة المجاورة للدولة العثمانيَّة إلى أوروبَّا كلِّها فيقول: «ملأت أخبارُ هزيمة ڤارنا أوروبَّا بالذعر»[108]!

الأثر الثاني: كانت هذه المعركة هي التي حدَّدت مستقبل الدولة البيزنطيَّة؛ فقد ظهر من خلال الأحداث أنَّ الدولة العريقة صارت غير قادرةٍ بالمرَّة على الدفاع عن نفسها، حتى صارت تستجدي العون من أعدائها الكاثوليك، فلمَّا هُزِم الكاثوليك في ڤارنا أدركت الدولة البيزنطيَّة أنَّ مصيرها صار محتومًا، وأنَّ سقوطها في يد العثمانيِّين صار مسألة وقت؛ ومع أنَّ الدولة البيزنطيَّة كانت متعاونةً مع الكاثوليك في معركة ڤارنا إلَّا أنَّ ردَّ فعل إمبراطورهم چون الثامن كان عجيبًا بعد المعركة! يقول المؤرِّخ الأسكتلندي چورچ فينلاي George Finlay، وهو يسخر من الإمبراطور البيزنطي: «لقد تأكَّد الإمبراطور البيزنطي چون الثامن من تهوُّر وعدم اتِّزان القوى الأوروبِّيَّة؛ لذلك ففي اللحظة التي سمع فيها بالنصر العظيم للسلطان مراد الثاني في ڤارنا أرسل له سفارةً لتهنئته، ولتأكيد سيادته عليه، كما (استجداه) في طلب إعادة التحالف معه»[109]! ويقول المؤرِّخ الروسي ألكسندر ڤاسيليڤ Alexander Vasiliev، وهو يُعتبر أحد أهمِّ من كتب عن الدولة البيزنطية: «كانت معركة ڤارنا هي المحاولة الأخيرة لأوروبَّا الغربيَّة لمساعدة الدولة البيزنطيَّة؛ بعد هذه المعركة تُرِكَت القسطنطينيَّة لمصيرها»[110]!

هكذا إِذَنْ يُمكن اعتبار أنَّ معركة ڤارنا كانت مقدِّمةً منطقيَّةً لفتح القسطنطينية بعد تسع سنوات؛ أي في عام 1453م.

الأثر الثالث: على العكس من الوضع المزري للدولة البيزنطيَّة في القسطنطينيَّة، كان الحال في الجزء اليوناني التابع للدولة البيزنطيَّة، وهو مقاطعة المورة Despot of the Morea، وكان هذا الجزء تحت قيادة أخي چون الثامن، وهو الأمير قُسطنطين Constantine، الذي سيُصبح مستقبلًا إمبراطورًا للدولة البيزنطيَّة[111]. لقد كان لهذا الأمير طموحاتٌ كبيرة؛ بل إنَّه استغلَّ فترة تنازل مراد الثاني عن الحكم لابنه محمد في صيف 1444 -أي قبل معركة ڤارنا- وضمَّ بعض المدن اليونانيَّة مثل مدينتي ثيفا Thebes، وأثينا Athens، وكانت الأخيرة تحت حكم أمير فلورنسي تابعٍ للدولة العثمانيَّة هو نيرو الثاني Neiro II، وقد أجبره قُسطنطين على دفع الجزية إليه[112]، وكان هذا تعدِّيًا صارخًا على الدولة العثمانيَّة. بعد موقعة ڤارنا ازداد قُسطنطين عنادًا، وظلَّ محتفظًا بما حصل عليه من أملاك. أدرك مراد الثاني أنَّ هذا الرجل سيكون معاديًا للدولة العثمانيَّة بدرجةٍ كبيرةٍ في الفترة القادمة؛ ولكن لم يأخذ تجاهه موقفًا لانشغال الدولة العثمانيَّة بالقوى الأوروبِّيَّة الغربيَّة في هذه الفترة.

الأثر الرابع: أنهت معركة ڤارنا وموت الملك البولندي ڤلاديسلاڤ الثالث فكرةَ الاتِّحاد بين المجر وبولندا تمامًا[113]، وهذا بلا شَكٍّ كان في مصلحة الدولة العثمانيَّة؛ إذ إنَّ الاتِّحاد بين هاتين القوَّتين الكبريين كان يُمثِّل خطرًا داهمًا على الدولة، ولقد صار توجُّه المجر بعد هذه المعركة إلى الإمبراطوريَّة النمساويَّة بدلًا من بولندا، وهذا كان أهون في المرحلة التاريخيَّة المقبلة؛ لأنَّ النمسا لم يكن لها حدودٌ مع الدولة العثمانيَّة؛ بينما كانت بولندا تُمثِّل الحدود الشماليَّة لها، ومن هنا صار الانقسام بين بولندا والمجر مفيدًا من الناحية العسكريَّة للعثمانيِّين.

الأثر الخامس: كان الأثر على بولندا كبيرًا جدًّا! لقد كان هناك حزبان متعارضان في بولندا بخصوص مسألة الصدام مع الدولة العثمانيَّة. كان أحدهما يُشجِّع بقوَّة الدخول في حربٍ صليبيَّة؛ بينما كان الآخر يتحفَّظ بشدَّة. يقول المؤرِّخ البولندي أوسكار هاليكي Oscar Halecki: «بعد موقعة ڤارنا صارت اليد العليا في بولندا لأولئك الذين يُعارضون حربًا صليبيَّةً ضدَّ الدولة العثمانيَّة»[114]. وقد قال المؤرِّخ البولندي هذا الكلام مع أنَّ الذي حكم بولندا بعد قتل ڤلاديسلاڤ الثالث هو أخوه كازيمير الرابع Casimir IV، وهو؛ كما يقول عنه المؤرِّخ السويسري الشهير چوهانس ڤون مولر Johannes von Müller: «هو واحدٌ من أعظم ملوك أوروبَّا في زمانه»[115]. ومع ذلك فصدمة ڤارنا جعلت هذا الملك العظيم يُقرِّر عدم الدخول مع الدولة العثمانيَّة في صدام، وهذا بلا شَكٍّ كان له مردوده الإيجابي على ما تبقَّى من فترة حكم مراد الثاني؛ بل على فترة حكم السلطان القادم محمد الثاني.

الأثر السادس: دخلت المجر في حربٍ أهليَّةٍ بعد هذه المعركة نتيجة غياب الحُكم البولندي، وعودة الصراع على كرسي الحكم بعد مقتل ڤلاديسلاڤ الثالث، وزهد أخيه كازيمير الرابع في عودة الاتِّحاد مع المجر، وتفاصيل هذه الحرب الأهليَّة كثيرة، ويُمكن الرجوع إليها في مصادر تاريخ المجر[116]؛ لكن الشاهد أنَّ هذه الحرب الأهليَّة الداخليَّة أمَّنت الحدود العثمانيَّة إلى حدٍّ ما فترةً من الزمان، على الرغم من وجود القائد العسكري الفذ چون هونيادي.

الأثر السابع: أدرك الأوروبِّيُّون مع موقعة ڤارنا أنَّ اقتلاع العثمانيِّين من البلقان صار أمرًا مستحيلًا، وهذا له أثره النفسي الكبير على كلِّ الأوروبِّيِّين؛ سواء الحكَّام منهم أم المحكومون. يقول المؤرِّخ السياسي الأميركي چاكوب جريچيل Jakub Grygiel: «كانت معركة ڤارنا من أشدِّ الهزائم الأوروبِّيَّة في كلِّ تاريخ العلاقات الأوروبِّيَّة العثمانيَّة. لقد أنهت هذه المعركة كلَّ المحاولات لطرد العثمانيِّين من أوروبَّا»[117]. ويُؤكِّد المؤرِّخ البولندي إدوارد بوتكوڤسكي Edward Potkowski على هذه الحقيقة فيقول: «أدَّى الذعر الناتج عن مذبحة ڤارنا إلى عدم رغبة ملوك المجر وألمانيا وبولندا في حرب الأتراك، ولمدَّة قرونٍ بعد المعركة»[118]! وقد انتقلت هذه الروح السلبيَّة بشكلٍ تلقائيٍّ إلى شعوب البلقان؛ بل كان المؤرِّخ والسياسي الإنجليزي بيري أندرسون Perry Anderson صريحًا للغاية عندما فسَّر عدم رغبة الشعوب البلقانيَّة في مقاومة العثمانيِّين، خاصَّةً بعد موقعتي نيكوبوليس عام 1396م، وڤارنا 1444م، بأنَّ ذلك نتيجة الظلم الشديد الذي أوقعه نبلاء أوروبَّا النصارى على شعوبهم قبل الفتح العثماني، ممَّا أدَّى إلى هشاشة البنيان الاجتماعي في هذه المنطقة، ومِنْ ثَمَّ قَبِلَت هذه الشعوب قَدَرَها الجديد؛ بل ذكر المؤرِّخ الإنجليزي أنَّ الحكم العثماني لهم كان بمثابة تحرير الفقراء «Liberation of the poor»[119].

من المؤكَّد أنَّ هذه النفسيَّة المتقبِّلة للوجود العثماني؛ سواءٌ عن اضطرارٍ عند الأمراء والملوك لذعرهم، أم عن رضا وسكون من الشعوب لراحتهم، قد ساعدت الدولة العثمانيَّة على الاستقرار؛ سواء في الفترة المتبقية في عهد مراد الثاني، أم في فترة محمد الثاني بعد ذلك.

الأثر الثامن: استغلَّ مراد الثاني الانتصار في ڤارنا لتدعيم العلاقات مع العالم الإسلامي؛ فأرسل رسائل ببشريات النصر إلى القاهرة عاصمة دولة المماليك، وقد أحسن السلطان چقمق سلطان المماليك استقبال السفارة، وأقام الاحتفالات بالقاهرة[120]، وكانت هذه بادرةً طيِّبةً ساعدت في تدعيم العلاقات بين الدولتين الإسلاميَّتين الكبريين.

هذه بعض الآثار التي رأيناها لهذه الموقعة الكبيرة في هذا التحليل السريع، وبعد قراءة هذه الآثار يُمكن أن نفهم كلمة المؤرِّخ التركي خليل إينالچيك حين قال: «ڤارنا نقطة تحوُّلٍ Turning point في تاريخ شرق أوروبَّا»[121].

المرحلة الرابعة: مرحلة عودة الاستقرار (1444-1451م)
على الرغم من تنوُّع الأحداث في هذه الفترة الأخيرة من حياة مراد الثاني فإنَّها في المجمل كانت فترة استقرارٍ وقوَّة، مع أن بداياتها لم تكن تُشير إلى هذا الاستقرار، ويمكن أن ندرس هذه المرحلة تحت العناوين الآتية:
أولًا: الحكم المؤقت للسلطان الصغير محمد الثاني:

بدأت هذه المرحلة الإيجابيَّة في حياة مراد الثاني بهذا النصر الكبير في ڤارنا، وعلى الرغم من أنَّ مرادًا الثاني رأى الأثر المباشر لتنازله لابنه الصغير محمد الثاني عن العرش، وتحرُّك الجيوش الصليبيَّة فورًا إلى دولته ناقضين للعهد، على الرغم من رؤيته هذا الأثر الخطر، فإنَّه قرَّر أن يعود بعد نصره العظيم في ڤارنا إلى عزلته من جديد في مانيسا، مُعْرِضًا عن نصيحة الصدر الأعظم خليل باشا چاندرلي وقادة الإنكشاريَّة، بالبقاء في كرسي السلطنة منعًا لأيِّ تطوُّراتٍ أوروبِّيَّة[122].
والحقُّ أنَّني أرى في هذا التصرُّف من مراد الثاني خطأً شرعيًّا؛ فليس من المقبول أن يُسلَّم حكم الدولة إلى طفلٍ سيصل بمشقَّة إلى الثالثة عشرة من عمره، مهما كان هذا الطفل ذكيًّا أو ماهرًا؛ لأنَّ هذا الوضع سيفتن القريب والبعيد على حدٍّ سواء، فها هم الأوروبِّيُّون قد نقضوا عهدهم نتيجة رؤيتهم لهذا الوضع، ومن المحتمل أن يقوم غيرهم بما قاموا به، أو تحدث فتنةٌ داخليَّةٌ في الدولة، ويطمع الطامعون في تسيير الأمور لصالحهم. نعم كان الوضع بعد انتصار ڤارنا أفضل؛ لكن غياب مراد الثاني عن الساحة قد يمنع من جني ثمار هذا النصر، وقد يُضيِّع على الدولة فرصًا في ظلِّ تجربة السلطان الجديد محمد الثاني لأمور الحكم.

استمرَّ حكم السلطان محمد الثاني للدولة العثمانيَّة من وقت تنازل مراد الثاني له في أغسطس 1444م إلى شهر سبتمبر 1446م -أي سنتين كاملتين- ومعظم المؤرِّخين يُؤكِّدون أنَّ حكم السلطان محمد الثاني كان متَّصلًا في هاتين السنتين[123][124][125]؛ بينما يرى آخرون أنَّ السلطان مرادًا الثاني عاد للحكم في أثناء هاتين السنتين لمدَّة أحد عشر شهرًا من يناير 1445م إلى ديسمبر 1445م؛ أي أنَّ حكم محمد الثاني لم يكن متَّصلًا في هاتين السنتين[126].

وبصرف النظر عن هذا أو ذاك فإنَّه من الواضح أنَّ الأمور لم تكن تسير بشكلٍ طبيعيٍّ في هذه الفترة، وكانت هناك بعض المشكلات الناجمة عن وجود طفلٍ صغيرٍ في كرسي الحكم، ويُمكن ملاحظة بعض هذه المشكلات على النحو التالي:
أوَّلًا: كان الوضع في شبه جزيرة المورة في اليونان مضطربًا؛ معظم اليونان في ذلك الوقت كان تابعًا للدولة البيزنطيَّة، وكانت تحت حكم قُسطنطين، وهو أخو چون الثامن إمبراطور الدولة البيزنطيَّة؛ كما أسلفنا، وعلى عكس السلوك السلمي الذي اختاره چون الثامن بعد هزيمة ڤارنا اختار قُسطنطين التصعيد، واحتلَّ بعض المناطق التابعة للدولة العثمانيَّة، وفَرَضَ الجزية على بعض الأمراء الأوروبِّيِّين التابعين للعثمانيِّين؛ ومع هذا التطوُّر السلبي في سير الأمور في اليونان إلَّا أنَّ الدولة العثمانيَّة لم تأخذ موقفًا إيجابيًّا، وظلَّ الوضع؛ كما هو عليه.

ثانيًا: حدث تطوُّرٌ مؤسفٌ في الأحداث في المناطق الشماليَّة من الدولة العثمانيَّة والملاصقة لإمارة الإفلاق، وكانت إمارة الإفلاق تابعةً للدولة العثمانيَّة؛ ولكن اشترك جيشها بموافقة أميرها ڤلاد الثاني Vlad II الشهير بڤلاد دراكول Vlad Dracul، في معركة ڤارنا مع الجيش الصليبي ضدَّ العثمانيِّين، وبعد المعركة واصل ڤلاد الثاني أعماله العدائيَّة ضدَّ الدولة العثمانيَّة؛ فقد استغلَّ وجود أسطولٍ فرنسيٍّ في البحر الأسود كان قد هاجم أحد الأساطيل العثمانيَّة، وقد تعاون مع قائده -وهو واليراند أمير مقاطعة واڤرين الفرنسية Walerand of Wavrin- في تدمير قلعةٍ عثمانيَّةٍ عند مدينة توتراكان Tutrakan (أقصى شمال شرق بلغاريا)، ثم حاصرا مدينة سيليسترا Silistra البلغاريَّة، ولكنَّهما لم يُفلحا في إسقاطها، فحاصرا حصن چورچيو Giurgiu، ثم وافقت الحامية العثمانيَّة على ترك الحصن والرحيل في مقابل الأمان، فوافق ڤلاد الثاني، وعندما خرج العثمانيُّون باغتهم الرومانيُّون والفرنسيُّون، وقاموا -كما يعترف المؤرِّخ الروماني كاميل موريشانو Camil Mureșanu- باغتيالهم عن بكرة أبيهم[127]!

حدث هذا الغدر في شهر سبتمبر من عام 1445م، ولم تأخذ الدولة العثمانيَّة موقفًا يُوازي الحدث، ولولا لطف الله لتطوَّر الأمر أكثر من ذلك؛ فقد دخل الشتاء في هذا العام مبكِّرًا ممَّا منع الجيش الروماني والفرنسي من مواصلة التعدِّي على شمال الدولة العثمانيَّة.

ثالثًا: مع أنَّ الأمور لم تكن مستقرَّةً في المجر؛ إذ دارت فيها حربٌ أهليَّةٌ للوصول إلى كرسي الحكم، إلَّا أنَّ الأوضاع كانت تسير في اتِّجاه صعود چون هونيادي إلى منصبٍ مهم، مع أنَّه ليس من العائلة الملكيَّة الحاكمة، وقد تطوَّر الأمر لصالحه إلى درجة أنَّه بدأ يُراسل البابا وملوك أوروبَّا لشنِّ حملةٍ صليبيَّةٍ جديدةٍ ضدَّ الدولة العثمانيَّة[128]؛ ولكن يبدو أنَّ صدمة ڤارنا كانت مانعةً للجميع من التفاعل معه؛ ومع ذلك فقد كان وجوده بهذه القوَّة نذيرًا بالخطر للدولة العثمانيَّة، وقد انتهت الأمور لصالح چون هونيادي في المجر؛ حيث قرَّر مجلس الشيوخ المجري (الدايت Diet) في نهاية الأمر تولية أحد أطفال العائلة الحاكمة -وهو لاديسلاس Ladislaus- مُلْكَ المجر؛ وذلك تحت رعاية حاكمٍ عسكريٍّ هو چون هونيادي، مع إعطائه لقب «الحاكم Governor»، وهو لقبٌ جديدٌ في هذه الحقبة التاريخيَّة اقتضته الظروف التي تمرُّ بها الدولة[129]. كان هذا التطوُّر في شهر يونيو 1446م، وكان يُنذر بتدبير چون هونيادي لعملٍ عسكريٍّ ضدَّ الدولة العثمانيَّة، التي لم تأخذ موقفًا عسكريًّا واضحًا ضدَّ المجر منذ نهاية أحداث موقعة ڤارنا عام 1444م.

رابعًا: كان الوضع في ألبانيا على الدرجة نفسها من السوء؛ فالمتمرِّد إسكندر بك يزداد قوَّة؛ بل يتوسَّع في الأراضي العثمانيَّة، وقد أخذت الدولة العثمانيَّة موقفًا عسكريًّا ضعيفًا تجاهه في هذه الفترة كانت له نتائج سلبيَّة كبيرة، وهذا الموقف كان عبارةً عن إرسال جيشٍ من تسعة آلاف مقاتلٍ بقيادة فيروز باشا، وقد التقى الجيش وقوَّات إسكندر بك عند جبل موكرا Mokra بمقدونيا شرق ألبانيا، وللأسف تعرَّض الجيش العثماني لهزيمةٍ كبيرةٍ في يوم 10 أكتوبر 1445م حيث قُتِل القائد العثماني فيروز باشا[130]، وتذكر المصادر الألبانيَّة المعاصرة أنَّ قتلى الجيش العثماني بلغوا ألفًا وخمسمائة قتيل[131]!

ومع فداحة المشكلة إلَّا أنَّ الدولة العثمانيَّة لم تأخذ موقفًا حاسمًا يُوازي الحدث.

خامسًا: كانت البندقية في مأزقٍ كبير؛ فهي دولةٌ تعتمد في حياتها على التجارة، والدولة العثمانيَّة بالنسبة إليها وسطٌ مناسبٌ جدًّا لذلك؛ فهي في حدِّ ذاتها دولةٌ واسعةٌ ذات قوَّةٍ شرائيَّةٍ كبيرة، بالإضافة إلى أنَّها دولةٌ وسيطةٌ بين الشرق والغرب، أو بين آسيا وأوروبَّا، وقد غامرت البندقية بالدخول في الحرب الصليبيَّة ضدَّ العثمانيِّين في ڤارنا على أمل إخراجهم تمامًا من البلقان، ومِنْ ثَمَّ ينفردون بالتجارة في شرق أوروبَّا، ولهذا نقضوا المعاهدة التي كانوا قد عقدوها قبل ذلك مع مراد الثاني عام 1431م، التي كانت تسمح لهم بالتجارة في الموانئ العثمانيَّة؛ ولكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن، وهُزِمت الجيوش الصليبيَّة، وخسرت البندقية عسكريًّا وسياسيًّا، والأهمُّ من ذلك اقتصاديًّا.

الآن، كما يقول المؤرِّخ الأميركي چون فريلي John Freely ، ستُحاول البندقية استغلال حداثة سنِّ السلطان الجديد في تجديد المعاهدة السابقة، وكأنَّ شيئًا لم يكن[132]! وحيث إنَّ البابا كان يرفض أن تعود البندقية لعلاقاتها التجاريَّة مع الدولة العثمانيَّة، فإنَّ مجلس الشيوخ البندقي كتب رسالةً إلى البابا يُوضِّح فيها الخسارة التي تُعانيها البندقية، ويذكر أنَّ هناك إمارات وممالك أوروبِّيَّة أخرى تعقد سلامًا مع العثمانيِّين؛ لذلك فهم يُريدون المعاملة بالمثل! ثم صوَّت مجلس الشيوخ المكوَّن من خمسةٍ وتسعين فردًا على هذه الرسالة، فوافقت عليها الأغلبيَّة الساحقة بشكلٍ عجيب؛ حيث صوَّت بالموافقة واحدٌ وتسعون عضوًا، ورفض اثنان فقط؛ بينما امتنع من التصويت اثنان كذلك[133]! إلى هذه الدرجة يُريد البنادقة العودة إلى السلام مع الدولة العثمانيَّة، وكانوا يُريدون الأمر بهذه السرعة قبل أن يعود مراد الثاني إلى الحكم في أيِّ ظرف، فعندها قد يضع شروطًا مذلَّةً عليهم لا يقدرون على تطبيقها.

والواقع أنَّه تمَّ للبنادقة ما أرادوا! ولقد عُقِدَت المعاهدة مع السلطان الجديد محمد الثاني في فبراير 1446م، وجُدِّدَت لهم المزايا التي كانوا يتمتَّعون بها في معاهدة 1431م[134]، ويُؤكِّد بابينجر على تشابه المعاهدتين[135]، وأحسبُ أنَّ الدولة العثمانيَّة لو كانت في حالتها الطبيعيَّة، ولو كان مراد الثاني في مقام السلطان، لأمكن للدولة العثمانيَّة أن تُحقِّق مكاسب أضخم من هذه المعاهدة، وقد ذكر بابينجر أنَّ مجلس الشيوخ البندقي أوصى المفاوضين البنادقة بمحاولة تجنُّب وضع بندٍ يفرض ضريبةً مُذِلَّةً (Humiliating) على جمهوريَّة البندقية[136]، فمعنى ذلك أنَّ هذا الأمر كان متوقَّعًا لولا الظروف الاستثنائيَّة التي تمرُّ بها الدولة العثمانيَّة.

سادسًا وأخيرًا: في شهر أبريل 1446م حدثت ثورةٌ من الجنود الإنكشاريَّة في إدرنة يُطالبون بزيادةٍ في أجورهم، وللضغط على السلطان الصغير حرقوا بعض المنشآت التجاريَّة في العاصمة ممَّا أدَّى إلى رضوخ السلطان لطلبهم، في سابقةٍ هي الأولى من نوعها في تاريخ الدولة العثمانيَّة[137].

هذا هو الوضع في هاتين السنتين العصيبتين في تاريخ الدولة العثمانيَّة.

وهذا هو ما دعا المؤرِّخ الچورچي ألكسندر ميكابريدز Alexander Mikaberidze إلى القول: «إنَّ محمدًا الثاني حكم سنتين حكمًا هشًّا إلى أن أسقطه الإنكشاريَّة بثورةٍ في عام 1446»[138]. بل وصف المؤرِّخ الإنجليزي الأميركي چون ميدلتون John Middleton هذه الفترة من الحكم بأنَّها كانت فشلًا بعد فشل[139]!

والحقُّ أنَّني لا ألوم على محمد الثاني في ذلك في شيء!

فعدم خبرته، وضعف قدرته على الحكم على الأمور، أمرٌ طبيعيٌّ في هذه السنِّ المبكرة، خاصَّةً أنَّه يحكم دولةً ديناميكيَّةً فيها حركةٌ واسعة، ولها أعداءٌ في أكثر من جبهة، والحسابات السياسيَّة لها معقَّدةٌ حتى على أعتى رجال السياسة، فما بالنا بطفلٍ صغيرٍ يصعد للمرَّة الأولى في عمره إلى مثل هذا المنصب، كما أنَّه من المتوقَّع ألَّا تقع الهيبة في قلوب العسكريِّين إذا ما رأوا هذا الطفل في كرسي الحكم؛ فإدارة العسكريِّين أصلًا تحتاج إلى قبضةٍ من حديد، وإلى قراراتٍ جريئةٍ قويَّة، وما لم يشعر الجنود بالرهبة من القائد فإنَّهم سينقلبون عليه حتمًا لشعورهم بقوَّتهم وقدرتهم على استخدام السلاح، ولهذا رفض رسول الله ﷺ إعطاء الإمارة لأبي ذرٍّ  مع كونه من أتقى الناس وأورعهم، وعلَّل رفضه بكلماتٍ قليلةٍ موجزةٍ للغاية، فقال: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ...»[140]. فالضعف الظاهر على طفلٍ لم يبلغ الثالثة عشرة من عمره أمرٌ واضحٌ لكلِّ الناس فضلًا عن العسكريِّين، وهو أمرٌ واضحٌ كذلك لكلِّ أعداء الدولة، سواءٌ في اليونان، أم ألبانيا، أم المجر، أم البندقية، وهذا ما أفرز المواقف التي ذكرناها في هاتين السنتين.

إنَّني لا ألوم على محمد الثاني في هذه الأحداث؛ ولكن ألوم بشدَّةٍ على مراد الثاني الذي ارتكب خطأً فادحًا بتنازله عن العرش لابنه وهو في هذه السنِّ المبكرة، والأَولى شرعيًّا في مثل هذه الأمور إنْ لم يكن قادرًا بالمرَّة على إدارة البلاد -لإصابته بمرضٍ أو نحو ذلك- أن يُعطي الحكم لمن يقدر على إدارة الدولة بحكمة، ولو لم يكن من العائلة العثمانيَّة أصلًا؛ ومع ذلك فإنَّنا سنرى أنَّ مرادًا الثاني سيعود للحكم بعد هاتين السنتين السيِّئتين، وسيُعيد الأمور إلى نصابها، ممَّا يُؤكِّد أنَّه، وإنْ كان مرهقًا، أو راغبًا في العزلة، فما زالت لديه القدرة على الإدارة بحكمة، والقيادة بقوَّة، وهذا ما يُؤكِّد خطأه عند التنازل لابنه عن العرش.

أجبرت الأحداث المتلاحقة السلطان مرادًا الثاني على العودة في قرار التنازل لابنه محمد الثاني، وعاد إلى إدرنة ليتسلَّم الحكم من جديد في سبتمبر 1446[141]، وهدأت الأمور فورًا في إدرنة العاصمة، وانسحب محمد الثاني إلى مانيسا مرَّةً ثانيةً ليتولَّى من جديد إدارة هذه الولاية، وكان حينئذٍ قد تجاوز الرابعة عشرة من عمره بستَّة شهور[142].

ثانيًا: عودة مراد الثاني للحكم، وفتح الملف اليوناني:

عاد مراد الثاني إلى قصر حكمه في إدرنة نشيطًا متحمِّسًا، وبدأ في دراسة الملفَّات الكثيرة التي فُتِحت في العامين السابقين، وتعامل معها بجدِّيَّةٍ عظيمةٍ أنبأت عن قدراته القياديَّة والإداريَّة الكبيرة.

وَجَد السلطان مراد الثاني أنَّ أخطر الملفَّات التي تواجه الدولة العثمانيَّة آنذاك كان الملف اليوناني؛ فالأمير قُسطنطين توسَّع في الأراضي العثمانيَّة، وأجبر بعض أتباعها على دفع الجزية إليه، وهو قريبٌ من إدرنة العاصمة العثمانيَّة، وإمكانات تعاونه مع الأساطيل الأوروبِّيَّة واردةٌ ممَّا قد يُهدِّد قلب الدولة العثمانيَّة، ولهذا آثر أن يُعطي هذه المسألة أولويَّةً كبرى وحاسمة؛ لذلك سعى إلى تسكين الجبهات الأخرى حتى يتفرَّغ كليَّةً لهذا الأمر. بدأ السلطان عمله بقبول تأكيد معاهدة السلام المبرَمة مع البندقية، التي وقَّعها ابنه السلطان محمد الثاني منذ فبراير 1446. تمَّت هذه الموافقة في 25 أكتوبر من العام نفسه[143]؛ أي بعد شهرٍ تقريبًا من عودة السلطان مراد الثاني للحكم، وكان السلطان مراد الثاني مطمئنًّا كذلك إلى الجبهة الصربيَّة؛ فقد أبدى برانكوڤيتش نزعةً سلميَّةً واضحةً في العامين الماضيين؛ حيث لم يشترك أصلًا في موقعة ڤارنا[144]، وآثر عدم التعاون مع المجر بعد ذلك.

في الوقت نفسه، وفور عودة السلطان مراد الثاني إلى الحكم، تقدَّم ڤلاد الثاني (دراكول) أمير الإفلاق بطلب عقد معاهدة سلامٍ وتبعيَّةٍ جديدةٍ مع الدولة العثمانيَّة؛ بل عرض إعادة بعض اللاجئين البلغار الذين لجئُوا إلى إمارته في وقت حربها مع العثمانيِّين، وعلى الرغم من فداحة الجرم الذي فعله ڤلاد الثاني قبل ذلك مع الدولة العثمانيَّة، فإنَّ السلطان مرادًا قَبِل عقد هذه المعاهدة[145] ليُعطي نفسه الفرصة للتوجُّه جنوبًا ناحية اليونان؛ وذلك بعد سكون الجبهة الشماليَّة (الإفلاق)، والجبهة الشماليَّة الغربيَّة (البندقية وصربيا).

هكذا صار السلطان مراد الثاني متفرِّغًا لمسألة اليونان؛ ومع أنَّ الشتاء كان قد دخل، وكان من عادة الجيوش ألَّا تُقاتل في ذلك الوقت خوفًا من الأحوال الجويَّة السيِّئة، إلَّا أنَّ السلطان مرادًا الثاني لم يُؤخِّر الأمر؛ إنَّما تحرَّك من فوره في اتِّجاه شبه جزيرة المورة على رأس جيشٍ يزيد على خمسين ألف مقاتل[146]. قصف مراد الثاني حائط هيكسامِليون Hexamillion Wall الذي يحمي المورة، وهدمه في 10 ديسمبر 1446، ثم التقى في عدَّة معارك وجيوش قسطنطين، فحقَّق انتصاراتٍ كبيرة[147]، ودون الدخول في تفصيلات هذه المعارك المتعدِّدة يُمكن أن ننظر إلى النتائج لنُدرك حجم النجاح الذي حقَّقه السلطان مراد الثاني في هذه الحملة:

1. استردَّ مراد الثاني كلَّ الأراضي التي كان قُسطنطين قد أخذها في العامين السابقين[148].

2. تمَّ تدمير أجزاء أخرى من حائط هيكسامِليون بحيث لا يُصبح عائقًا أمام الجيوش العثمانيَّة بعد ذلك[149].

3. حصل الجيش العثماني على كميَّةٍ كبيرةٍ من الغنائم، إلى درجة أنَّ الجنود كانوا يضطرُّون إلى الاختيار بين الغنائم لكثرتها؛ حيث لم يتمكَّنوا من حملها كلِّها[150]!

4. عدد الأسرى اليونانيِّين غير متخيَّل! إذ أجمعت المصادر على أنَّه تجاوز الستِّين ألف أسير[151][152][153][154]!

5. عاد حاكم أثينا الفلورنسي نيرو الثاني Neiro II إلى تبعيَّة الدولة العثمانيَّة[155].

6. الأهم من كلِّ ما سبق هو إقرار قُسطنطين وأخيه تُوماس Thomas Palaiologos، بالتبعيَّة للدولة العثمانيَّة، ودفع الجزية وخراج الأرض[156]، ممَّا يعني ضم أهم أجزاء اليونان، وهو الجزء الجنوبي الواقع على سواحل بحر إيجة والبحر المتوسط، إلى الدولة العثمانيَّة، وهو نصرٌ استراتيجيٌّ كبير؛ وذلك من ناحيتين: الأولى أنَّه أرغم واحدًا من أشدِّ أعداء الدولة العثمانيَّة وأعنفهم في حربها على الركون والسكون إلى السلطان العثماني، وهذا أضعف النفسيَّة اليونانيَّة على وجه الخصوص، والأوروبِّيَّة على وجه العموم، والثانية أنَّ هذا النصر سيُعطي طريقًا عثمانيًّا إلى موانئ شبه جزيرة المورة، والمملوكة في معظمها لجمهوريَّة البندقية، وهذا قد يُمثِّل ورقة ضغطٍ على البنادقة، خاصَّةً وأنَّ نقضهم للعهد في ڤارنا لم يمر عليه إلَّا عامان فقط.

ثالثًا: حملة همايونية على ألبانيا:

بعد الحملة الناجحة على اليونان، وبعد تسكين الجبهات الشماليَّة والشماليَّة الغربيَّة، صار الهمُّ الأكبر لمراد الثاني هو إخضاع ألبانيا لسيطرة الدولة العثمانيَّة؛ فالتمرُّد الذي قام به إسكندر بك منذ عام 1443 ما زال مستمرًّا؛ بل تعرَّض الجيش العثماني لهزيمةٍ من الألبان في فترة حكم محمد الثاني، وهناك بوادر توسُّع للألبان في مقدونيا، ويبدو أنَّ الأوروبِّيِّين بعد حملة مراد الثاني على اليونان قد فَقَدوا الأمل في التعاون مع البيزنطيِّين ضدَّ الدولة العثمانيَّة، ولهذا صارت آمالهم معلَّقةً برموزٍ مقاوِمَةٍ أخرى، وكان من أبرزهم إسكندر بك.

كان القرار هو إخراج حملةٍ همايونيَّة -أي بقيادة السلطان نفسه- إلى ألبانيا، وقد بلغ تعداد الجيش العثماني في بعض التقديرات حوالي مائةٍ وسبعين ألف مقاتل، وإن كان الأصوب أنَّه حوالي ثمانين ألف مقاتل[157]، وهو في كلِّ الأحوال رقمٌ كبيرٌ؛ حيث إنَّ جيوش إسكندر بك كانت حوالي ثمانية آلاف جنديٍّ فقط في المجمل[158]، وقد استدعى السلطان مراد الثاني ابنه محمدًا الثاني من مانيسا ليشترك في الحملة[159].

كانت وجهة السلطان مراد الثاني هي قلعة سڤيتيجراد، البوابة الشرقيَّة لألبانيا، وقد وصل إليها بالفعل، وضرب حولها الحصار، بدايةً من 14 مايو 1448[160]، واستمرَّ الحصار أكثر من شهرين، ثم سقطت القلعة في يد المسلمين بعد أن أعطى السلطان مراد الثاني الأمان لحاميتها، وقد خرجت الحامية بكاملها في يوم 31 يوليو 1448م، ووفَّى السلطان بوعده فلم يتعرَّض بأذًى لأيِّ فردٍ من أفرادها، وتسلَّم المسلمون القلعة[161].

رابعًا: موقعة كوسوڤو الثانية:

عاد السلطان مراد الثاني إلى إدرنة فورًا بعد تسليم القلعة؛ ولكن بمجرَّد وصوله أتته الأخبار بتصعيدٍ جديدٍ في الجبهة الغربيَّة أيضًا؛ ولكن مع عدوٍّ جديدٍ هو چون هونيادي حاكم المجر!

لقد كانت الأولويَّة الكُبرى عِند چون هونيادي في هذه المرحلة هي الانتقام من الدولة العثمانيَّة وسلطانها مراد الثاني بعد هزيمة ڤارنا، وكان يعلم أن صِدامًا مع الجيش العثماني الكبير سيكون أمرًا صعبًا على جيشه منفردًا؛ لذلك سعى بكلِّ طاقته لاستنفار زعماء أوروبا لمساعدته في هذه المهمَّة، ولقد جاءت ردود الفعل متفاوتةً بشكلٍ كبير! وإن كانت في المجمل سلبيَّةً على غير ما توقَّع هونيادي! لقد جاء ردُّ فعل البابا صريحًا بالرفض لشكِّه في نجاح الحرب ضدَّ العثمانيين في هذه المرحلة[162]، وكذلك فعلت البندقية، التي كانت حريصةً على استمرار عَلاقاتها السلميَّة بالدولة العثمانيَّة، ومثلهما فعل ملك أراجون ونابولي Naples ألفونسو الخامس Alfonso V، و-أيضًا- چورچ برانكوڤيتش أمير صربيا[163]. ومع ذلك فقد جاءته موافقةٌ للمشاركة بأعدادٍ صغيرةٍ نسبيًّا مِن مملكة بوهيميا (جزء من دولة التشيك الآن)، وكذلك من بعض الإمارات الألمانيَّة[164]، أمَّا الموافقة الأكبر فقد جاءت من زعيم التمرد الألباني إسكندر بك[165].

تحرَّك السُّلطان مراد الثاني بجيوشه بسرعةٍ في اتِّجاه الغرب، مصطحبًا معه وليَّ العهد الأمير محمد الثاني، وكان تعداد الجيش العثماني في بعض التَّقديرات أربعين ألف مقاتل[166]، وارتفعت به تقديراتٌ أخرى إلى ستين ألف مقاتل[167]؛ بينما كان جيش هونيادي يُقَدَّر بحوالي 30 ألف مقاتل[168]، وارتفعت به بعض التَّقديرات إلى 47 ألف مقاتل[169]، وهذا يعني أن الجيوش كانت متكافئةً نسبيًّا في العدد مع زيادةٍ طفيفةٍ في الجانب العثماني.

في يوم 4 أكتوبر 1448م، أو قبله بيوم، وصل مراد الثاني إلى سهل كوسوڤو[170]؛ حيث يتوقَّع مراد الثاني أن يقطع هنا الطريق على جيش هونيادي الذي يرغب في الوصول إلى ألبانيا لمصاحبة حليفه إسكندر بك، ومن اللطيف أن هذا السهل شهد موقعةً ضاريةً قبل تسعٍ وخمسين سنةً من هذه الأحداث؛ أي في عام 1389م، بين الجيش العثماني بقيادة مراد الأول (أبو جدِّ السلطان مراد الثاني) ودولة صربيا بقيادة ملكها لازار، فيما عُرِف في التاريخ بمعركة كوسوڤو الأولى، وكان النصر فيها حليف الجيش العثماني[171]، ولهذا ستُعرَف المعركة التي ستدور الآن بين الجيش العثماني وجيش المجر بمعركة كوسوڤو الثانية.

وصل چون هونيادي إلى ساحة كوسوڤو في يوم 17 أكتوبر 1448م[172]؛ أي بعد الجيش العثماني بأسبوعين كاملين، ولا شَكَّ أن هذا كان في مصلحة العثمانيين، وقد بدأ القتال فورًا واستمرَّ ثلاثة أيَّامٍ كاملة (17 -19 أكتوبر)، وكان القتال ضاريًا، وسقط القتلى بالآلاف، وكانت الكِفَّة في يوم 18 أكتوبر لصالح المجريِّين؛ ولكن في يوم 19 أكتوبر الموافق (20 شعبان 852هـ)[173][174] صارت في صالح الجيش العثماني، وسرعان ما قرأ هونيادي أن الهزيمة آتيةٌ لا محالة، ومِنْ ثَمَّ أخذ القرار المفاجئ بالهرب تاركًا عددًا كبيرًا من رجاله وأسلحته في أرض القتال[175][176][177].

كانت الهزيمة كارثيَّةً على الجيش المجري؛ فَقَدَ هونيادي في هذه المعركة 17 ألف قتيل[178]، ولم تكن الخسارة في الجنود فقط؛ إنما سقط كلُّ النبلاء والقادة الذين كانوا في جيش هونيادي، وكان هو الوحيد من نبلاء المجر الذي نجا بحياته[179]، بالإضافة إلى أمير الإفلاق الروماني ڤلاديسلاڤ الثاني[180].

تتفاوت التَّقديرات بشدَّة في خسائر الجيش العثماني، فبينما يذكر بابينجر أنها تقترب من 35 ألف قتيل[181] يهبط بها أوزتونا إلى أربعة آلاف شهيد فقط[182]، وبين هذا وذاك توجد تقديرات أخرى كثيرة؛ ولكن على العموم فإن كلَّ المراجع بلا استثناء -سواء كانت تركية أم غربية- تؤكد أن النصر كان للجيش العثماني بشكلٍ حاسم؛ بل إن بعض المؤرِّخين يعدُّون هذه المعركة أهمَّ من معركة ڤارنا الشهيرة (عام 1444م)، فعلى سبيل المثال يصف المؤرخ الأرجنتيني، والأستاذ بجامعة سوانزي الإنجليزية، روبرت بيديلو Robert Bideleux- موقعة كوسوڤو الثانية بالقياس إلى ڤارنا قائلًا: «كانت أقلَّ شهرةً لكنَّها أكثر حسمًا»[183]. ويقول المؤرخ المجري بال إنچل Pál Engel: «انتهت معركة كوسوڤو الثانية بهزيمةٍ ثقيلةٍ Heavy defeat للنصارى، وهلك الجزء الأعظم من جيوشهم»[184].

هذه هي معركة كوسوڤو الثانية عام 1448م! وهي لا تختلف كثيرًا عن معركة كوسوڤو الأولى عام 1389؛ إذ تحقَّق في كُلٍّ منهما النصر الحاسم للمسلمين.

هكذا انتهى الصدام العسكري الكبير بين الدولة العثمانيَّة والمجر، وتحوَّل هونيادي من سياسة الهجوم إلى سياسة الدفاع، ولم يبقَ في البلقان رافعًا راية الحرب ضدَّ العثمانيين إلا متمرد ألبانيا إسكندر بك، وعليه كانت تُعوِّل النصرانية الغربية في مقاومة الدولة العثمانيَّة، وإن كانت موقعة كوسوڤو الثانية قد أنهت كلَّ طموحات الغرب في إخراج العثمانيين من البلقان بشكلٍ كاملٍ.

خامسًا: الإمبراطور الأخير في الدولة البيزنطية:

وفي يوم 31 أكتوبر 1448م، وقبل أن يصل مراد الثاني من كوسوڤو إلى عاصمته إدرنة، تُوفِّي الإمبراطور چون الثامن إمبراطور الدولة البيزنطيَّة، ولم يكن له أبناء، فخلفه أخوه قُسطنطين على الحكم، إلَّا أنَّ ذلك لم يُرْضِ الأخوين الآخرين: تُوماس Thomas، وديمتريوس Demetrius، فدار صراعٌ بين الثلاثة لكن استقرَّت الأمور في النهاية لقسطنطين[185]، الذي تُوِّج تحت لقب قُسطنطين الحادي عشر Constantine XI Palaiologos، وهو تتويجٌ مهمٌّ في التاريخ؛ لأنَّه سيكون الأخير في حياة هذه الإمبراطوريَّة العتيدة؛ إذ ستنهار كليَّةً في عهده؛ وذلك عندما يفتح محمد الثاني القسطنطينيَّة في عام 1453؛ ولقد راسل الإمبراطور الجديد مرادًا الثاني طالبًا عقد معاهدة سلام، وفي الوقت نفسه قسَّم شبه جزيرة المورة اليونانيَّة بين أخويه تُوماس وديمتريوس، اللذين صارا بذلك تابعَين للدولة العثمانيَّة[186].

سادسًا: حملة همايونية أخرى على ألبانيا:

لم يبقَ ما يُؤرِّق حياة السلطان مراد الثاني، ويُشعره بالقلق على مستقبل الدولة العثمانيَّة، ومستقبل ابنه الأمير محمد الثاني، إلَّا مسألةٌ واحدةٌ فقط، وهي تمرُّد ألبانيا!

إنَّ قوَّة إسكندر بك تتزايد مع الوقت، وأوروبَّا تُعلِّق آمالها عليه، وستُقدِّم له الدعم حتمًا، ووجود مثل هذا التمرُّد في هذه المنطقة البعيدة عن مركز الدولة العثمانيَّة يُمثِّل خطرًا داهمًا؛ إذ إنَّ احتمالات التوسُّع شرقًا في مقدونيا، أو جنوبًا في اليونان، واردةٌ بقوَّة، كما أنَّ ضياع إقليم ألبانيا ونجاح فكرة التمرُّد فيه، قد يُثير بقيَّة الأقاليم العثمانيَّة في أوروبَّا، وقد تحدث انقلاباتٌ مشابهةٌ في مقدونيا، أو بلغاريا، أو اليونان.

هذه الهواجس كلُّها دفعت مرادًا الثاني إلى القيام في صيف 1450م بحملةٍ همايونيَّةٍ جديدةٍ على ألبانيا، مصطحبًا معه كذلك الأمير محمد الثاني، وكانت وجهة الجيش في هذه المرَّة عاصمةَ التمرُّد الألباني، وهي مدينة كرويه Krujë الحصينة، وبلغ تعداد الجيش العثماني مائة ألف مقاتل كان منهم ستُّون ألفًا من الفرسان[187].

كانت مدينة كرويه من أحصن المدن في البلقان، وكأنَّها جزءٌ من الجبل الذي بُنيت عليه، وهذا ساعد إسكندر بك على اختيار سياسة القتال ضدَّ جيوش الدولة العثمانيَّة الكبيرة؛ فقد قرَّر إسكندر بك أن يترك في القلعة حاميةً محدودةً قوامها أربعة آلاف مقاتل[188]، كانت كافيةً للدفاع عن المدينة الحصينة؛ حيث إنَّها لن تدخل في حروبٍ ميدانيَّةٍ مع الجيش العثماني؛ أمَّا هو فقد جهَّز جيشًا من ثمانية آلاف مقاتل، سيُحاربون حرب العصابات عن طريق الكرِّ والفرِّ[189].

في 14 مايو 1450م وصل الجيش العثماني آمنًا إلى أسوار مدينة كرويه[190]، ونصب آلات الحصار والمدافع حول قلعة المدينة، وكان منها بعض المدافع الضخمة التي تلقي قذائف بوزن أربعمائة باوند[191]، وعرض السلطان على الحامية أن تستسلم ويُعطيها الأمان، ولكنَّها رفضت، فبدأ من فوره في قذف المدينة، واستمرَّ القصف أربعة أيَّامٍ متواصلة حتى أحدث ثقبًا في أحد الجدران، ولكنَّ جنوده لم يستطيعوا الدخول من هذا الثقب لصلابة الحامية المدافعة عن المدينة، ووفرة قذائفهم، فأُصلِح الثقب ولم يدخل إلى المدينة أحدٌ من العثمانيِّين[192]. في هذه الأثناء بُوغِت المعسكر العثماني ليلًا، ممَّا أحدث خسائر كثيرة في الأرواح في الجانب المسلم[193].

كرَّر مراد الثاني محاولة اقتحام القلعة في أواخر شهر يوليو، ولكنَّ محاولته باءت بالفشل كذلك؛ بل تعرَّض جيشه لهجماتٍ ليليَّةٍ متكرِّرة، كما استُدرِج أكثر من مرَّة في الجبال، ثم وقع في كمائن، وكانت خسارته كبيرة[194]. استمرَّ الحصار للمدينة دون فائدة، وكرَّر مراد الثاني محاولة الاقتحام مرَّةً ثالثة؛ ولكن دون نتيجة، وبدا واضحًا أنَّ اقتحام القلعة عسكريًّا هو أمرٌ من الصعوبة بمكان[195]. وفي شهر أكتوبر أدرك السلطان مراد الثاني أنَّ قدوم الشتاء سيُصعِّب الأمور كثيرًا على الجيش، وقد تتمكَّن الفرق الألبانية المعتادة على الأجواء السيِّئة للطقس أن تنال من الجيش العثماني بصورةٍ أكبر، ولهذا قرَّر رفع الحصار آسفًا في 26 أكتوبر والعودة إلى إدرنة دون تحقيق نتيجة[196].

كانت خسائر الجيش العثماني في هذا الحصار الطويل الذي زاد على أربعة أشهر، خسائر كبيرة للغاية؛ إذ تذكر المصادر أنَّ الأرقام جاوزت عشرين ألف قتيل[197][198]، هذا غير الخسائر الاقتصاديَّة والمعنويَّة، بالإضافة إلى الأثر الإيجابي المعنوي الكبير الذي حقَّقه إسكندر بك بهذا الانتصار.

هكذا كانت حملة ألبانيا بنتائجها السلبيَّة، وقد تركت الانطباع الراسخ عند السلطان مراد الثاني، وكذلك عند وليِّ عهده الأمير محمد الثاني، أنَّ مشكلة تمرُّد إسكندر بك ليست مشكلةً عابرة؛ إنَّما ستؤرِّق الدولة العثمانيَّة لعدَّة سنواتٍ قادمة.

سابعًا: ميراث مراد الثاني:

عاد السلطان مراد الثاني إلى إدرنة، وعاد الأمير محمد الثاني إلى مانيسا، وانشغل السلطان في بعض الأمور الداخليَّة في العاصمة، ولكنَّ انشغاله لم يَدُمْ طويلًا؛ إذ شاء الله  أن تنتهي حياته رحمه الله في الثالث من فبراير عام 1451[199] الموافق الثاني والعشرين من ذي الحجة 854هـ[200]. لقد حدث ما كان يتوقَّعه مراد الثاني؛ إذ مات وهو في السابعة والأربعين فقط من عمره! ليترك المجال لابنه محمد الثاني لارتقاء العرش وهو في التاسعة عشرة من العمر.
فقدت الدولة العثمانيَّة بموته شخصيَّةً جديرةً بالاحترام حقًّا..

قال عنه السخاوي: «وصار من عظماء ملوك الروم (أي أرض الروم، التي هي الأناضول وشرق أوروبا)، وأهلك الله على يديه مَلِكًا عظيمًا من ملوك بني الأصفر (يقصد ڤلاديسلاڤ الثالث Vladislav III ملك بولندا والمجر في معركة ڤارنا)[201].

ويقول عنه المؤرِّخ الألماني هانز كيسلينج Hans Kissling: «بولاية مراد الثاني اكتسبت الدولة العثمانيَّة سلطانًا قادرًا وحازمًا، الذي كان في الوقت نفسه محترِمًا للقانون، مؤْثِرًا للإصلاح الهادئ. كانت الحرب بالنسبة إليه شرًّا غير متجنَّب وليست جزءًا لا يتجزَّأ من الحياة»[202].

أمَّا المؤرِّخ البيزنطي الشهير چورچ فرانتزس George Phrantzes، وهو معاصر لمراد الثاني، فيقول: «لقد مَيَّز مراد الثاني نفسه باهتمامه بممارسة العدل، وبإصلاحاته للتعدِّيات الظالمة التي كانت منتشرةً تحت حكم الأباطرة اليونانيِّين. لو أنَّ أيَّ واحدٍ من قادته أو قضاته ظلم رعاياه النصارى فإنَّه كان يُعاقبهم بلا رحمة». وقد نقل هذه الشهادة المؤرِّخ الأسكتلندي چورچ فينلاي في كتابه عن تاريخ اليونان، وذكر أنَّ مثل هذه الشهادة في حقِّ مراد الثاني تكرَّرت كذلك في حقِّ السلاطين الأربعة الذين سبقوه، وهم: أورخان، ومراد الأوَّل، وبايزيد الأوَّل، ومحمد الأوَّل. وقال: «إنَّ هذا السلوك من السلاطين الخمسة -هؤلاء الأربعة ومراد الثاني- هو الذي فتح الطريق لفتح اليونان، خاصَّةً إذا ما قُورِن بعنايةٍ بسلوك الأباطرة المعاصرين»[203]!

والواقع أننا نحتاج إلى دراسةٍ متعمِّقةٍ لحياة هذا العَلَم الكبير مراد الثاني، ليس فقط لفهم الإنجازات التي حقَّقها للدولة العثمانية في فترة حكمه؛ ولكن لفهم التطوُّر العظيم الذي سيحدث لاحقًا في فترة حكم ابنه محمد الثاني (الفاتح)، والتي لا يمكن أن تُستوعَب إلا بإدراك الجهود العظيمة التي بذلها هذا السلطان القدير، وسوف أقوم الآن بإيجاز ما تركه لابنه قبل وفاته، وكان سببًا مباشرًا في نجاح الفاتح في الوصول إلى ما وصل إليه في حياته:

أوَّلًا: ترك مراد الثاني دولةً واسعةً مترامية الأطراف، تقترب من حجم الدولة التي كان يحكمها بايزيد الأوَّل قبل كارثة أنقرة عام 1402م، وكانت الدولة عند موت مراد الثاني قد وصلت إلى مساحةٍ 650 ألف كيلو متر مربع، وكانت تضمُّ أجزاءً تُدار بشكلٍ مباشرٍ تشمل: الثلث الغربي من الأناضول، والجزء الأوروبي من تركيا الحديثة باستثناء إسطنبول، وشمال شرق اليونان، ودول بلغاريا، ومقدونيا، وكوسوڤو. وكانت تضمُّ كذلك أجزاءً تتبع الدولة العثمانيَّة وإن كانت تُدار بأهلها، وهذه هي: إمارتا قرمان وإسفنديار في الأناضول، ومملكة البوسنة، ودوقيَّة الهرسك، وجمهوريَّة راجوزا (دوبروڤنيك)، وإمارة المورة اليونانيَّة، وإمارة أتيكا التي تشمل مدينة أثينا في اليونان بالإضافة إلى بعض الإمارات التي لم تكن مستقرَّةً في ولائها، مثل: الإفلاق الرومانيَّة، وصربيا، وألبانيا. لكن على العموم كانت دولة مراد الثاني من الدول الراسخة الكبيرة في أوروبَّا والأناضول، ولم يكن من الممكن لأيِّ دولةٍ في هذه المناطق الواسعة أن تأخذ قرارًا في سياساتها دون حساب أمر هذه الدولة الكبيرة القويَّة، وهذا ولا شَكَّ أعطى محمدًا الثاني عند بداية حكمه مكانةً محترمةً يُمكن أن ينطلق منها إلى آفاقٍ أوسع.

ثانيًا: جيش الدولة العثمانية عند وفاة مراد الثاني كان جيشًا قويًّا قاهرًا، ومن أفضل جيوش أوروبَّا بلا جدال، ولم يكن يتميَّز بالعدد الكبير فقط؛ إنَّما بالشجاعة الظاهرة، والمهارة الفائقة، وكانت عُدَّته حديثة معاصرة، وكان مزوَّدًا بالمدافع التي تقذف قذائف البارود، ومزوَّدًا كذلك بالبنادق الناريَّة، علمًا أنَّ جيوشًا كثيرةً في الأرض كانت لا تزال تُقاتل بأسلحة القرون الوسطى من سيوفٍ ورماحٍ وسهام فقط.

ثالثًا: استطاع مراد الثاني قبل موته أن يقمع معظم الأعداء المتربِّصين بالدولة العثمانيَّة، ممَّا سيُوَفِّر لمحمد الثاني وَسَطًا هادئًا يستطيع أن يُحقِّق طموحاته فيه دون مقاومةٍ كبيرةٍ من المناوئين. قنع چون هونيادي حاكم المجر بتجنُّب الدولة العثمانيَّة بعد هزيمتي ڤارنا وكوسوڤو الثانية. قَبِلَت البندقية عقد المعاهدات التجاريَّة مع العثمانيِّين على الرغم من تعرُّضها لهجماتٍ في بحر إيجة. العلاقات مع چورچ برانكوڤيتش زعيم الصرب كانت هادئة ومتعاوِنة. استكان اليونان بعد هزيمة قُسطنطين وإخوته في المورة، حتى عندما تحوَّل قُسطنطين لقيادة الدولة البيزنطيَّة فعل ذلك هادئًا دون تصعيدٍ أمام الدولة العثمانيَّة. كان ملك البوسنة ودوق الهرسك يدفعان الجزية بانتظام، وكذلك كانت تفعل جمهوريَّة دوبروڤنيك الإيطاليَّة.

رابعًا: أدَّت الضربات المتتالية للدولة البيزنطيَّة في عهد مراد الثاني إلى استكانتها بشكلٍ واضح، حتى رأينا البيزنطيِّين يحرصون على أخذ اعتراف مراد الثاني بالإمبراطور الجديد، ورأيناهم عند اختلافهم وصراعهم يلجئون إلى السلطان العثماني ليُعِين أحدهم على الآخر، وهذا كلُّه يصبُّ في إحداث هزيمةٍ نفسيَّةٍ عند البيزنطيِّين، ورفعٍ للمعنويَّات عند العثمانيِّين، وسيكون لهذا الشعور دورٌ مهمٌّ في سير الأحداث المستقبليَّة عند ولاية محمد الثاني.

خامسًا: من أروع ما تركه مراد الثاني في دولته بشكلٍ عامٍّ، وفي البلقان بشكلٍ خاص، حالةُ الرضا الشعبي عن أداء الحكومة العثمانيَّة وقيادتها، وهو ما لمسناه في شهادات المؤرِّخين البيزنطيِّين، فهذا الهدوء العام، والقبول التلقائي من شعوب الدولة العثمانيَّة -خاصَّةً النصارى منهم- لحكم السلطان مراد الثاني وأجداده من قبله، كان له الأثر المباشر في تهيئة الأجواء لمحمد الثاني لحكم دولةٍ مستقرَّةٍ داخليًّا، ممَّا سيُعطيه فرصةً كبيرةً للتوسُّع خارجيًّا وهو مطمئنٌّ للوضع في بلاده.

سادسًا: ترك مراد الثاني عند وفاته الأناضول هادئًا إلى حدٍّ كبير. نَعَمْ لم يكن العثمانيُّون يحكمون بشكلٍ مباشرٍ إلَّا ثلث الأناضول الغربي، ونَعَمْ لم تكن إمارة قرمان قابلةً بشكلٍ تامٍّ بأمر التبعيَّة للدولة العثمانيَّة؛ لكن الأجواء كانت هادئةً منذ عام 1444م؛ أي لمدَّة سبع سنوات قبل موت مراد الثاني في عام 1451م، ممَّا دعم بشكلٍ أكبر وَضْع محمد الثاني، وفتح له المجال لإحداث مزيدٍ من التوسُّع والاستقرار في الأناضول.

هكذا كانت الأوضاع السياسيَّة والعسكريَّة في الدولة العثمانيَّة عند اللحظات الأخيرة من حكم مراد الثاني وبداية حكم محمد الثاني؛ ومع ذلك لم تكن كلُّ الأمور على ما يرام؛ بل كانت هناك بعض المشكلات التي لم يصل فيها مراد الثاني إلى حلٍّ يُريح الدولة وسلطانها الجديد؛ وذلك مثل مشكلة تمرُّد ألبانيا، وكذلك مشكلة تمرُّد الإفلاق، فهاتان الإمارتان ما زالتا خارجتين عن الدولة العثمانيَّة. ألبانيا كانت شبه مستقلَّة ومدعومة من الغرب، والإفلاق كانت تُعطي ولاءها للمجر. وبالإضافة إليهما كانت إمارة صربيا متردِّدةً في ولائها؛ فقد حصلت على استقلالها بعد معاهدة سسيچيد عام 1444م؛ لكن بعد نقض المعاهدة صار العثمانيُّون في حِلٍّ من استقلال صربيا؛ ومع ذلك فالقوَّة العثمانيَّة لم تكن قادرةً على إعادة ضمِّ صربيا إليها بعد انتصاري ڤارنا وكوسوڤو الثانية، ومِنْ ثَمَّ استمرَّت صربيا في استقلالها؛ ومع ذلك كان برانكوڤيتش حريصًا على إظهار وُدِّه للسلطان مراد الثاني تجنُّبًا لإعادة ضمِّ صربيا إلى الدولة العثمانيَّة.

وينبغي قبل إنهاء التعليق على جهود مراد الثاني في فترة حكمه ألَّا نغفل الحديث عن اهتمام السلطان القدير بأمور النهضة، والعمران، والعلوم، والحضارة بشكلٍ عامٍّ؛ فهذه النقلة النوعيَّة للدولة العثمانيَّة من دولةٍ تهتمُّ بالأمور العسكريَّة والجهاديَّة فقط إلى دولةٍ متكاملةٍ تهتمُّ بشتَّى المجالات الحياتيَّة، هي نقلةٌ يرجع فيها الفضلُ لمراد الثاني بلا جدال، فخطواته في هذا المجال ليست مسبوقةً، خاصَّةً في هذه المنطقة من العالم الإسلامي، وهذا سيكون له الأثر الواضح على فكر وأسلوب محمد الثاني، وهو يُفسِّر بسهولةٍ كثيرًا من القرارات والاتجاهات التي اختارها السلطان الجديد في دولته، وهو ما سيعود بالنفع الغزير على الدولة العثمانيَّة بشكلٍ خاص، وعلى المسلمين بشكلٍ عامٍّ. كما ينبغي الإشارة -أيضًا- إلى بروز الروح الإسلاميَّة عند السلطان مراد الثاني، الذي كان حريصًا على إبراز إسلاميَّة الدولة، وعلى تذكير جنوده أنَّ جهادهم هذا هو في سبيل الله، وكان يقول لهم قبل المعارك: «من يعش منكم فسيكون مجاهدًا، ومن يمت سيكون شهيدًا»[204]. وكان حريصًا في انتصاراته على أن يأخذ الانتصارُ الشكلَ الشرعيَّ الإسلاميَّ الصحيح، فكان يمنع جنوده من الإفساد في الأرض، ويمنعهم من الإثخان في القتل[205]، وهذا كلُّه لإيصال الدعوة الإسلاميَّة بشكلٍ صحيحٍ إلى أعدائها. لا شَكَّ أن هذه الشخصيَّة الإسلاميَّة المتكاملة كان لها أثرٌ كبيرٌ في تكوين السلطان الجديد محمد الثاني[206].

هكذا كانت الأوضاع في فبراير م1451م يوم مات السلطان القدير مراد الثاني!

وهكذا صارت البلاد مؤهَّلةً لاستقبال أعظم سلاطينها على الإطلاق: محمد الفاتح!


[1] ديورانت، ول: قصة الحضارة، ترجمة: زكي نجيب محمود، وآخرين، تقديم: محيي الدين صابر، دار الجيل-بيروت، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم-تونس، 1408هـ=1988م.صفحة 26/58.
[2] القرماني، أحمد بن يوسف بن أحمد: أخبار الدول وآثار الأول في التاريخ، تحقيق: أحمد حطيط، فهمي السعيد، عالم الكتب، الطبعة الأولى، 1412هـ=1992م.صفحة 3/27.
[3]إبراهيم أفندي: مصباح الساري ونزهة القاري، بيروت، الطبعة الأولى، 1272هـ=1856م، صفحة 108.
[4] Finkel, Caroline: Osman's Dream: The Story of the Ottoman Empire 1300-1923, John Murray, London, UK, Basic Books, New York, 2005., p. 43.
[5] Turnbull, Stephen R.: The Walls of Constantinople AD 324–1453, Osprey Publishing, Oxford, UK, 2012 (B)., p. 40.
[6] إينالچيك، خليل: تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار، ترجمة: محمد الأرناءوط، دار المدار الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 2002م.34.
[7] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، الصفحات 1/120، 121.
[8] رستم، أسد: الروم في سياستهم وحضارتهم ودينهم وثقافتهم وصلاتهم بالعرب، دار المكشوف، بيروت، الطبعة الأولى، 1955م.صفحة 2/265.
[9] شيمشيرغيل، أحمد: سلسلة تاريخ بني عثمان، ترجمة: عبد القادر عبداللي، مهتاب محمد، ثقافة للنشر والتوزيع، أبو ظبي-بيروت، الطبعة الأولى، 1438هـ=2017م.صفحة 2/37.
[10] İnal, Halil İbrahim: Osmanlı İmparatorluğu Tarihi, Nokta Kitap, İstanbul, 2008., p. 128.
[11] شيمشيرغيل، 2017 الصفحات 2/37، 38.
[12] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م. صفحة 154.
[13] أوزتونا، 1988 صفحة 1/121.
[14] فريد، 1981 صفحة 154.
[15] Vacalopoulos, Apostolos Euangelou: History of Macedonia 1354–1833, Translated: Peter Megann, Institute for Balkan Studies, Thessaloniki, 1973., pp. 59-64.
[16] Necipoğlu, Nevra: Byzantium Between the Ottomans and the Latins: Politics and Society in the Late Empire, Cambridge University Press, New York, USA, ‏2009., pp. 42-45.
[17] Stavrides, Theoharis: The Sultan of vezirs: the life and times of the Ottoman Grand Vezir Mahmud Pasha Angelovic (1453-1474), Brill Academic Publishers, Inc, Leiden, 2001., p. 405.
[18] هايد، ڨ.: تاريخ التجارة في الشرق الأدنى في العصور الوسطى، مراجعة وتقديم: عز الدين فودة، ترجمة: أحمد رضا محمد رضا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1994م. صفحة 3/138.
[19] Doukas: Decline and Fall of Byzantium to the Ottoman Turks, Translated: Harry J. Magoulias, Wayne State University Press, Detroit, USA, 1975., p. 171.
[20] Setton, Kenneth Meyer: The Papacy and the Levant (1204–1571), The American Philosophical Society, Philadelphia, USA, (Volume 2, The Fifteenth Century, 1978),, vol. 2, pp. 23-28.
[21] هايد، 1994 الصفحات 3/138، 139.
[22] Necipoğlu, Nevra: Byzantium Between the Ottomans and the Latins: Politics and Society in the Late Empire, Cambridge University Press, New York, USA, ‏2009., p. 50.
[23] فاتان، نيقولا: صعود العثمانيين 1362-1451م، ضمن كتاب: مانتران، روبير: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: بشير السباعي، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة–باريس، الطبعة الأولى، 1993م. صفحة 1/98.
[24] İnalcık, Halil: The Ottoman Turks and the Crusades, 1329-1451, In: Setton, Kenneth Meyer; Hazard, ‏Harry W. ‏& Zacour, Norman P.: A History of the Crusades, The University of Wisconsin Press, Madison, Wisconsin, USA, (vol. 6, The Impact of the Crusades on Europe, 1989) (A).vol. 6, p. 263.
[25] سرهنك، إسماعيل: حقائق الأخبار عن دول البحار، المطابع الأميرية، بولاق، مصر، الطبعة الأولى، 1312هـ=1895م. صفحة 1/500.
[26] إبراهيم، 1856، صفحة 108.
[27] Pálosfalvi, Tamás: From Nicopolis to Mohács: A History of Ottoman-Hungarian Warfare, 1389-1526, Brill, Leiden, Netherlands, 2018., p. 74.
[28] Nicolle, David: Armies of the Ottoman Turks 1300-1774, Osprey Publishing, London, 1983., p. 18.
[29] أوزتونا، 1988 صفحة 1/122.
[30] فاتان، 1993 صفحة 1/97.
[31] فريد، 1981 صفحة 154.
[32] أوزتونا، 1988 الصفحات 1/122، 123.
[33] Treptow, Kurt W.: Vlad III Dracula: The Life and Times of the Historical Dracula, The Center of Romanian Studies, First edition, 2000., p. 44.
[34] فريد، 1981 صفحة 155.
[35] Zlatar, Zdenko: The Poetics of Slavdom: The Mythopoeic Foundations of Yugoslavia, Peter Lang, Bern, Switzerland, 2007., pp. 557-558.
[36] 896. Pitcher, Donald Edgar: An historical geography of the Ottoman Empire from earliest times to the end of the sixteenth century with detailed maps to illustrate the expansion of the Sultanate, E. J. Brill, Leiden, Netherlands, 1973, p. 71.
[37] Cazacu, Matei: Dracula, Brill, Leiden, The Netherlands, 2017., pp. 98-99.
[38] Kazhdan, Aleksandr Petrovich; Ševčenko, Nancy Patterson; Cutler, Anthony; Talbot, Alice-Mary Maffry & Gregory, Timothy E.: Oxford Dictionary of Byzantium, Oxford University Press, New York, USA, 1991.., 1991, p. 656.
[39] Doukas, 1975, pp. 188-189.
[40] أوزتونا، 1988 صفحة 1/130.
[41] McCarthy, Justin: The Ottoman Turks: An Introductory History to 1923, Longman, London, UK, 1997., p. 62.
[42] Babinger, Franz: Mehmed the Conqueror and His Time, Princeton University Press, 1978., p. 14.
[43] Fine, John Van Antwerp: The Late Medieval Balkans: A Critical Survey from the Late Twelfth Century to the Ottoman Conquest, University of Michigan Press, Ann Arbor, Michigan, USA, 1994., p. 535.
[44] Engel, Pál: The Realm of St Stephen: A History of Medieval Hungary, 895–1526, I.B. Tauris Publishers, London, UK, 2001., p. 281.
[45] 566. Jefferson, John: The Holy Wars of King Wladislas and Sultan Murad: The Ottoman-Christian Conflict from 1438-1444, Brill, Leiden, The Netherlands, 2012, p. 236.
[46] Engel, 2001, p. 281.
[47] Bartl, Július & Skvarna, Dusan: Slovak History: Chronology & Lexicon, Bolchazy-Carducci Publishers, USA, 2002., p. 48.
[48] Jefferson, 2012, p. 242.
[49] Jaques, Tony: Dictionary of Battles and Sieges, Greenwood Press, Westport, CT, USA, 2007., vol. 1, p. 126.
[50] Boia, Lucian: History and Myth in Romanian Consciousness, Central European University (CEU) Press, Budapest, Hungary, 2001., pp. 135-136.
[51] Engel, 2001, p. 281.
[52] Engel, 2001, p. 285.
[53] Babinger, Franz: Mehmed the Conqueror and His Time, Princeton University Press, 1978., pp. 21- 22.
[54] Engel, 2001, p. 285.
[55] Imber, Colin: The Crusade of Varna, 1443-45, Ashgate, Hampshire, UK, 2006., pp. 9-31.
[56] Najemy, John M.: A History of Florence, 1200 – 1575, John Wiley & Sons, Hoboken, New Jersey, 2008., p. 287.
[57] Housley, Norman: The Crusade in the Fifteenth Century: Converging and competing cultures, Routledge, London, UK, 2016., p. 21.
[58] أوزتونا، 1988 صفحة 1/124.
[59] Imber, 2006, pp. 9-31.
[60] İnalcık, Halil: The Ottoman Turks and the Crusades, 1329-1451, In: Setton, Kenneth Meyer; Hazard, ‏Harry W. ‏& Zacour, Norman P.: A History of the Crusades, The University of Wisconsin Press, Madison, Wisconsin, USA, (vol. 6, The Impact of the Crusades on Europe, 1989) (A).vol. 6, p. 270.
[61] Fine, John Van Antwerp: The Late Medieval Balkans: A Critical Survey from the Late Twelfth Century to the Ottoman Conquest, University of Michigan Press, Ann Arbor, Michigan, USA, 1994., p. 548.
[62] Boyar, Ebru & Fleet, Kate: A Social History of Ottoman Istanbul, Cambridge University Press‏, NewYork, USA, 2010., p. 25.
[63] Kafadar, Cemal: Between Two Worlds: The Construction of the Ottoman State, University of California Press, Los Angeles, USA, 1996., p. xix.
[64] Imber, 2006, p. 51.
[65] Necipoğlu, 2009, p. 278.
[66] Imber, 2006, p. 16.
[67] Koller, Markus: Albania, In: Ágoston, Gábor & Masters, Bruce Alan: Encyclopedia of the Ottoman Empire, Infobase Publishing, New York, USA, 2009, p. 28.
[68] Noli, Fan Stilian: George Castrioti Scanderbeg (1405–1468), International Universities Press, New York, USA, 1947., p. 36.
[69] Elsie, Robert: A Biographical Dictionary of Albanian History, I. B. Tauris, London, UK, 2012., p. 127.
[70] Imber, 2006, pp. 9-31.
[71] Hodgkinson, Harry: Scanderbeg.. From Ottoman Captive to Albanian Hero, Centre for Albanian Studies, London, UK, 1999., p. 75.
[72] Király, Béla Kalman & Rothenberg, Gunther Erich: War and Society in East Central Europe: The fall of medieval kingdom of Hungary: Mohacs 1526 - Buda 1541, Brooklyn College Press, New York, USA, 1989., pp. 17-18.
[73] Imber, 2006, pp. 9-31.
[74] Dvornik, Francis: The Slavs in European History and Civilization, New Brunswick, NJ, USA, Rutgers University Press, 1962., p. 234.
[75] Papp, Sándor: The System of Autonomous Muslim and Christian Communities, Churches, and States in the Ottoman Empire, In: Kármán, Gábor & Kunčević, Lovro: The European Tributary States of the Ottoman Empire in the Sixteenth and Seventeenth Centuries (The Ottoman Empire and its Heritage), Brill, Boston, USA, 2013., p. 381.
[76] أوزتونا، 1988 صفحة 1/125.
[77] Somel, Selçuk Akşin: Historical Dictionary of the Ottoman Empire, Lanham, Maryland, USA, Scarecrow Press, , 2003 p. 199.
[78] Emiralioğlu, Pınar: Geographical Knowledge and Imperial Culture in the Early Modern Ottoman Empire, Ashgate publishing, Limited, Surrey, UK, 2014., p. 57.
[79] أوزتونا، 1988 صفحة 1/125.
[80] Dânişmend, İsmail Hâmi: Osmanlı devlet erkânı: Sadr-ı-a'zamlar (vezir-i-a'zamlar), şeyh-ül-islâmlar, kapdan-ı-deryalar, baş-defterdarlar, reı̂s-ül-küttablar, İstanbul, Türkiye Yayınevi, 1971., p. 10.
[81] Ágoston, Gábor: Grand Vizier, In: Ágoston, Gábor & Masters, Bruce Alan: Encyclopedia of the Ottoman Empire, Infobase Publishing, New York, USA, 2009 (E)., p. 236.
[82] أوزتونا، 1988 صفحة 1/125.
[83] Somel, 2003, p. 39.
[84] Bisaha, Nancy: Creating East and West: Renaissance Humanists and the Ottoman Turks, University of Pennsylvania Press, philadelaphia, Pennsylvania, USA, 2004., p. 24.
[85] İnalcık, 1989 (A), vol. 6, p. 273.
[86] Creighton, Mandell: A History of the Papacy During the Period of the Reformation, Longmans, Green and Co, London, UK, 1882., vol. 2, p. 249.
[87] شوجر، بيتر: أوروبا العثمانية 1354 – 1804، ترجمة: عاصم الدسوقي، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1998م. صفحة 31.
[88] İnalcık, 1989 (A), vol. 6, p. 273.
[89] Detrez, Raymond: Historical Dictionary of Bulgaria, Rowman & Littlefield Publishing Group, Lanham, Maryland, USA, Third Edition, 2015., pp. 513-514.
[90] İnalcık, 1989 (A), vol. 6, p. 274.
[91] أوزتونا، 1988 صفحة 1/127.
[92] Creighton, 1882, vol. 2, p. 249.
[93] Kia, Mehrdad: The Ottoman Empire: A Historical Encyclopedia, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2017., vol. 1, p. 124.
[94] أوزتونا، 1988 صفحة 1/126.
[95] Bisaha, 2004, p. 24.
[96] Babinger, Franz: Mehmed the Conqueror and His Time, Princeton University Press, 1978., pp. 37-38.
[97] Dvornik, 1962, p. 234.
[98] Detrez, 2015, pp. 513-514.
[99] أوزتونا، 1988 الصفحات 126، 127.
[100] فريد، 1981 صفحة 158.
[101] Mikaberidze, Alexander (Editor): Conflict and Conquest in the Islamic World: A Historical Encyclopedia, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2011 (A)., vol. 2, p. 620.
[102] Setton, 1978, vol. 2, pp. 82-107.
[103] Jefferson, 2012, pp. 400-487.
[104] Imber, 2006.
[105] Babinger, 1978, p. 40.
[106] Dvornik, 1962, p. 254.
[107] Babinger, 1978, p. 40.
[108] Creighton, 1882, vol. 2, p. 249.
[109] Finlay, George: A History of Greece from its Conquest by the Romans to the Present Time, B. C. 146 to A. D. 1864, The Clarendon Press, Oxford, UK, 1877., vol. 3, pp. 495-496.
[110] Vasiliev, Alexander A.: History of the Byzantine Empire, 324–1453, Madison, 1952., vol. 2, p. 643.
[111] Nicol, 1993, p. 346.
[112] Babinger, 1978, p. 48.
[113] أوزتونا، 1988 صفحة 1/127.
[114] Halecki, Oskar: From Florence to Brest 1439-1596, Sacrum Poloniae Millenium, Rom, Italy, 1958., pp. 75-76.
[115] Müller, Johannes von: The History of the World: from the Earliest Period to the Year of Our Lord 1783, Thomas H. Webb and CO, Boston, USA, 1842., vol. 3, p. 136.
[116] Engel, 2001, p. 288.
[117] Grygiel, Jakub J.: Great Powers and Geopolitical Change, The John Hopkins university press, Baltimore, USA, 2006., p. 106.
[118] Potkowski, Edward: Warna 1444 (in Polish), Bellona, Warsaw, Poland, 2004., pp. 210-211.
[119] Anderson, Perry: Passages from Antiquity to Feudalism, Verso, London, UK, 1974., pp. 292-293.
[120] أوزتونا، 1988 صفحة 1/127.
[121] İnalcık, 1989 (A), vol. 6, p. 274.
[122] Babinger, 1978, p. 41.
[123] Ágoston, 2009 (I), p. 399.
[124] Freely, John: Inside the Seraglio: Private Lives of the Sultans in Istanbul, Viking, New York, USA, 1999., p. 16.
[125] Middleton, John: World Monarchies and Dynasties, Routledge, New York, USA, 2015., p. 598.
[126] أوزتونا، 1988 صفحة 1/127.
[127] Mureşanu, Camil: John Hunyadi: Defender of Christendom, The Center for Romanian Studies, Iasi, Romanian, 2001., pp. 118-125.
[128] Teke, Zsuzsa: Hunyadi János és kora [John Hunyadi and his Times] (in Hungarian), Gondolat, Budapest, 1980., p. 154.
[129] Engel, 2001, p. 288.
[130] Hodgkinson, 1999, p. 81.
[131] Tibbetts, Jann: 50 Great Military Leaders of All Time, Vij Books, New Delhi, India, 2016., p. 567.
[132] Freely, 2009, p. 16.
[133] Babinger, 1978, p. 43.
[134] Ortega, Stephen: Negotiating Transcultural Relations in the Early Modern Mediterranean, Routledge, New York, USA, 2016., p. 116.
[135] Babinger, 1978, p. 44.
[136] Babinger, 1978, p. 43.
[137] Imber, 2019, p. 19.
[138] Mikaberidze, 2011 (A), vol. 2, p. 620.
[139] Middleton, 2015, p. 598.
[140] مسلم: باب كراهة الإمارة بغير ضرورة (1825) واللفظ له، وأبو داود (2868)، والنسائي (6494).
[141] Freely, 2009, p. 16.
[142] Babinger, 1978, p. 47.
[143] Babinger, 1978, p. 47.
[144] Fine, John Van Antwerp: The Late Medieval Balkans: A Critical Survey from the Late Twelfth Century to the Ottoman Conquest, University of Michigan Press, Ann Arbor, Michigan, USA, 1994., p. 554.
[145] Treptow, Kurt W.: Vlad III Dracula: The Life and Times of the Historical Dracula, The Center of Romanian Studies, First edition, 2000., p. 52.
[146] Gregory, Timothy E: The Hexamilion and the Fortress, American School of Classical Studies at Athens, Princeton, NJ, USA, 1993., vol. 5, p. 149.
[147] Nicol, 1993, p. 364.
[148] Babinger, 1978, p. 50.
[149] Venning, Timothy: A Chronology of the Byzantine Empire, palgrave Macmillan, Now York, USA, 2006., p. 719.
[150] Babinger, 1978, p. 50.
[151] Venning, 2006, p. 719.
[152] Andrews, Kevin: Castles of the Morea, American school of classical studies at Athens, Princeton, N. J, USA, 2006., p. 165.
[153] Nicol, 2002, p. 32.
[154] Boulanger, 1989, p. 145.
[155] Andrews, 2006, p. 165.
[156] Venning, 2006, p. 720.
[157] Francione, Gennaro: Skënderbeu, një hero modern: (Hero multimedial) [Skanderbeg, a modern hero (Hero multimedia)] (in Albanian), Editor: Donika Aliaj, Tasim Aliaj, Naim Frashëri, Tiranë, Albania, 2003., p. 74.
[158] Fox, Robert: The inner sea: the Mediterranean and its people, Alfred A. Knopf, New York, USA, 1993., p. 195.
[159] Babinger, 1978, p. 51.
[160] Tibbetts, 2016, p. 567.
[161] Hodgkinson, 1999, p. 102.
[162] Teke, 1980, p. 168.
[163] Babinger, 1978, pp. 51- 52.
[164] Rogers, Clifford J. (Editor): The Oxford Encyclopedia of Medieval Warfare and Military Technology, Oxford University Press, New York, USA, 2010., vol. 1, p. 471.
[165] Mureşanu, 2001, p. 152.
[166] Bennett, Matthew; Connolly, Peter; Gillingham, John & Lazenby, John: The Hutchinson Dictionary of Ancient and Medieval Warfare, Routledge, New York, USA, 1998., p. 182.
[167] Sedlar, Jean W.: East Central Europe in the Middle Ages, University of Washington Press, Seattle, USA, 1994., p. 248.
[168] Bennett, et al., 1998, p. 182.
[169] Babinger, 1978, p. 52.
[170] Babinger, 1978, p. 54.
[171] Cox, John K: The History of Serbia, Greenwood Publishing Group, westport, CT, USA, 2002., p. 29.
[172] Venning, 2006, p. 720.
[173] شيمشيرغيل، 2017 الصفحات 2/121، 122.
[174] فريد، 1981 صفحة 159.
[175] Engel, 2001, p. 291.
[176] Babinger, 1978, pp. 55-56.
[177] Freely, 2009, p. 18.
[178] Cartledge, Sir Bryan: The Will to Survive: A History of Hungary, Columbia University Press, New York, USA, 2011., p. 58.
[179] Engel, 2001, p. 291.
[180] Cazacu, 2017, p. 53.
[181] Babinger, 1978, p. 55.
[182] أوزتونا، 1988 صفحة 1/129.
[183] Bideleux, Robert & Jeffries, Ian: A History of Eastern Europe: Crisis and Change, Routledge, London, UK, 2006., p. 68.
[184] Engel, 2001, p. 291.
[185] Venning, 2006, p. 721.
[186] Nicol, 1992, p. 390.
[187] Gibbon, Edward: The History of the Decline and Fall of the Roman Empire, Claxton, Remsen & Haffelfinger, Philadelphia, 1872, vol. 6, p. 363.
[188] Francione, 2003, p. 87.
[189] Fine, 1994, p. 558.
[190] Noli, 1947, p. 43.
[191] Setton, 1978, vol. 2, p. 101.
[192] Francione, 2003, p. 89.
[193] Hodgkinson, 1999, p. 110.
[194] Hodgkinson, 1999, pp. 111-113.
[195] Francione, 2003, p. 92.
[196] Elsie, 2012, p. 397.
[197] Tibbetts, 2016, p. 569.
[198] Jaques, 2007, vol. 2, p. 548.
[199] أوزتونا، 1988 صفحة 1/129.
[200] آق كوندز، أحمد؛ وأوزتورك، سعيد: الدولة العثمانية المجهولة، وقف البحوث العثمانية، إسطنبول، 2008م.صفحة 120.
[201] السخاوي، شمس الدين أبو الخير محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عثمان بن محمد: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، دار الجيل، بيروت، 1412هـ=1992م. صفحة 10/152.
[202] Kissling, Hans Joachim: The Ottoman Empire to 1774, In: Kissling, Hans Joachim; Bagley, F. R. C.; Spuler, Bertold; Barbour, N.; Trimingham, J. S.; Braun, H. & Hartel, H.: The Muslim world, A Historical Survey: The Last Great Muslim Empires, translated: F. R. C. Bagley, Brill, Leiden, The Netherlands, 1969., vol. 3, p. 16.
[203] Finlay, 1877, vol. 3, p. 479.
[204] Anooshahr, 2009, pp. 150-151.
[205] Finkel, 2005, p. 46.
[206] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 1/ 179- 227.