الدعاة الصامتون
03-01-2013, 02:00 PM
الدعاة الصامتون
مزايا الدعوة الصامتة :
إننا حين ندعو إلى أن نكون دعاة لدين الله تبارك و تعالى صامتين بأحوالنا و مواقفنا وسيرنا ونستشهد بذلك بسيرة المصطفى وسيرة أصحابه ومواقف سلف الأمة من بعدهم، نجمع مع إدراك فضيلة التأسي والاقتداء تحصيل مزايا تمتاز بها هذه الدعوة الصامتة ، ومنها :
أولاً: أن الدعوة بالأحوال أبلغ من الدعوة بالقول ؛ فالمرء يستطيع أن يدبج المقال ، و يستطيع أن يحسن الحديث ، وأن يتفوه بما لا يعتقد ، لكن أن يكون ذلك المقال مصداقه حال ذلك الرجل وفعله فهي صورة أخرى وحالة أخرى. لقد أمر النبي الناس أن يحلقوا رؤوسهم وأن ينحروا بدنهم ، وما كان الذين أمرهم النبي من الذين يتلكؤون بالاستجابة وهم أسرع الناس مبادرة للاستجابة إلى أمره صلى الله عليه وسلم و طاعته ، لكن ذلك الأمر القولي أبلغ من حاله حين خرج وحلق ونحر ؛ فكان ذلك الفعل رسالة إلى الناس للاستجابة له صلى الله عليه وسلم ، و لهذا لما أرسل له صلى الله عليه وسلم يوم عرفة بقدح لبن شربه أمام الناس فكان أبلغ دلالة على أنه لم يكن صائماً.
ثانياً: الدعوة الصامتة تدرك من جميع الطبقات ؛ فالكلمة المسموعة أو المقروءة قد يفوق تأثيرها اختلاف المستويات أو مدارك الناس ، والذي يتحدث أمام من ينصت له ، أو يكتب لمن يقرأ له بجد نفسه بين خيارين ، إن حسَّن المقال و ارتفعت لغته فيكون هناك من لا يدرك هذا الكلام أو من لا يفهمه ، وإن كان مقاله دون ذلك شعر المخاطَب أن هذا نزولاً بالكلمة عما تليق بها. أما الذي يدعو الناس بحاله فهو يدعو بدعوة يدركها الجميع و يفهمون مغزاها.
ثالثاً: إن الكلام له أثر عظيم على النفوس ، وكم تترك الكلمة الصادقة من أثر ؟ بل كم تصنع من مواقف ؟ لكن الكلمة الصادقة مهما كانت تبقى عرضة للنسيان ، إنها تبقى فترة ثم تزول ، أما الموقف فإنه يبقى في الذاكرة لا يزول أبداً ، إن النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم كان مع أصحابه فرأى جارية من السبي تأتي لرضيعها و تضمه و ترضعه ؛ فيثيره الموقف صلى الله عليه وسلم وهو الرجل الذي كانت قضية الدعوة وقضية التعليم قضية حية في ضميره صلى الله عليه وسلم فيخاطب أصحابه قائلاً لهم : "أترون هذه طارحة ولدها في النار"؟ فيقول أصحابه : لا ، فيقول صلى الله عليه وسلم :"لله أرحم بعبده من هذه بولدها" فيمضي هذا الموقف ، إن الذين سمعوا الكلمة من النبي صلى الله عليه وسلم ربما ينسون حديثاً منه صلى الله عليه وسلم أما إذا رأوا امرأة ترضع ابنها فإنهم يتذكرون ذلك الموقف الذي سمعوا فيه تلك الكلمة منه صلى الله عليه وسلم.
رابعاً: إن الكلمة أيضاً تترك أثراً على الناس و تدعوهم إلى العمل والسلك ، لكن ربما يظن البعض من الناس أن هذه الصور التي يتحدث عنها المتحدث أنها صورة مثالية يصعب تطبيقها ، و إذا أمكن تطبيقها فهي في هذا الزمان الذي مرجت فيه العهود وفسد فيه الناس تستعصي على التطبيق ، أما حين تكون دعوة في الحال و موقفاً يراه الناس فإنها دعوة لكل من يرى هذا الموقف أن هذه الصورة يمكن أن تحدث ، إن الذي يسمع عن مواقف الاستشهاد في سبيل الله ربما يهزه هذا الموقف لكنه قد يشعر أن النفوس البشرية لا تطيق هذا القدر من التضحية ، أما حين يرى هذه النماذج أمام عينه فسيدرك أن هذه القضية ترقى إلى ميدان الواقع ، إنه حين يسمع عن الإنفاق في سبيل الله فيرى من يجود بماله، سيترك أثراً في نفسه أقوى بكثير من أثر الكلمة مهما عظمت فصاحتها.
و لهذا اختار الله تعالى أن يكون أنبياؤه من البشر يأكلون الطعام و يمشون في الأسواق ليكونوا قدوة وأسوة للناس.
خامساً: الدعوة الصامتة أعظم إجابة على سبل المضلين والمفسدين ، إن الصراع لا يمكن أن يقف بين أهل الحق و الباطل و ما يلبث أهل الباطل أن يثيروا الشبهات أمام دعاة الحق فيتهمونهم بأبشع التهم ، وهي تهم ورثوها من فرعون حين قال: ((ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو يظهر في الأرض الفساد)), لقد كانوا يتهمون الأنبياء بأنهم سحرة و مجانين وأن أتباعهم ضعفاء ، و اتهموا النبي صلى الله عليه وسلم أنه صابئ و أنه مجنون و ساحر ، و أنه يفرق بين المرء وزوجه ، وما يزال المفسدون الأفاكون الظالمون يثيرون الشبه والتهم على من يتبع سنة الأنبياء ويسير على طريقتهم ؛ فحين تكون حال هؤلاء حالاً صادقة للناس يصبح ذلك أعظم إجابة على كذب هؤلاء وإفكهم.
ما هي مجالات الدعوة الصامتة ؟
1- القدوة والأسوة الحسنة وقد مر بنا نماذج كثيرة تغني عن الاستطراد.
2- التفوق في مجالات الحياة المختلفة ؛ فحين يكون الصالحون والدعاة إلى الله عز وجل هم المتفوقون في مجالات الحياة المختلفة ، فهم المتفوقون في دراستهم و في ميادين العمل ، وهم العاملون الصادقون الذين إذا دخلوا إلى مجال فهم المتفوقون دوماً ، فإن هذا يعطي دلالة على أن هؤلاء صادقون ، وهذا يثبت للناس بطلان ما يسعى إليه الأعداء حين يحاولون أن يفسروا هذه الصحوة بأنها إفراز لحالة نفسية و اقتصادية.
3- الإحسان إلى الناس وتقديم البر لهم والخدمة، لقد كان صلى الله عليه وسلم كما حكت عنه زوجه : يكرم الضيف، ويعين على نوائب الحق، وكان يشفع للناس ويحسن حتى إلى الحيوان، فعندما رأى جملاً قد احدودب ظهره زرفت عينا الجمل إذ رأى في قلبه الرحمة والإحسان فيأتي إليه صلى الله عليه وسلم فيسأل :"أين صاحب هذا الجمل ؟" فيقول: أنا. فيقول: "اتق الله؛ فإنه شكى إلي أنك تجيعه و تتعبه". إن النبي صلى الله عليه وسلم يرسم لنا الأسوة والقدوة في أن نحسن إلى الناس، وأن نسعى إلى تبني قضاياهم وهو من قبله، فهاهو يوسف عليه السلام يقول له أصحابه ((نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين)), فقد رأيا فيه الإحسان إليهما، فالإحسان باب من أبواب الخير، و طريق للتعرف على الناس فيعرف الناس بأن هؤلاء صادقون وأنهم مخلصون.
4- كظم الغيظ و التنازل عن الحقوق الشخصية يقول تعالى :((و لا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم)). ويقول تعالى: ((والكاظمين الغيظ و العافين عن الناس)) ،حين يعرف الناس عنا أنا نتنازل عن الحقوق الشخصية ونعفو عمن ظلمنا بل نحسن إليه سيترك ذلك أثره فيهم. حين فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة وتمكن من أعدائه الذين فعلوا معه ما فعلوا وآذوه و أخرجوه، وكانوا يظنون أن هذا الموقف سيكون فيه حتفهم فأطلقهم صلى الله عليه وسلم وعفا عنهم، وكان ذلك من أعظم الأسباب في دخول كثير منهم في الإسلام؛ لأنهم عرفوا منه الصدق والأمانة والعفو والإحسان قبل أن ينبَّأ، و عرفوا منه ذلك بعد أن نُبَّيءَ وأرسل. وعرفوا منه ذلك بعد أن عادوه و آذوه، وهاهو أحد الصحابة يقول كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء آذوه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه و يقول :((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)).
5- الصدق في الدعوة ورفع شعار الخير والصلاح، في صلح الحديبية جاء رجل من بني كنانة موفداً من قريش، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له" فبعثت له؛ فاستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: "سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، ورجع من فوره دون أن يسمع كلمة واحدة من النبي صلى الله عليه وسلم.
6- العاطفة الصادقة المتوقدة في النفس الداعية، وهي إفراز لمشاعر صادقة تكمن في نفسه ما تلبث أن تبدو على أرض الواقع، وعلى سلوكه وفي قسمات وجهه؛ فيقرأها كل من يراه لتترك أثراً يفوق ألف خطبة و ألف محاضرة، ويشعر الناس الذين يتعاملون مع هذا الصنف من الناس بما يحركهم ويدفعهم من الداخل، وما نزال نسمع الكثير ممن يتحدث عن العاطفة حديث الذم و النقد، حتى صار من مراتب الجرح والتنقص أن يقال عن شخص إنه عاطفي متحمس، وهذا الذم لهذا الصنف صار مهرباً لبعض من قد تبلد حسه تجاه المنكرات ومصائب الأمة، فصار حين يطلب منه التفاعل أو تُشتكى إليه الحال يتنهد قائلاً إن الأمور لا تحل بالعواطف ولا تعالج بالحماس، نعم إن الإغراق في العواطف مرفوض، والانطلاق وراء الحماس وحده تهور، لكن الدعوة إلى إلغاء ذلك كله تطرف هو الآخر، ولعل سائل يتساءل هل خلق الله تعالى هذه العواطف عند الناس عبثاً، لم يعد يقبل أهل الطب اليوم أن يكون هناك عضو لا يؤدي دوراً فكيف يقبل أن تكون هذه المشاعر المشتركة لدى العامة من الناس ـ والتي تمثل وقوداً للأعمال و مواقف شتى يقوم بها المرء ـ عبثاً لا فائدة منه و يذم المرء حين يتصف به. إننا حين نذم أولئك الذين يتهورون والذين لا يدفعهم إلا الحماس غير المنتظم، إن هذا لا يقودنا أبداً إلى أن نعذر أولئك المثبطين القاعدين الذين قد تبلد حسهم وماتت أرواحهم، وهم يرون الأمة تُنحر، فهم قد ارتكبوا منكراً آخر قد يكون أشد من منكر أولئك ألا وهو السكوت والقعود عن الحق.
7- المواقف المتميزة التي تشكل صدى لدى معاصريها و معايشيها، وتمتد بعد ذلك عبر أفق الزمن لتخترق حواجزه وتصبح منارة للأجيال، إنك لو تصفحت سير الصحابة فستجد عبارات بالأمر بالصبر و الوصاة به بالأمر بالثبات على المبدأ، لكن ذلك لم يكن مثل المواقف التي سطروها رضوان الله عليهم بالصبر على البلاء و المضايقة، فلا يزال في ذاكرة المسلمين أجمع وما يفتأ الخطباء والمتحدثون يرددون صوراً من صبر بلال وعمار، وتضحية ياسر وسمية، لا يزال هؤلاء يتذكرون تلك الصور، وتترك في نفوسهم أثرا لا تقاربه الأقوال والعبارات.وهكذا تبقى المواقف الصادقة منارة للجيل يقرأها المعاصرون فيكون هؤلاء الذين وقفوا هذه المواقف دعاة للأمة بمواقفهم، ثم يبقون بعد ذلك دعاة للجيل من بعدهم.
هذا و صلى الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم